الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ) : لما أباح تعالى لعباده أكل ما في الأرض من الحلال الطيب ، وكانت وجوه الحلال كثيرة ، بين لهم ما حرم عليهم ، لكونه أقل . فلما بين ما حرم ، بقي ما سوى ذلك على التحليل حتى يرد منع آخر . وهذا مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عما يلبس المحرم فقال : " لا يلبس القميص ولا السراويل " ، فعدل عن ذكر المباح إلى ذكر المحظور ، لكثرة المباح وقلة المحظور ، وهذا من الإيجاز البليغ . و " الذين آمنوا " : جمع من آمن برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ويجوز أن يراد أهل المدينة ، فاللفظ عام والمراد خاص . وقيل : هذا الخطاب مؤكدا لقوله : ( ياأيها الناس كلوا مما في الأرض ) . ولما كان لفظ الناس يعم المؤمن والكافر ميز الله المؤمنين بهذا النداء ، تشريفا لهم وتنبيها على خصوصيتهم . وظاهر " كلوا " : الأمر بالأكل المعهود . وقيل : المراد الانتفاع به ، ونبه بالأكل على وجوه الانتفاع ، إذ كان الأكل أعظمها ، إذ به تقوم البنيينة . قيل : وهذا أقرب إلى المعنى ; لأنه تعالى ما خص الحل والحرمة بالمأكولات ، بل بسائر ما ينتفع به من أكل وشرب ولبس وغير ذلك . والطيبات . قيل : الحلال ، وقيل : المستلذ المستطاب ، لكن بشرط أن [ ص: 485 ] يكون حلالا . وقد تقدم هذا الشرط في قوله : ( كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ) ، فصار هذا الأمر الثاني مثل الأول في أن متعلقة المستلذ الحلال . " ما رزقناكم " : فيه إسناد الرزق إلى ضمير المتكلم بنون العظمة ، لما في الرزق من الامتنان والإحسان . وإذا فسر الطيبات بالحلال ، كان في ذلك دلالة على أن ما رزقه الله ينقسم إلى حلال وإلى حرام ، بخلاف ما ذهبت إليه المعتزلة ، من أن الرزق لا يكون إلا حلالا . وقد تقدم الكلام على الرزق في أول السورة ، فأغنى عن إعادته هنا . ومن منع أن يكون الرزق حراما قال : المراد كلوا من مستلذ ما رزقناكم ، وهو الحلال ، أمر بذلك وأباحه تعالى دفعا لمن يتوهم أن التنوع في المطاعم والتفنن في إطابتها ممنوع منه ، فكان تخصيص المستلذ بالذكر لهذا المعنى .

( واشكروا لله ) : هذا من الالتفات ، إذ خرج من ضمير المتكلم إلى اسم الغائب ، وحكمة ذلك ظاهرة ; لأن هذا الاسم الظاهر متضمن لجميع الأوصاف التي منها وصف الإنعام والزرق والشكر ، ليس على هذا الإذن الخاص ، بل يشكر على سائر الإنعامات والإامتنانات التي منها هذا الامتنان الخاص . وجاء هنا تعدية الشكر باللام ، وقد تقدم الكلام على ذلك .

( وتضمنت ) هذه الآية أمرين : الأول : ( كلوا ) ، قالوا : وهو عند دفع الضرر واجب ، ومع الضيف مندوب إليه ، وإذا خلا عن العوارض كان مباحا ، وكذا هو في الآية . والثاني : ( واشكروا لله ) ، وهو أمر وليس بإباحة . قيل : ولا يمكن القول بوجوب الشكر ; لأنه إما أن يكون بالقلب ، أو باللسان ، أو بالجوارح . فبالقلب هو العلم بصدور النعمة من المنعم ، أو العزم على تعظيمه باللسان ، أو الجوارح . أما ذلك العلم فهو من لوازم كمال العقل ، فإن العاقل لا ينسى ذلك . فإذا كان ذلك العلم ضروريا ، فكيف يمكن إيجابه ؟ وأما العزم على تعظيمه باللسان والجوارح ، فذلك العزم القلبي تابع للإقرار اللساني والعمل بالجوارح . فإذا بينا أنهما لا يجبان ، كان العزم بأن لا يجب أولى . وأما الشكر باللسان ، فإما أن يفسر بالاعتراف له بكونه منعما ، أو بالثناء عليه . فهذا غير واجب بالاتفاق ، بل هو من باب المندوبات . وأما الشكر بالجوارح والأعضاء فهو أن يأتي بأفعال دالة على تعظيمه ، وذلك أيضا غير واجب . وقال غير هذا القائل الذي تلخص أنه يجب اعتقاد كونه مستحقا للتعظيم ، وإظهار ذلك باللسان أو سائر الأفعال إن وجدت هناك . وهذا البحث في وجوب الشكر أو عدم وجوبه ، كان يناسب في أول شكر أمر به وهو قوله : ( واشكروا لي ولا تكفرون ) .

( إن كنتم إياه تعبدون ) : من ذهب إلى أن معناها معنى إذ ، فقوله ضعيف ، وهو قول كوفي ، ولا يراد بالشرط هنا إلا التثبت والهز للنفوس ، وكأن المعنى : العبادة له واجبة ، فالشكر له واجب ، وذلك كما تقول لمن هو متحقق العبودية : إن كنت عبدي فأطعني ، لا تريد بذلك التعليق المحض ، بل تبرزه في صورة التعليق ليكون أدعى للطاعة وأهز لها . وقيل : عبر بالعبادة عن العرفان ، كما قال : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) . قيل : معناه ليعرفون ، فيكون المعنى : اشكروا الله إن كنتم عارفين به وبنعمه ، وذلك من إطلاق الأثر على المؤثر . وقيل : عبر بالعبادة عن إرادة العبادة ، أي اشكروا الله إن كنتم تريدون عبادته ; لأن الشكر رأس العبادات . وقال الزمخشري : إن صح أنكم تختصونه بالعبادة وتقرون أنه مولى النعم . وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول الله تعالى : " إني والجن والإنس في نبأ عظيم : أخلق ويعبد غيري ، وأرزق ويشكر غيري " . انتهى كلامه . وإيا هنا مفعول مقدم ، وقدم لكون العامل فيه وقع رأس آية ، وللاهتمام به والتعظيم لشأنه ; لأنه عائد على الله تعالى ، كما في قولك : ( وإياك نستعين ) ، وهذا من الموضع التي يجب فيها انفصال الضمير ، وهو إذا تقدم على العامل أو تأخر ، لم [ ص: 486 ] ينفصل إلا في ضرورة ، قال :


إليك حتى بلغت إيا كا



التالي السابق


الخدمات العلمية