الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ) : لما أمر بالعفو والصفح ، أمر بالمواظبة على عمودي الإسلام : العبادة البدنية ، والعبادة المالية ، إذ الصلاة فيها مناجاة الله تعالى والتلذذ بالوقوف بين يديه ، والزكاة فيها الإحسان إلى الخلق بالإيثار على النفس ، فأمروا بالوقوف بين يدي الحق وبالإحسان إلى الخلق . قال الطبري : إنما أمر الله هنا بالصلاة والزكاة ليحط ما تقدم من ميلهم إلى قول اليهود : راعنا ؛ لأن ذلك نهي عن نوعه ، ثم أمر المؤمنين بما يحطه . انتهى كلامه . وليس له ذلك الظهور .

( وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله ) : لما قدم الأمر بالصلاة والزكاة أتى بهذه الجملة الشرطية عامة لجميع أنواع الخير ، فيندرج فيها الصلاة والزكاة وغيرهما . والقول في إعراب ما ومن خير ، كالقول في إعراب : ما ننسخ من آية ، من أنهم قالوا : يجوز أن تكون ما مفعولة ، ومن خير : حال أو مصدر ، ومن خير : مفعول ، أو مفعولة ، ومن خير : تمييز أو مفعولة ، ومن خير ، تبعيضية متعلقة بمحذوف وهو الذي اخترناه . لأنفسكم : متعلق بتقدموا ، وهو على حذف مضاف ، أي لنجاة أنفسكم وحياتها ، قال تعالى : ( يقول ياليتني قدمت لحياتي ) . وقد فسر الخير هنا بالزكاة والصدقة ، والأظهر العموم ، تجدوه جواب الشرط ، والهاء عائدة على ما ، والخيور المتقدمة هي أفعال منقضية . ونفس ذلك المنقضي لا يوجد ، فإنما ذلك على حذف مضاف ، أي تجدوا ثوابه . فجعل وجوب ما ترتب عليه وجودا له ، وتجدوه متعد إلى واحد ؛ لأنه بمعنى الإصابة . والعامل في قوله : ( عند الله ) ، إما نفس الفعل ، أو محذوف ، فيكون في معنى الحال من الضمير ، أي تجدوه مدخرا ومعدا عند الله . والظرفية هنا المكاتبة ممتنعة ، وإنما هي مجاز بمعنى القبل ، كما تقول : لك عندي يد ، أي في قبلي ، أو بمعنى في علم الله نحو : ( وإن يوما عند ربك كألف سنة ) ، أي في علمه وقضائه ، أو بمعنى الاختصاص بالإضافة إلى الله تعالى تعظيما كقوله : ( إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ) .

( إن الله بما تعملون بصير ) : المجيء بالاسم الظاهر يدل على استقلال الجمل ، فلذلك جاء إن الله ، ولم يجئ إنه ، مع إمكان ذلك في الكلام . وهذه جملة خبرية ظاهرة التناسب في ختم ما قبلها بها ، تتضمن الوعد والوعيد . وكنى بقوله : بصير عن علم المشاهد ، أي لا يخفى عليه عمل عامل ولا يضيعه ، ومن كان مبصرا لفعلك ، لم يخف عليه ، هل هو خير أو شر ، وأتى بلفظ " بصير " دون مبصر ، إما لأنه من بصر ، فهو يدل على التمكن والسجية في حق الإنسان ، أو لأنه فعيل للمبالغة بمعنى مفعل ، الذي هو للتكثير . [ ص: 350 ] ويحتمل أن يكون فعيل بمعنى مفعل ، كالسميع بمعنى المسمع ، قال بعض الصوفية : على المريد إقامة المواصلات وإدامة التوسل بفنون القربات ، واثقا بأن ما قدمه من صدق المجاهدات ستزكو ثمرته في آخر الحالات ، وأنشدوا :


سابق إلى الخير وبادر به فإنما خلفك ما تعلم     وقدم الخير فكل امرئ
على الذي قدمه يقدم



( وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) : سبب نزولها اختصام نصارى نجران ويهود المدينة ، وتناظرهم بين يدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقالت اليهود : ( ليست النصارى على شيء ) ، وقالت النصارى : ( ليست اليهود على شيء ) ، وكفروا بالتوراة وموسى ، قاله ابن عباس . والضمير في : وقالوا عائد على أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، ولهم في القول ، لن يدخل الجنة ؛ لأن القول صدر من الجميع ، باعتبار أن كل فريق منهما قال ذلك ، لا أن كل فرد فرد قال ذلك حاكما على أن حصر دخول الجنة على كل فرد فرد من اليهود والنصارى ، ولذلك جاء في العطف بـ " أو " التي هي للتفصيل والتنويع ، وأوضح ذلك العلم بمعاداة الفريقين ، وتضليل بعضهم بعضا ، فامتنع أن يحكم كل فريق على الآخر بدخول الجنة ، ونظيره في لف الضمير ، وفي كون أو للتفصيل قوله : ( وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا ) ، إذ معلوم أن اليهودي لا يأمر بالنصرانية ، ولا النصراني يأمر باليهودية ، ولما كان دخول الجنة متأخرا ، جاء النفي بـ " لن " المخلصة للاستقبال ، ومن فاعلة بـ " يدخل " ، وهو من الاستثناء المفرغ ، والمعنى : لن يدخل الجنة أحد إلا من . ويجوز أن تكون على مذهب الفراء بدلا ، أو يكون منصوبا على الاستثناء ، إذ يجيز أن يراعي ذلك المحذوف ، ويجعله هو الفاعل ، ويحذفه ، وهو لو كان ملفوظا به لجاز البدل والنصب على الاستثناء ، فكذلك إذا كان محذوفا وحمل أولا على لفظ من ، فأفرد الضمير في كان ، ثم حمل على المعنى ، فجمع في خبر كان فقال : ( هودا أو نصارى ) . وهود : جمع هائد ، كعائد وعود . وتقدم مفرد النصارى ما هو أنصران أم نصري . وفي جواز مثل هذين الحملين خلاف ، أعني أن يكون الخبر غير فعل ، بل صفة يفصل بين مذكرها ومؤنثها بالتاء نحو : من كان قائمين الزيدون ، ومن كان قائمين الزيدان . فمذهب الكوفيين وكثير من البصريين جواز ذلك . وذهب قوم إلى المنع ، وإليه ذهب أبو العباس ، وهم محجوجون بثبوت ذلك في كلام العرب كهذه الآية ، فإن هودا في الأظهر جمع هائد ، وهو من الصفات التي يفصل بينها وبين مؤنثها بالتاء ، وكقول الشاعر :


وأيقظ من كان منكم نياما



فنيام : جمع نائم ، وهو من الصفات التي يفصل بين مذكرها ومؤنثها بالتاء ، وقدم هودا على نصارى لتقدمها في الزمان . وقرأ أبي : إلا من كان يهوديا أو نصرانيا ، فحمل الاسم والخبر معا على اللفظ ، وهو الإفراد والتذكير .

