إذ قالت الأنساع للبطن الحق
وإنما المعنى : ما قضاه من الأمور وأراد كونه ، فإنما يتكون ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف . كما أن المأمور المطيع الذي يؤمر فيمتثل ، لا يتوقف ولا يمتنع ، ولا يكون منه الإباء . أكد بهذا استبعاد الولادة ؛ لأن من كان بهذه الصفة من القدرة ، كانت حاله مباينة لأحوال الأجسام في توالدها . انتهى كلامه . وقال السجاوندي : كن على التمثيل لنفاذ الأمر ، قال :
فقالت له العينان سمعا وطاعة وإلا فالمعدوم كيف يخاطب
هذا ما نقلناه من كلام أهل التفسير في الآية . وظاهر الآية يدل على أن الله تعالى إذا أراد إحداث شيء قال له : كن ، تبينه الآية الأخرى : ( إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ) ، وقوله : ( وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر ) . لكن دليل العقل صد عن اعتقاد مخاطبة المعدوم ، وصد عن أن يكون الله تعالى محلا للحوادث ؛ لأن لفظة كن محدثة ، ومن يعقل مدلول اللفظ وكونه يسبق بعض حروفه بعضا لم يدخله شك في حدوثه ، وإذا كان كذلك ، فلا خطاب ولا قول لفظيا ، وإنما ذلك عبارة عن سرعة الإيجاد وعدم اعتياصه ، فهو من مجاز التمثيل ، وكأنه قدر أن المعدوم موجود يقبل الأمر ويمتثله بسرعة ، بحيث لا يتأخر عن امتثال ما أمر به . وقرأ الجمهور : فيكون بالرفع ، ووجه على أنه على الاستئناف ، أي فهو يكون ، وعزي إلى . [ ص: 366 ] وقال غيره : فيكون عطفا على يقول ، واختاره سيبويه وقرره . وقال الطبري ابن عطية : وهو خطأ من جهة المعنى ؛ لأنه يقتضي أن القول مع التكوين حادث ، وقد انتهى ما رده به ابن عطية . ومعنى رده : أن الأمر عنده قد تم ، والتكوين حادث ، وقد نسق عليه بالفاء ، فهو معه ، أي يعتقبه ، فلا يصح ذلك ؛ لأن القديم لا يعتقبه الحادث . وتقرير له هو ما تقدم في أوائل الكلام على هذه المسألة ، من أن الأمر لا يتقدم الوجود ولا يتأخر عنه . وما رده به الطبري ابن عطية لا يتم إلا بأن تحمل الآية على أن ثم قولا وأمرا قديما . أما إذا كان ذلك على جهة المجاز ، ومن باب التمثيل ، فيجوز أن يعطف على نقول . وقرأ ابن عامر : " فيكون " بالنصب ، وفي آل عمران : ( كن فيكون ) ونعلمه ، وفي النحل ، وفي مريم ، وفي يس ، وفي المؤمن . ووافقه في النحل ويس ، ولم يختلف في ( الكسائي كن فيكون الحق ) في آل عمران .
( كن فيكون قوله الحق ) في الأنعام أنه بالرفع ، ووجه النصب أنه جواب على لفظ كن ؛ لأنه جاء بلفظ الأمر ، فشبه بالأمر الحقيقي . ولا يصح نصبه على جواب الأمر الحقيقي ؛ لأن ذلك إنما يكون على فعلين ينتظم منهما شرط وجزاء نحوه : ائتني فأكرمك ، إذ المعنى : إن تأتني أكرمك . وهنا لا ينتظم ذلك ، إذ يصير المعنى : إن يكن يكن ، فلا بد من اختلاف بين الشرط والجزاء ، إما بالنسبة إلى الفاعل ، وإما بالنسبة إلى الفعل في نفسه ، أو في شيء من متعلقاته . وحكى ابن عطية ، عن أحمد بن موسى ، في قراءة ابن عامر : أنها لحن ، وهذا قول خطأ ؛ لأن هذه القراءة في السبعة ، فهي قراءة متواترة ، ثم هي بعد قراءة ابن عامر ، وهو رجل عربي ، لم يكن ليلحن . وقراءة في بعض المواضع ، وهو إمام الكوفيين في علم العربية ، فالقول بأنها لحن من أقبح الخطأ المؤثم الذي يجر قائله إلى الكفر ، إذ هو طعن على ما علم نقله بالتواتر من كتاب الله تعالى . الكسائي