[ ص: 335 ]
قالوا يريد ولا يكون مراده عدلوا ولكن عن طريق المعرفة
وأنهم آمنوا ، يتقدر بمصدر كأنه قيل : ولو إيمانهم ، وهو مرفوع . فقال : هو مرفوع بالابتداء ، أي ولو إيمانهم ثابت . وقال سيبويه : هو مرفوع على الفاعلية ، أي ولو ثبت إيمانهم . ففي كل من المذهبين حذف للمسند ، وإبقاء المسند إليه . والترجيح بين المذهبين مذكور في علم النحو ، والضمير في أنهم المبرد لليهود ، أو الذين يعلمون السحر ، قولان . والإيمان والتقوى : الإيمان التام ، والتقوى الجامعة لضروبها ، أو الإيمان بمحمد وبما جاء به ، وتقوى الكفر والسحر ، قولان متقاربان .
( لمثوبة ) : اللام لام الابتداء ، لا الواقعة في جواب لو ، وجواب لو محذوف لفهم المعنى ، أي لأثيبوا ، ثم ابتدأ على طريق الإخبار الاستئنافي ، لا على طريق تعليقه بإيمانهم وتقواهم ، وترتبه عليهما ، هذا قول الأخفش ، أعني أن الجواب محذوف . وقيل : اللام هي الواقعة في جواب لو ، والجواب : هو قوله : ( لمثوبة ) ، أي الجملة الاسمية . والأول اختيار الراغب ، والثاني اختيار . قال : أوثرت الجملة الاسمية على الفعلية في الجواب لما في ذلك من الدلالة على ثبوت المثوبة واستقرارها ، كما عدل عن النصب إلى الرفع في : ( الزمخشري سلام عليكم ) لذلك ، انتهى كلامه . ومختاره غير مختار ؛ لأنه لم يعهد في لسان العرب وقوع الجملة الابتدائية جوابا للو ، إنما جاء هذا المختلف في تخريجه . ولا تثبت القواعد الكلية بالمحتمل ، وليس مثل سلام عليكم ، لثبوت رفع سلام عليكم من لسان العرب . ووجه من أجاز ذلك قوله : بأن " مثوبة " مصدر يقع للماضي والاستقبال ، فصلح لذلك من حيث وقوعه للمضي . وقد تكلمنا على هذه المسألة في كتاب التكميل من تأليفنا ، بأشبع من هذا . وقرأ الجمهور : لمثوبة بضم الثاء ، كالمشورة . وقرأ قتادة وأبو السمال : بسكون الثاء ، كمشورة . ومعنى قوله : لمثوبة ، أي لثواب ، وهو الجزاء والأجر على الإيمان والتقوى بأنواع الإحسان . وقيل : لمثوبة : لرجعة إلى الله خير . وعبد الله بن بريدة
( من عند الله ) : هذا الجار والمجرور في موضع الصفة ، أي كائنة من عند الله . وهذا الوصف هو المسوغ لجواز الابتداء بالنكرة . وفي وصف المثوبة بكونها من عند الله ، تفخيم وتعظيم لها ، ولمناسبة الإيمان والتقوى . لذلك كان المعنى : أن الذي آمنتم به واتقيتم محارمه ، هو الذي ثوابكم منه على ذلك ، فهو المتكفل بذلك لكم . واكتفى بالتنكير في ذلك ، إذ المعنى لشيء من الثواب .
قليلك لا يقال له قليل
( خير ) خبر لقوله : لمثوبة ، وليس خير هنا أفعل تفضيل ، بل هي للتفضيل ، لا للأفضلية . فهي كقوله : ( أفمن يلقى في النار خير ) ( وخير عقبا ) .
فشركما لخيركما الفداء
( لو كانوا يعلمون ) : جواب لو محذوف : التقدير : لو كانوا يعلمون لكان تحصيل المثوبة خيرا ، ويعني سبب المثوبة ، وهو الإيمان والتقوى . ولذلك قدره بعضهم لآمنوا ؛ لأن من كان ذا علم وبصيرة ، لم يخف عليه الحق ، فهو يسارع إلى اتباعه ، ولا الباطل ، فهو يبالغ في اجتنابه . ومفعول يعلمون محذوف اقتصارا ، فالمعنى : لو كانوا من ذوي العلم ، أو اختصارا ، فقدره بعضهم : لو كانوا يعلمون التفضيل في ذلك ، وقدره بعضهم : لو كانوا يعلمون أن ما عند الله خير وأبقى . وقيل : العلم هنا كناية عن العمل ، أي لو بعلمهم ، ولما انتفت ثمرة العلم الذي هو العمل ، جعل العلم هنا كناية عن العمل ، أي لو كانوا يعلمون بعلمهم ، ولما انتفت ثمرة العلم الذي هو العمل ، جعل العلم منتفيا .
وقد تضمنت هذه الآيات الشريفة اليهود من خبث السريرة ، وعدم التوفيق والطواعية لأنبياء الله ، ونصب المعاداة لهم ، حتى انتهى ذلك إلى عداوتهم من لا يلحقه ضرر عداوتهم ، وهو من لا ينبغي أن يعادى ؛ لأنه السفير بين الله وبين خلقه ، وهو ما كان عليه جبريل . أتى بالقرآن المصدق لكتابهم ، والمشتمل على الهدى والبشارة لمن آمن به ، فكان ينبغي المبادرة إلى ولائه ومحبته . ثم أعقب ذلك بأن من كان عدوا لله ، أي مخالفا لأمره وملائكته ورسله ، أي مبغضا لهم ، فالله عدوه ، أي معامله بما يناسب [ ص: 336 ] فعله القبيح . ثم التفت إلى رسوله بالخطاب ، فأخبره بأنه أنزل عليه آيات واضحات ، وأنها لوضوحها ، لا يكفر بها إلا متمرد في فسقه . ثم أخذ يسليه بأن عادة هؤلاء نكث عهودهم ، فلا تبال بمن طريقته هذه ، وأنهم سلكوا هذه الطريقة معك ، إذ أتيتهم من عند الله تعالى بالرسالة ، فنبذوا كتابه تعالى وراء ظهورهم ، بحيث صاروا لا ينظرون فيه ، ولا يلتفتون لما انطوى عليه من التبشير بك ، وإلزامهم اتباعك ، حتى كأنهم لم يطلعوا على الكتاب ، ولا سبق لهم بك علم منه . ثم ذكر من مخازيهم أنهم تركوا كتاب الله واتبعوا ما ألقت إليهم الشياطين من كتب السحر على عهد سليمان . ثم نزه نبيه سليمان عن الكفر ، وأن الشياطين هم الذين كفروا . ثم استطرد في أخبار هاروت وماروت ، وأنهما لا يعلمان أحدا حتى ينصحاه بأنهما جعلا ابتلاء واختبارا ، وأنهما لمبالغتهما في النصيحة ينهيان عن الكفر . ثم ذكر أن قصارى ما يتعلمون منهما هو تفريق بين المرء وزوجه . ثم ذكر أن ضرر ذلك لا يكون إلا بإذن من الله تعالى ؛ لأنه تعالى هو الضار النافع . ثم أثبت أن ما يتعلمون هو ضرر لملابسه ومتعلمه . ثم أخبر أنهم قد علموا بحقيقة الضرر ، وأن متعاطي ذلك لا نصيب له في الآخرة . ثم بالغ في ذم ما باعوا به أنفسهم ، إذ ما تعوضوه مآله إلى الخسران .
ثم ختم ذلك بما لو سلكوه ، وهو الإيمان والتقوى ، لحصل لهم من الله الثواب الجزيل على ذلك ، وأن جميع ما اجترموه من المآثم ، واكتسبوه من الجرائم ، يعفي على آثاره جر ذيل الإيمان ، ويبدل بالإساءة جميل الإحسان . ولما كانت الآيات السابقة فيها ما يتضمن الوعيد من قوله : ( فإن الله عدو للكافرين ) ، وقوله : ( وما يكفر بها إلا الفاسقون ) ، وذكر نبذ العهود ، ونبذ كتاب الله ، واتباع الشياطين ، وتعلم ما يضر ولا ينفع ، والإخبار عنهم بأنهم علموا أنه لا نصيب لهم في الآخرة ، أتبع ذلك بآية تتضمن الوعد الجميل لمن آمن واتقى . فجمعت هذه الآيات بين الوعيد والوعد ، والترغيب والترهيب ، والإنذار والتبشير ، وصار فيها استطراد من شيء إلى شيء ، وإخبار بمغيب بعد مغيب ، متناسقة تناسق اللآلئ في عقودها ، متضحة اتضاح الدراري في مطالع سعودها ، معلمة صدق من أتى بها ، وهو ما قرأ الكتب ، ولا دارس ، ولا رحل ، ولا عاشر الأحبار ، ولا مارس ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى ) صلى الله عليه ، وأوصل أزكى تحية إليه .