( تلك أمانيهم ) : جملة من مبتدأ وخبر معترضة بين قولهم ذلك ، وطلب الدليل على صحة دعواهم . وتلك يشار بها إلى الواحدة المفردة ، وإلى الجمع غير المسلم من المذكر والمؤنث ، فحمله الزمخشري على الجمع قال : أشير بها إلى الأماني المذكورة ، وهي أمنيتهم أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم ، وأمنيتهم أن يردوهم كفارا ، وأمنيتهم أن لا يدخل الجنة غيرهم ، أي تلك الأماني الباطلة أمانيهم . انتهى كلامه . وما ذهب إليه في الوجه الأول ليس بظاهر ؛ لأن كل جملة ذكر فيها ودهم لشيء ، فقد انفصلت وكملت واستقلت في النزول ، فيبعد أن يشار إليها . وأما ما ذهب إليه في الوجه الثاني ففيه مجاز الحذف ، وفيه قلب الوضع ، إذ الأصل أن يكون تلك مبتدأ ، وأمانيهم خبرا . فقلب هو الوضع ، إذ قال : أن أمانيهم في البطلان مثل أمنيتهم هذه . وفيه أنه متى كان الخبر مشبها به المبتدأ ، فلا يجوز تقديمه ، مثل زيد ، زهير : نص على ذلك النحويون . فإن تقدم [ ص: 351 ] ما هو أصل في أن يشبه به ، كان من عكس التشبيه ومن باب المبالغة ، إذ جعل الفرع أصلا والأصل فرعا كقولك : الأسد زيد شجاعة ، والأظهر أن تلك إشارة إلى مقالتهم : ( لن يدخل الجنة ) ، أي تلك المقالة أمانيهم ، أي ليس ذلك عن تحقيق ولا دليل من كتاب الله ، ولا من أخبار من رسول ، وإنما ذلك على سبيل التمني . وإن كانوا هم جازمين بمقالتهم ، لكنها لما لم تكن عن برهان ، كانت أماني ، والتمني يقع بالجائز والممتنع . فهذا من الممتنع ، ولذلك أتى بلفظ الأماني ، ولم يأت بلفظ مرجواتهم ؛ لأن الرجاء يتعلق بالجائز ، تقول : ليتني طائر ، ولا يجوز ، لعلني طائر ، وإنما أفرد المبتدأ لفظا ؛ لأنه كناية عن المقالة ، والمقالة مصدر يصلح للقليل والكثير ، فأريد بها هنا الكثير باعتبار القائلين ، ولذلك جمع الخير ، فطابق من حيث المعنى في الجمعية . وقد تقدم شرح الأماني في قوله : ( لا يعلمون الكتاب إلا أماني ) ، فيحتمل أن يكون المعنى : تلك أكاذيبهم وأباطيلهم ، أو تلك مختاراتهم وشهواتهم ، أو تلك تلاواتهم .

( قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) : لما تقدم منهم الدعوى بأنه لن يدخل الجنة إلا من ذكروا ، طولبوا بالدليل على صحة دعواهم . وفي هذا دليل على أن من ادعى نفيا أو إثباتا ، فلا بد له من الدليل . وتدل الآية على بطلان التقليد ، وهو قبول الشيء بغير دليل . قال الزمخشري : وهذا أهدم شيء لمذهب المقلدين ، وإن كل قول لا دليل عليه ، فهو باطل . إن كنتم صادقين فهاتوا برهانكم ، أي أوضحوا دعوتكم . وظاهر الآية أن متعلق الصدق هو دعواهم أنهم مختصون بدخول الجنة . وقيل : صادقين في إيمانكم . وقيل : في أمانيكم . وقيل معنى صادقين : صالحين كما زعمتم ، وكل ما أضيف إلى الصلاح والخير أضيف إلى الصدق . تقول : رجل صدق ، وصديق صدق ، ودالة صدق ، ومنه : ( هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم ) . وقيل : ( هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم ) : معناه إن كنتم موقنين بما أخذ الله ميثاقه وعهوده ، ومنه : ( رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ) .

( بلى ) : رد لقولهم : ( لن يدخل الجنة ) ، والكلام فيها كالكلام الذي تقدم في قوله : ( بلى من كسب سيئة ) ، وقبل ذلك : ( لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) ، وكلاهما فيه نفي وإيجاب ، إلا أن ذلك استثناء مفرغ من الأزمان ، وهذا استثناء مفرغ من الفاعلين . وأبعد من ذهب إلى أن بلى رد لما تضمن قوله : ( قل هاتوا برهانكم ) من النفي ؛ لأن معناه لا برهان لكم على صدق دعواكم ، فأثبت ببلى أن لمن أسلم وجهه برهانا ، وهذا ينبو عنه اللفظ .

