( ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض ) ؟ هذا أيضا استفهام دخل على النفي فهو تقرير ، فليس له معادل ؛ لأن التقرير معناه : الإيجاب ، أي قد علمت أيها المخاطب أن الله له سلطان السماوات والأرض والاستيلاء عليهما ، فهو يملك أموركم ويدبرها ، ويجريها على ما يختاره لكم من نسخ وغيره ، وخص السماوات والأرض بالملك ، لأنهما من أعظم المخلوقات ، ولأنهما قد اشتملا على جميع المخلوقات . وإذا كان استيلاؤه على الطرفين ، كان مستوليا على ما اشتملا عليه ، أو لأنه يعبر عن مخلوقاته العلوية بالسماوات ، والسفلية بالأرض .
وتضمنت هاتان الجملتان التقرير على الوصفين اللذين بهما كمال التصرف ، وهما : القدرة والاستيلاء ؛ لأن الشخص قد يكون قادرا ، بمعنى أن له استطاعة على فعل شيء ، لكنه ليس له استيلاء على ذلك الشيء ، فينفذ فيه ما يستطيع أن يفعل . فإذا اجتمعت الاستطاعة وعدم المانعية ، كمل بذلك التصرف مع الإرادة . وبدأ بالتقرير على وصف القدرة ؛ لأنه آكد من وصف الاستيلاء والسلطان .
( وما لكم من دون الله ) : انتقل من ضمير الإفراد في الخطاب إلى ضمير الجماعة ، وناسب الجمع هنا ؛ لأن المنفي بدخول من عليه صار نصا في العموم ، فناسب كون المنفي عنه يكون عاما أيضا ، كان المعنى : وما لكل فرد فرد منكم فرد فرد .
( من ولي ولا نصير ) : وأتى بصيغة ولي ، وهو فعيل ، للمبالغة ، ولأنه أكثر في الاستعمال ، ولذلك لم يجئ في القرآن ( وال ) إلا في سورة الرعد ، لمواخاة الفواصل ، وأتى بنصير على وزن فعيل ، لمناسبة ولي في كونهما على فعيل ، ولمناسبة أواخر الآي ، ولأنه أبلغ من فاعل . ومن زائدة في قوله : ( من ولي ) ، فلا تتعلق بشيء . ومن في : ( من دون الله ) متعلقة بما يتعلق به المجرور الذي هو لكم ، وهو يتعلق بمحذوف ، إذ هو في موضع الخبر ، ويجوز في ما هذه أن تكون تميمية ، ويجوز أن تكون حجازية على مذهب من يجيز تقدم خبرها ، إذا كان ظرفا أو مجرورا . أما من منع ذلك فلا يجوز في ما أن تكون حجازية ، ومعنى " من " الأولى ابتداء الغاية . وتكرر اسم الله ظاهرا في هذه الجمل الثلاث ، ولم يضمر للدلالة على استقلال كل جملة منها ، وأنها لم تجعل مرتبطة بعضها ببعض ارتباط ما يحتاج فيه إلى إضمار .
ولما كانت الجملتان الأوليان للتقرير - وهو إيجاب من حيث المعنى - ناسب أن تكون الجملة الثالثة نفيا للولي والناصر ، أي أن الأشياء التي هي تحت قدرة الله وسلطانه واستيلائه ، فالله تعالى لا يحجزه عما يريد بها شيء ، ولا مغالب له تعالى فيما يريد .
( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ) : اختلف في سبب نزول هذه الآية ، فقيل عن : نزلت في ابن عباس عبد الله بن أمية ورهط من قريش ، قالوا : يا محمد اجعل الصفا ذهبا ، ووسع لنا أرض مكة ، [ ص: 346 ] وفجر الأنهار خلالها تفجيرا ، ونؤمن لك . وقيل : تمنى اليهود وغيرهم من المشركين ، فمن قائل : ائتنا بكتاب من السماء جملة ، كما أتى موسى بالتوراة . ومن قائل : ائتني بكتاب من السماء فيه من رب العالمين إلى عبد الله بن أمية ، إني قد أرسلت محمدا إلى الناس . ومن قائل : لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا . وقيل : إن رافع بن خزيمة ، ووهب بن زيد قالا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ائتنا بكتاب من السماء ، وفجر لنا أنهارا ، نتبعك . وقيل : إن جماعة من الصحابة قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ليت ذنوبنا جرت مجرى ذنوب بني إسرائيل في تعجيل العقوبة في الدنيا ، فقال : " كانت بنو إسرائيل إذا أصابتهم خطيئة وجدوها مكتوبة على باب الخاطئ ، فإن كفرها كانت له خزيا في الدنيا ، وإن لم يكفرها كانت له خزيا في الآخرة " . وقيل : اليهود وكفار قريش سألوا رد الصفا ذهبا ، وقيل لهم : خذوه كالمائدة لبني إسرائيل ، فأبوا ونكصوا . وقيل : سأل قوم أن يجعل لهم ذات أنواط ، كما كانت للمشركين ، وهي شجرة كانوا يعبدونها ويعلقون عليها الثمرة وغيرها من المأكولات وأسلحتهم . كما سأل بنو إسرائيل موسى فقالوا : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة . ويحتمل أن تكون هذه كلها أسبابا في نزول هذه الآية ، وقد طولنا بذكر هذه الأسباب ، وذلك بخلاف مقصدنا في هذا الكتاب .
وأم : هنا منقطعة ، وتتقدر المنقطعة ببل والهمزة ، فالمعنى : بل أتريدون ، فبل تفيد الإضراب عما قبله ، ومعنى الإضراب هنا : هو الانتقال من جملة إلى جملة ، لا على سبيل إبطال الأولى . وقد تقدم قول من جعل أم هنا معادلة للاستفهام الأول . وقد بينا ضعف ذلك . وقالت فرقة : " أم " استفهام مقطوع من الأول ، كأنه قال : أتريدون . وهذان القولان ضعيفان . والذي تقرر أن أم تكون متصلة ومنفصلة . فالمتصلة : شرطها أن يتقدمها لفظ همزة الاستفهام ، وأن يكون بعدها مفرد ، أو في تقدير المفرد . والمنفصلة : ما انخرم الشرطان فيها أو أحدهما ، ويتقدر إذ ذاك ببل والهمزة معا ، وأما مجيئها مرادفة للهمزة فقط ، أو مرادفة لبل فقط ، أو زائدة ، فأقوال : ضعيفة . وعلى الخلاف في المخاطبين ، يجيء الكلام في قوله : ( رسولكم ) . فإن كان الخطاب للمؤمنين ، وهو قول الأصم والجبائي وأبي مسلم ، فيكون " رسولكم " جاء على ما في نفس الأمر ، وعلى ما أقروا به من رسالته . وإن كان الخطاب للكفار ، كانت إضافة الرسول إليهم على حسب الأمر في نفسه ، لا على إقرارهم به . ورجح كون الخطاب للمؤمنين بقوله : ( ومن يتبدل الكفر بالإيمان ) ، وهذا الكلام لا يصح إلا في حق المؤمن ، وبأنه معطوف على قوله : ( لا تقولوا راعنا ) ، أي هل تفعلون ما أمرتم ، أم تريدون ؟ ورجح أنهم اليهود ؛ لأنه سبق الكلام في الحكايات عنهم ما قالوا ، ولأن المؤمن بالرسول لا يكاد يسأله ما يكون كفرا .
( كما سئل ) : الكاف في موضع نصب ، فعلى رأي : على الحال ، وعلى المشهور من مذاهب المعربين : نعت لمصدر محذوف ، فيقدر على قولهم : سؤالا كما سئل ، ويقدر على رأي سيبويه : أن تسألوه ، أي السؤال كما سئل ، وما مصدرية ، التقدير : كسؤال . وأجاز سيبويه الحوفي أن تكون ما موصولة بمعنى الذي ، التقدير : الذي سئله موسى . وقرأ الجمهور : وسيل . وقرأ الحسن وأبو السمال : بكسر السين وياء . وقرأ أبو جعفر وشيبة : بإشمام السين وياء . وقرأ بعض القراء : بتسهيل الهمزة بين بين وضم السين . وهذه القراءات مبنية على اللغتين في سأل ، وهو أن تكون الهمزة مقرة مفتوحة ، فتقول سأل . فعلى هذه اللغة تكون قراءة الجمهور وقراءة من سهل الهمز بين بين . واللغة الثانية أن تكون عين الكلمة واوا ، وتكون على فعل بكسر العين فتقول : سلت أسال ، كخفت أخاف ، أصله : سولت . وعلى هذه اللغة تكون قراءة والزهري الحسن ، وقراءة من أشم . وتخريج هاتين القراءتين على هذه اللغة أولى من التخريج على أن أصل الألف الهمز ، فأبدلت الهمزة ألفا ، فصار مثل : قال وباع ، فقيل فيه : سيل بالكسر المحض ، أو الإشمام ؛ لأن هذا الإبدال [ ص: 347 ] شاذ ولا ينقاس . وتلك لغة ثانية ، فكان الحمل على ما كان لغة أولى من الحمل على الشاذ غير المطرد . وحذف الفاعل هنا للعلم به ، التقدير : كما سأل قوم موسى موسى من قبل .
( موسى من قبل ) : يتعلق هذا الجار بقوله : سئل ، وقبل مقطوعة عن الإضافة لفظا ، وذلك أن المضاف إليه معرفة محذوف . فلذلك بنيت قبل على الضم ، والتقدير : من قبل سؤالكم ، وهذا توكيد ؛ لأنه قد علم أن سؤال بني إسرائيل موسى - على نبينا وعليه الصلاة والسلام - متقدم على سؤال هؤلاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسؤال قوم موسى - عليه السلام - هو قولهم : ( أرنا الله جهرة ) ، ( اجعل لنا إلها ) . فأراد تعالى أن يوبخهم على تعلق إرادتهم بسؤال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن يقترحوا عليه ، إذ هم يكفيهم ما أنزل إليهم . وشبه سؤالهم بسؤال ما اقترحه آباء اليهود من الأشياء التي مصيرها إلى الوبال . وظاهر الآية يدل على أن السؤال لم يقع منهم . ألا ترى أنه قال : ( أم تريدون أن تسألوا ) ؟ فوبخهم على تعلق إرادتهم بالسؤال ، إذ لو كان السؤال قد وقع ، لكان التوبيخ عليه ، لا على إرادته ، وكان يكون اللفظ : أتسألون رسولكم ؟ أو ما أشبه ذلك مما يؤدي معنى وقوع السؤال ، لكن تظافرت نقولهم في سبب نزول هذه الآية ، وإن اختلفوا في التعيين على أن السؤال قد وقع .