وفي المنتخب ما نصه : وإنما قال هنا : ( ولن يتمنوه ) ، وفي الجمعة ( ولا يتمنونه ) ؛ لأن دعواهم هنا أعظم من دعواهم هناك ؛ لأن السعادة القصوى فوق مرتبة الولاية ؛ لأن الثانية تراد لحصول الأولى ، ولن أبلغ في النفي من لا ، فجعلها النفي الأعظم . انتهى كلامه . قال المهدوي في كتاب : التحصيل من تأليفه : وهذه المعجزة إنما كانت على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم ارتفعت بوفاته - صلى الله عليه وسلم - ونظير ذلك رجل يقول لقوم حدثهم بحديث : دلالة صدقي أن أحرك يدي ولا يقدر أحد منكم أن يحرك يده ، فيفعل ذلك ، فيكون دليلا على صدقه ، ولا يبطل دلالته إن حركوا أيديهم بعد ذلك . انتهى كلامه ، وقد قاله غيره من المفسرين .
قال ابن عطية : والصحيح أن هذه النازلة من موت من تمنى الموت ، إنما كانت أياما كثيرة عند نزول الآية ، وهي بمنزلة دعائه النصارى من أهل نجران إلى المباهلة ، انتهى كلامه . وكلا القولين ، أعني قول المهدوي وابن عطية ، مخالف لظاهر القرآن ؛ لأن أبدا ظاهره أن يستغرق مدة أعمارهم ، كما بينا . وهل امتناعهم من تمني الموت كان لعلمهم أن كل [ ص: 312 ] نبي عرض على قومه أمرا وتوعدهم عليه بالهلاك فردوه تكذيبا له ، فإن ما توعدهم به واقع لا محالة ؟ أو لعلمهم بصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه لا يقول على الله إلا الحق ؟ أو لصرف الله إياهم عن ذلك ، كما قيل في عدم معارضة القرآن بالصرفة ؟ أقوال ثلاثة . والظاهر أن ذلك معلل ( بما قدمت أيديهم ) . والذي قدمته أيديهم : تكذيبهم الأنبياء ، وقتلهم إياهم ، وقولهم : ( أرنا الله جهرة ) ، وقولهم : ( اجعل لنا إلها ) ، وقولهم : ( فاذهب أنت وربك ) ، واعتداؤهم في السبت ، وسائر الكبائر التي لم تصدر من أمة قبلهم ولا بعدهم . وهذا التمني الذي طلب منهم ، ونفي عنهم ، لم يقع أصلا منهم ، إذ لو وقع لنقل ، ولتوفرت دواعي المخالفين للإسلام على نقله .
وقد تقدمت الأقوال في تفسير التمني ، والظاهر أنه لا يعني به هنا العمل القلبي ؛ لأنه لا يطلع عليه ، فلا يتحدى به ، وإنما عنى به القول اللساني كقولك : ليت الأمر يكون . ألا ترى أنه يقال لقائل ذلك تمنى ؟ وتسمى ليت كلمة تمن ، ولم ينقل أيضا أنهم قالوا : تمنينا ذلك بقلوبنا ، ولا جائز أن يكون امتناعهم من الإخبار أنهم تمنوا بقلوبهم كونهم لا يصدقون في ذلك ، لأنهم قد قاولوا المسلمين بأشياء لا يصدقونهم فيها ، من الافتراء على الله ، وتحريف كتابه ، وغير ذلك . وقال الماتريدي ما ملخصه : أن المؤمن يقول : إن الجنة له ، ومع ذلك ليس يتمنى الموت . وأجاب : بأنه لم يجعل لنفسه من المنزلة عند الله من ادعاء بنوة ومحبة من الله لهم ما جعلته اليهود ؛ لأن جميع المؤمنين ، غير الأنبياء ، لا يزول عنهم خوف الخاتمة . والخاطئ منهم مفتقر إلى زمان يتدارك فيه تكفير خطئه . فلذلك لم يتمن المؤمنون الموت . ولذلك كان المبشرون بالجنة يتمنونه . وذكروا في " ما " من قوله : ( بما قدمت ) ، أنها تكون مصدرية ، والظاهر أنها موصول ، والعائد محذوف ، وهي كناية عما اجترحوه من المعاصي السابقة . ونسب التقديم لليد مجازا ، والمعنى بما قدموه ، إذ كانت اليد أكثر الجوارح تصرفا في الخير والشر . وكثر هذا الاستعمال في القرآن : ( ذلك بما قدمت يداك ) ، ( بما قدمت أيديكم ) ، ( فبما كسبت أيديكم ) . وقيل : المراد اليد حقيقة هنا ، والذي قدمته أيديهم هو تغيير صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان ذلك بكتابة أيديهم .
( والله عليم بالظالمين ) : هذه جملة خبرية ، ومعناها : التهديد والوعيد ، وعلم الله متعلق بالظالم وغير الظالم . فالاقتصار على ذكر الظالم يدل على حصول الوعيد . وقيل : معناه مجازيهم على ظلمهم ، فكنى بالعلم عن الجزاء ، وعلق العلم بالوصف ليدل على العلية ، والألف واللام في الظالمين للعهد ، فتختص باليهود الذين تقدم ذكرهم ، أو للجنس ، فتعم كل ظالم . وإنما ذكر الظالمين ؛ لأن الظلم هو تجاوز ما حد الله ، ولا شيء أبلغ في التعدي من ادعاء خلوص الجنة لمن لم يتلبس بشيء من مقتضياتها ، وانفراده بذلك دون الناس .
( ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ) : الخطاب هنا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ووجد هنا متعدية إلى مفعولين : أحدهما الضمير ، والثاني " أحرص الناس " . وإذا تعدت إلى مفعولين كانت بمعنى علم المتعدية إلى اثنين ، كقوله تعالى : ( وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ) . وكونها هنا تعدت إلى مفعولين ، هو قول من وقفنا على كلامه من المفسرين . ويحتمل أن يكون وجد هنا بمعنى لقي وأصاب ، ويكون انتصاب أحرص على الحال ، لكن لا يتم هذا إلا على مذهب من يرى أن إضافة أفعل التفضيل ليست بمحضة ، وهو قول الفارسي . وقد ذهب إلى ذلك من أصحابنا الأستاذ أبو الحسن بن عصفور . أما من قال بأنها محضة ، ولا يجيز في الحال أن تأتي معرفة ، فلا يجوز عنده في أحرص النصب على الحال . و " أحرص " هنا هي أفعل التفضيل ، وهي مؤولة . بمعنى من ، وقد أضيف إلى معرفة ، فيجوز فيها الوجهان : أحدهما : أن يفرد مذكره ، وإن كانت جارية على فرد ومثنى ومجموع ، ومذكر ومؤنث . والثاني : أن يطابق ما قبلها . فمن الوجه الأول " أحرص الناس " ولو جاء على المطابقة ، لكان أحارص الناس ، أو أحرصي الناس . ومن الوجه الثاني قوله : ( أكابر مجرميها ) ، [ ص: 313 ] كلا الوجهين فصيح . وذكر أن المطابقة أفصح من الإفراد . وذهب أبو منصور الجواليقي ابن السراج إلى تعين الإفراد ، وليس بصحيح . وإذا أضيفت إلى معرفة ، كهذين الموضعين ، فشرط ذلك أن يكون بعض ما يضاف إليه ، ولذلك منع البصريون : يوسف أحسن إخوته ، على أن يكون أحسن أفعل التفضيل ، وتأولوا ما ورد مما يشبهه ، وشذ نحو قوله :
يا رب موسى أظلمي وأظلمه
يريد : أظلمنا حيث لم يضل أظلم إلى ما هو بعضه . والضمير المنصوب في ولتجدنهم عائد على اليهود الذين أخبر عنهم بأنهم لا يتمنون الموت ، أو على جميع اليهود ، أو على علماء بني إسرائيل أقوال ثلاثة . وأتى بصيغة أفعل من الحرص مبالغة في شدة طلبهم للبقاء ودوام الحياة . والناس : الألف واللام للجنس فتعم ، أو للعهد . إما لأن يكون المراد جماعة من الناس معروفين غلب عليهم الحرص على الحياة ، أو لأن يكون المراد بذلك المجوس ، أو مشركي العرب ؛ لأن أولئك لا يوقنون ببعث ، فليس عندهم إلا نعيم الدنيا ، أو بؤسها ، ولذلك قال بعضهم :
تمتع من الدنيا فإنك فان من النشوات والنسا الحسان
وقال آخر :
إذا انقضت الدنيا وزال نعيمها فما لي في شيء سوى ذاك مطمع
( على حياة ) : قدروا فيه أنه على حذف مضاف ، أي على طول حياة ، أو على حذف صفة ، أي على حياة طويلة . ولو لم يقدر حذف لصح المعنى ، وهو أن يكون أحرص الناس على مطلق حياة ؛ لأن من كان أحرص على مطلق حياة ، وهو تحققها بأدنى زمان ، فلأن يكون أحرص على حياة طويلة أولى ، وكانوا قد ذموا بأنهم أشد الناس حرصا على حياة ، ولو ساعة واحدة . وقرأ أبي : على الحياة ، بالألف واللام . قال ما معناه : قراءة التنكير أبلغ من قراءة الزمخشري أبي ؛ لأنه أراد حياة مخصوصة ، وهي الحياة المتطاولة . انتهى . وقد بينا أنه لا يضطر إلى هذه الصفة .
( ومن الذين أشركوا ) يجوز أن يكون متصلا داخلا تحت أفعل التفضيل ، فيكون ذلك من الحمل على المعنى ؛ لأن معنى أحرص الناس : أحرص من الناس . ويحتمل أن يكون ذلك من باب الحذف ، أي وأحرص من الذين أشركوا ، فحذف أحرص لدلالة أحرص الأول عليه . والذين أشركوا : المجوس ، لعبادتهم النور والظلمة . وقيل : النار ، أو مشركو العرب لعبادتهم الأصنام واتخاذهم آلهة مع الله أو قوم من المشركين كانوا ينكرون البعث ، كما قال تعالى : ( يقولون أئنا لمردودون في الحافرة أئذا كنا عظاما نخرة ) . وعلى هذه الأقوال يكون : ( ومن الذين أشركوا ) تخصيصا بعد تعميم ، إذا قلنا : إن قوله : " أحرص الناس " عام ، ويكون في ذلك أعظم توبيخ لليهود ، إذ هم أهل كتاب يرجون ثوابا ويخافون عقابا ، وهم مع ذلك أحرص ممن لا يرجو ذلك ولا يؤمن ببعث . وإنما كان حرصهم أبلغ لعلمهم بأنهم صائرون إلى العقاب ، فكانوا أحب الناس في البعد منه ؛ لأن من توقع شرا كان أنفر الناس عنه ، فلما كانت الحياة سببا في تباعد العقاب ، كانوا أحرص الناس عليها . وعلى هذا الذي تقرر من اتصال ، ومن الذين أشركوا بأفعل التفضيل ، فلا بد من ذكر من ؛ لأن أحرص الناس جرى على اليهود ، فلو عطفت بغير من لكان معطوفا على الناس ، فيكون في المعنى : ولتجدنهم أحرص الذين أشركوا ، فكان أفعل يضاف إلى غير ما اندرج تحته ؛ لأن اليهود ليسوا من المشركين ، أعني المشركين الذين فسر بهم الذين أشركوا هنا ، لا إذا قلنا : إن الثواني في العطف يجوز فيها ما لا يجوز في الأوائل ، فإنه يصح ذلك . وأما قول من زعم أن قوله : ( ومن الذين أشركوا ) معطوف على الضمير في قوله : ولتجدنهم ، أي ولتجدنهم وطائفة من الذين أشركوا أحرص الناس على حياة ، فيكون في [ ص: 314 ] الكلام تقديم وتأخير . فهو معنى يصح ، لكن اللفظ والتركيب ينبو عنه ويخرجه عن الفصاحة ، ولا ضرورة تدعو إلى أن يكون ذلك من باب التقديم والتأخير ، لا سيما على قول من يخص التقديم والتأخير بالضرورة .
وهذا البحث كله على تقدير أن تكون الواو في : ( ومن الذين أشركوا ) لعطف مفرد على مفرد ، وأما إذا كانت لعطف الجمل ، فيكون إذ ذاك منقطعا من الدخول تحت أفعل التفضيل ، ويكون ابتداء إخبار عن قوم من المشركين يودون طول الحياة أيضا . وتقدم أن المعني بالذين أشركوا : أهم المجوس ؟ أم مشركو العرب ؟ أم قوم من المشركين في الوجه الأول ؟ وأما على أن يكون استئناف إخبار ، فقالابن عطية : هم المجوس ؛ لأن تشميتهم للعاطس بلغتهم معناه : عش ألف سنة . وفي هذا القول تشبيه لبني إسرائيل بهذه الفرقة من المشركين . انتهى كلامه . قال : والذين أشركوا على هذا ، أي على أنه كلام مبتدأ ، مشار به إلى اليهود ، لأنهم قالوا الزمخشري عزير ابن الله . انتهى كلامه .
فعلى هذا القول ، يكون قد أخبر أن من هذه الطائفة التي اشتد حرصها على الحياة من ( يود ) لو عمر ألف سنة ، فيكون ذلك نهاية في تمني طول الحياة ، ويكون الذين أشركوا من وقوع الظاهر المشعر بالعلية موقع المضمر ، إذ المعنى : ومنهم قوم يود أحدهم ، ويود أحدهم صفة لمبتدأ محذوف ، أي ومن الذين أشركوا قوم يود أحدهم ، وهذا من المواضع التي يجوز حذف الموصوف فيها ، كقوله تعالى : ( وما منا إلا له مقام معلوم ) ، ( وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ) ، وكقول العرب : منا ظعن ومنا أقام ، وعلى أن تكون الواو في ( ومن الذين أشركوا ) لعطف المفرد على المفرد ، قالوا : ويكون قوله : ( يود أحدهم ) جملة في موضع الحال ، أي وادا أحدهم ، قالوا : ويكون حالا من الذين ، فيكون العامل " أحرص " المحذوف ، أو من الضمير في أشركوا ، فيكون العامل أشركوا . ويجوز أن يكون حالا من الضمير المنصوب في ولتجدنهم ، أي ولتجدنهم الأحرصين على الحياة وادا أحدهم ، ويجوز أن يكون استئناف إخبار عنهم يبين حال أمرهم في ازدياد حرصهم على الحياة .
( أحدهم ) : أي واحد منهم ، وليس أحد هنا هو الذي في قولهم ما قام أحد ؛ لأن هذا مستعمل في النفي أو ما جرى مجراه . والفرق بينهما أن أحدا هذا أصوله همزة وحاء ودال ، وأصول ذلك واو وحاء ودال . فالهمزة في أحدهم بدل من واو ، ولا يراد بقوله : ( يود أحدهم ) أي يود واحد منهم دون سائرهم ، وإنما أحدهم هنا عام عموم البدل ، أي هذا الحكم عليهم بودهم أن يعمروا ألف سنة ، هو يتناول كل واحد واحد منهم على طريقة البدل . فكان المعنى أنك إذا نظرت إلى حرص واحد منهم ، وشدة تعلق قلبه بطول الحياة ، وجدته لو عمر ألف سنة .
( لو يعمر ألف سنة ) : مفعول الودادة محذوف تقديره : يود أحدهم طول العمر . وجواب لو محذوف تقديره : لو يعمر ألف سنة لسر بذلك ، فحذف مفعول يود لدلالة لو يعمر عليه ، وحذف جواب لو لدلالة يود عليه . هذا هو الجاري على قواعد البصريين في مثل هذا المكان . وذهب بعض الكوفيين وغيرهم في مثل هذا إلى أن لو هنا مصدرية بمعنى أن ، فلا يكون لها جواب ، وينسبك منها مصدر هو مفعول يود ، كأنه قال : يود أحدهم تعمير ألف سنة . فعلى هذا القول لا يكون في الكلام حذف ، وعلى القول الأول لا يكون لقوله : ( لو يعمر ألف سنة ) محل إعراب . وعلى القول الثاني محله نصب على المفعول ، كما ذكرنا ، والترجيح بين القولين هو مذكور في علم النحو . قال : فإن قلت : كيف اتصل لو يعمر بيود أحدهم ؟ قلت : هو حكاية لودادتهم ، ولو في معنى التمني ، وكان القياس لو أعمر ، إلا أنه جرى على لفظ الغيبة لقوله : يود أحدهم ، كقولهم : حلف بالله ليفعلن . انتهى كلامه . وفيه بعض إبهام ، وذلك أن " يود " فعل قلبي ، وليس فعلا قوليا ، ولا معناه معنى القول . وإذا كان كذلك ، [ ص: 315 ] فكيف تقول هو حكاية لودادتهم ؟ إلا أن ذلك لا يسوغ إلا على تجوز ، وذلك أن يجري يود مجرى يقول ؛ لأن القول ينشأ عن الأمور القلبية ، فكأنه قال : يقول أحدهم عن ودادة من نفسه لو أعمر ألف سنة . ولا تحتاج لو ، إذا كانت للتمني ، إلى جملة جوابية ، لأن معناها معنى : يا ليتني أعمر ، وتكون إذ ذاك الجملة في موضع مفعول على طريق الحكاية . فتلخص بما قررناه في لو ثلاثة أقوال : أن تكون حرفا لما كان سيقع لوقوع غيره ، وأن تكون مصدرية ، وأن تكون للتمني محكية . ومعنى " ألف سنة " : العمر الطويل في أبناء جنسه ، فيكون " ألف سنة " كناية عن الزمان الطويل ، ويحتمل أن يريد ألف سنة حقيقة ، وإن كان يعلم أنه لا يعيش ألف سنة ؛ لأن التمني يقع على الجائز والمستحيل عادة أو عقلا ، فيكون هذا معناه أنهم لشدة حرصهم في ازدياد الحياة يتعلق تمنيهم في ذلك بما لا يمكن وقوعه عادة . الزمخشري
( وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ) : الضمير من قوله : و " ما هو " عائد على أحدهم ، وهو اسم ما ، وبمزحزحه خبر ما فهو في موضع نصب ، وذلك على لغة أهل الحجاز . وعلى ذلك ينبغي أن يحمل ما ورد في القرآن من ذلك ، و " أن يعمر " فاعل بمزحزحه ، أي وما أحدهم مزحزحه من العذاب تعميره . وجوزوا أيضا في هذا الوجه ، أعني : أن يكون الضمير عائدا على " أحدهم " ، أن يكون هو مبتدأ ، وبمزحزحه خبرا . وأن يعمر فاعل بمزحزحه ، فتكون ما تميمية . وهذا الوجه ، أعني : أن تكون ما تميمية هو الذي ابتدأ به ابن عطية . وأجازوا أن يكون هو ضميرا عائدا على المصدر المفهوم من قوله : ( لو يعمر ) ، وأن يعمر بدل منه ، وارتفاع هو على وجهيه من كونه اسم ما أو مبتدأ . وقيل : هو كناية عن التعمير ، وأن يعمر بدل منه ، ولا يعود هو على شيء قبله . والفرق بين هذا القول والذي قبله ، أن مفسر الضمير هنا هو البدل ، ومفسره في القول الأول هو المصدر الدال عليه الفعل في لو يعمر . وكون البدل يفسر الضمير فيه خلاف ، ولا خلاف في تفسير الضمير بالمصدر المفهوم من الفعل السابق . فهذا يفسره ما قبله ، وذاك يفسره ما بعده . وهذا الذي عنى بقوله : ويجوز أن يكون هو مبهما ، وأن يعمر موضحه . يعني : أن يكون هو لا يعود على شيء قبله ، وأن يعمر بدل منه وهو مفسر . وأجاز أبو علي الفارسي في الحلبيات أن يكون هو ضمير الشأن ، وهذا ميل منه إلى مذهب الزمخشري الكوفيين ، وهو أن مفسر ضمير الشأن ، وهو المسمى عندهم بالمجهول ، يجوز أن يكون غير جملة إذا انتظم إسنادا معنويا نحو : ظننته قائما زيدا ، وما هو بقائم زيد ، فهو مبتدأ ضمير مجهول عندهم ، وبقائم في موضع الخبر ، وزيد فاعل بقائم . وكان المعنى عندهم : ما هو يقوم زيد ، ولذلك أعربوا في : ظننته قائما زيدا ، الهاء ضمير المجهول ، وهي مفعول ظننت ، وقائما المفعول الثاني ، وزيد فاعل بقائم . ولا يجوز في مذهب البصريين أن يفسر إلا بجملة مصرح بجزأيها سالمة من حرف جر . قال ابن عطية : وحكى عن فرقة أنها قالت : هو عماد . انتهى كلامه ، ويحتاج [ ص: 316 ] إلى تفسير ، وذلك أن العماد في مذهب بعض الطبري الكوفيين يجوز أن يتقدم مع الخبر على المبتدأ ، فإذا قلت : ما زيد هو القائم ، جوزوا أن تقول : ما هو القائم زيد . فتقدير الكلام عندهم ، وما تعميره هو بمزحزحه . ثم قدم الخبر مع العماد ، فجاء : وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ، أي تعميره ، ولا يجوز ذلك عند البصريين ؛ لأن شرط الفصل عندهم أن يكون متوسطا . وتلخص في هذا الضمير : أهو عائد على " أحدهم " ؟ أو على المصدر المفهوم من يعمر ؟ أو على ما بعده من قوله أن يعمر ؟ أو هو ضمير الشأن ؟ أو عماد ؟ أقوال خمسة ، أظهرها الأول .
( والله بصير بما يعملون ) : قرأ الجمهور يعملون بالياء ، على نسق الكلام السابق . وقرأ الحسن وقتادة والأعرج ويعقوب بالتاء ، على سبيل الالتفات والخروج من الغيبة إلى الخطاب . وهذه الجملة تتضمن التهديد والوعيد ، وأتى هنا بصفة بصير ، وإن كان الله تعالى متنزها عن الجارحة ، إعلاما بأن علمه - بجميع الأعمال - علم إحاطة وإدراك للخفيات . وما : في بما ، موصولة ، والعائد محذوف ، أي يعملونه . وجوزوا فيها أن تكون مصدرية أي بعملهم ، وأتى بصيغة المضارع ، وإن كان علمه تعالى محيطا بأعمالهم السالفة والآتية لتواخي الفواصل .
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة الامتنان على بني إسرائيل وتذكارهم بنعم الله ، إذ آتى موسى التوراة المشتملة على الهدى والنور ، ووالى بعده بالرسل لتجديد دين الله وشرائعه ، وآتى عيسى الأمور الخارقة ، من إحياء الأموات ، وإبراء الأكمه والأبرص ، وإيجاد المخلوق ، ونفخ الروح فيه ، والإنباء بالمغيبات ، وغير ذلك . وأيده بمن ينزل الوحي على يديه ، وهو جبريل - عليه السلام - ثم مع هذه المعجزات والنعم كانوا أبعد الناس عن قبول ما يأتيهم من عند الله ، وكانوا بحيث إذا جاءهم رسول بما لا يوافقهم ، بادروا إلى تكذيبه ، أو قتلوه ، وهم غير مكترثين بما يصدر منهم من الجرائم ، حتى حكي أنهم في أثر قتلهم الجماعة من الأنبياء ، تقوم سوق البقل بينهم ، التي هي أرذل الأسواق ، فكيف بالأسواق التي تباع فيها الأشياء النفيسة ؟ ثم نعى تعالى عليهم أنهم باقون على تلك العادة من تكذيب ما جاء من عند الله ، وإن كانوا قبل مجيئه به يذكرون أنه يأتيهم من عند الله . فحين وافاهم ما كانوا ينتظرونه ويعرفونه ، كفروا به ، فختم الله عليهم باللعنة . وأن سبب طردهم عن رحمة الله هو ما سبق من كفرهم ، وأن إيمانهم كان قليلا ، إذ كانوا قبل مجيء الكتاب يؤمنون بأنه سيأتي كتاب . ثم أخذ في ذكر ذمهم ، أن باعوا أنفسهم النفيسة بما يترتب لهم على كفرهم بآيات الله من المآكل والرياسات المنقضية في الزمن اليسير ، وأن الحامل على ذلك هو البغي والحسد ، لأن اختص الله بفضله من شاء من عباده ، فلم يرضوا بحكمه ولا باختياره ، فباءوا بالغضب من الله ، وأعد لهم في الآخرة العذاب الذي يذلهم ويهينهم . إذ كان امتناعهم من الإيمان ، إنما هو للتكبر والحسد وعدم الرضا بالقدر ، فناسب ذلك أن يعذبوا العذاب الذي فيه صغار لهم وذلة وإهانة .
ثم أخبر تعالى عنهم ، أنهم إذا عرض عليهم الإيمان بما أنزل الله ، أجابوا أنهم يؤمنون بالتوراة ، وأنهم يكفرون بما سواها . هذا والكتب المنزلة من عند الله سواء ، إذ كلها حق يصدق بعضها بعضا . فالكفر ببعضها كفر بجميعها . ثم أخبر تعالى بكذبهم في قولهم : ( نؤمن بما أنزل علينا ) ، وذلك بأنهم قتلوا الأنبياء ، والتوراة ناطقة باتباع الأنبياء والاقتداء بهم ، فقد خالف قولهم فعلهم . ثم كرر عليهم - توبيخا لهم - أن موسى الذي أنزل عليه التوراة ، وأنهم يزعمون أنهم آمنوا بها ، قد جاءهم بالأشياء الواضحة والمعجزات الخارقة ، من نجاتهم من فرعون ، وفلق البحر وغير ذلك ، ومع ذلك اتخذوا من بعد ذهابه إلى مناجاة ربه إلها من أبعد الحيوان ذهنا وأبلدها ، وهو العجل المصنوع من حليهم ، المشاهد إنشاؤه وعمله ، وموسى لم يمت بعد ، وكتاب الله طري نزوله عليهم ، لم يتقادم عهده . وكرر تعالى ذكر رفع الطور عليهم ليقبلوا ما في [ ص: 317 ] التوراة ، وأمروا بالسمع والطاعة ، فأجابوا بالعصيان . هذا وهم ملجئون إلى الإيمان ، أو كالملجئين ؛ لأن مثل هذا المزعج العظيم من رفع جبل عليهم ليشدخوا به جدير بأن يأتي الإنسان ما أمر به ، ويقبل ما كلف به من التكاليف . وتأبيهم لذلك ، وعدم قبولهم ، سببه أن عبادة العجل خامرت قلوبهم ومازجتها ، حتى لم تسمع قبولا لشيء من الحق ، والقلب إذا امتلأ بحب شيء لم يسمع سواه ولم يصغ إلى ملام ، وأنشدوا :
ملأت ببعض حبك كل قلبي فإن ترد الزيادة هات قلبا
ثم ذمهم تعالى على ما أمرهم به إيمانهم ، ولا إيمان لهم حقيقة ، بل نسب ذلك إليهم ، على سبيل التهكم من عبادة العجل واتخاذه إلها من دون الله . ثم كذبهم في دعواهم أن الجنة هي خالصة لهم ، لا يدخلها أحد سواهم ، فأمرهم بتمني الموت ؛ لأن من اعتقد أنه يصير إلى سرور وحبور ولذة دائمة لا تنقضي ، يؤثر الوصول إلى ذلك ، وانقضاء ما هو فيه من الذلة والنكد .
وأخبر تعالى أن تمني الموت لا يقع منهم أبدا ، وأن امتناعهم من ذلك هو بما قدمت أيديهم من الجرائم ، فظهر كذبهم في دعواهم بأنهم أهل الجنة . ثم أخبر ترشيحا لما قبله من عدم تمنيهم الموت ، أنهم أشد الناس حرصا على حياة ، حتى إنهم أحرص من الذين لا يؤمنون بالدار الآخرة ، ولا يرجون ثوابا ، ولا يخافون عقابا . ثم ذكر أن أحدهم يود أن يعمر ألف سنة ، ومع ذلك فتعميره ، وإن طال ، ليس بمنجيه من عذاب الله .
ثم ختم الآيات بأن الله تعالى مطلع على قبائح أفعالهم ، ومجازيهم عليها . وتبين بمجموع هذه الآيات ما جبل عليه اليهود من فرط كذبهم ، وتناقض أفعالهم وأقوالهم ، ونقص عقولهم ، وكثرة بهتهم ، أعاذنا الله من ذلك ، وسلك بنا أنهج المسالك .