( من أسلم وجهه لله ) : الكلام في : من ، كالكلام في : من ، من قوله : ( من كسب سيئة ) ، والأظهر أنها مبتدأة ، وجوزوا أن تكون فاعلة ، أي يدخلها من أسلم ، وإذا كانت مبتدأة ، فلا يتعين أن تكون شرطية . [ ص: 352 ] فالجملة بعدها هي الخبر ، وجواب الشرط ( فله أجره ) . وإذا كانت موصولة ، فالجملة بعدها صلة لا موضع لها من الإعراب ، والخبر هو ما دخلت عليه الفاء من الجملة الابتدائية ، وإذا كانت من فاعلة فقوله : ( فله أجره ) جملة اسمية معطوفة على ذلك الفعل الرافع لمن . والوجه هنا يحتمل أن يراد به الجارحة خص بالذكر ؛ لأنه أشرف الأعضاء ، أو لأنه فيه أكثر الحواس ، أو لأنه عبر به عن الذات ومنه : ( كل شيء هالك إلا وجهه ) ، ويحتمل أن يراد به الجهة ، والمعنى : أخلص طريقته في الدين لله . وقال مقاتل : أخلص دينه . وقال ابن عباس : أخلص عمله لله . وقيل : قصده . وقيل : فوض أمره إلى الله تعالى . وقيل : خضع وتواضع . وهذه أقوال متقاربة في المعنى ، وإنما يقولها السلف على ضرب المثال ، لا على أنها متعينة يخالف بعضها بعضا . وهذا نظير ما يقوله النحوي : الفاعل زيد من قولك ، قام زيد ، وآخر يقول : جعفر من خرج جعفر ، وآخر يقول : عمرو من انطلق عمرو ، وهذا أحسن ما يظن بالسلف رحمهم الله ، فيما جاء عنهم من هذا النوع .

( وهو محسن ) : جملة حالية ، وهي مؤكدة من حيث المعنى ؛ لأن من أسلم وجهه لله فهو محسن . وقد قيد الزمخشري الإحسان بالعمل ; وجعل معنى قوله : ( من أسلم وجهه لله ) : من أخلص نفسه له ، لا يشرك به غيره ، وهو محسن في عمله ، فصارت الحال هنا مبينة ، إذ من لا يشرك قسمان : محسن في عمله ، وغير محسن ، وذلك منه جنوح إلى مذهبه الاعتزالي من أن العمل لا بد منه ، وأنه بهما يستوجب دخول الجنة ، ولذلك فسر قوله : ( فله أجره ) الذي يستوجبه ، وقد فسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حقيقة الإحسان الشرعي حين سئل عن ماهيته فقال : " أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " . وقد فسر هنا الإحسان بالإخلاص ، وفسر بالإيمان ، وفسر بالقيام بالأوامر ، والانتهاء عن المناهي .

( فله أجره عند ربه ) : العامل في عند هو العامل في له ، أي فأجره مستقر له عند ربه ، ولما أحال أجره على الله أضاف الظرف إلى لفظة ربه ، أي الناظر في مصالحه ومربيه ومدبر أحواله ، ليكون ذلك أطمع له ، فلذلك أتى بصفة الرب ، ولم يأت بالضمير العائد على الله في الجملة قبله ، ولا بالظاهر بلفظ الله . فلم يأت فله أجره عنده ، لما ذكرناه ، ولقلق الإتيان بهذه الضمائر ، ولم يأت فله أجره عند الله ، لما ذكرنا من المعنى الذي دل عليه لفظ الرب .

( ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) : جمع الضمير في قوله : ( عليهم ولا هم يحزنون ) حملا على معنى من ، وحمل أولا على اللفظ في قوله : ( من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ) ، وهذا هو الأفصح ، وهو أن يبدأ أولا بالحمل على اللفظ ، ثم بالحمل على المعنى . وقد تقدم تفسير هذه الجملة . وقراءة ابن محيصن : فلا خوف ، برفع الفاء من غير تنوين ، باختلاف عنه . وقراءة الزهري وعيسى الثقفي ويعقوب وغيرهم : فلا خوف ، بالفتح من غير تنوين ، وتوجيه ذلك ، فأغنى عن إعادته هنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية