فآو لذكراها إذا ما ذكرتها
فتكون من باب قوة أو من الآية فتكون عينها ياء كقوله :
لم يبق هذا الدهر من إيائه
قولان ، وهل وزنه افعل وأصله إأوو أو إأوى ، أو فعيل فأصله إويو أو إويي ، أو فعول وأصله إووو أو إويى ، أو فعلى فأصله أووى أو أويا ، أقاويل كلها ضعيفة ، والكلام على تصاريفها حتى صارت إيا تذكر في علم النحو ، وإضافة إيا لظاهر نادر نحو : وإيا الشواب ، أو ضرورة نحو : دعني وإيا خالد ، واستعماله تحذيرا معروف فيتحمل ضميرا مرفوعا يجوز أن يتبع بالرفع نحو : إياك أنت نفسك .
( نعبد ) العبادة : التذلل ، قاله الجمهور ، أو التجريد ، قاله ، وتعديه بالتشديد مغاير لتعديه بالتخفيف ، نحو : عبدت الرجل ذللته ، وعبدت الله ذللت له . وقرأ ابن السكيت الحسن وأبو مجلز وأبو المتوكل : إياك يعبد بالياء مبنيا للمفعول ، وعن بعض أهل مكة نعبد بإسكان الدال . وقرأ زيد بن علي ويحيى بن وثاب : نعبد بكسر النون . وعبيد بن عمير الليثي
( نستعين ) الاستعانة طلب العون ، والطلب أحد معاني استفعل ، وهي اثنا عشر معنى ، وهي : الطلب ، والاتحاد ، والتحول ، وإلقاء الشيء بمعنى ما صيغ منه وعده كذلك ، ومطاوعة أفعل وموافقته ، وموافقة تفعل وافتعل والفعل المجرد ، والإغناء عنه وعن فعل ، مثل ذلك استطعم ، واستعبده واستنسر واستعظمه واستحسنه ، وإن لم يكن كذلك ، واستشلى مطاوع أشلى ، واستبل موافق مطاوع أبل ، واستكبر موافق تكبر ، واستعصم موافق اعتصم ، واستغنى موافق غنى ، واستنكف واستحيا مغنيان عن المجرد ، واسترجع واستعان حلق عانته ، مغنيان عن فعل ، فاستعان طلب العون كاستغفر واستعظم . وقال صاحب اللوامح : وقد جاء فيه وياك أبدل الهمزة واوا ، فلا أدري أذلك عن الفراء أم عن العرب ؟ وهذا على العكس مما فروا إليه في نحو أشاح فيمن همز لأنهم فروا من الواو المكسورة إلى الهمزة ، واستثقالا للكسرة على الواو . وفي وياك فروا من الهمزة إلى الواو ، وعلى لغة من يستثقل الهمزة جملة لما فيها من شبه التهوع ، وبكون استفعل أيضا لموافقة تفاعل وفعل . حكى في المحكم : تماسكت بالشيء ومسكت به واستمسك به بمعنى واحد ، أي احتبست به ، قال ويقال : مسكت بالشيء وأمسكت وتمسكت احتبست ، انتهى . فتكون معاني استفعل حينئذ أربعة عشر لزيادة موافقة تفاعل وتفعل . وفتح نون نستعين قرأ بها الجمهور ، وهي لغة أبو الحسن بن سيده الحجاز ، وهي الفصحى . وقرأ عبيد بن عمير الليثي وزر بن حبيش ويحيى بن وثاب والنخعي بكسرها ، وهي لغة والأعمش قيس وتميم وأسد وربيعة ، وكذلك حكم حرف المضارعة في هذا الفعل وما [ ص: 24 ] أشبهه . وقال : هي لغة أبو جعفر الطوسي هذيل ، وانقلاب الواو ألفا في استعان ومستعان ، وياء في نستعين ومستعين ، والحذف في الاستعانة مذكور في علم التصريف ، ويعدى استعان بنفسه وبالباء . إياك مفعول مقدم ، يزعم أنه لا يقدم على العامل إلا للتخصيص ، فكأنه قال : ما نعبد إلا إياك ، وقد تقدم الرد عليه في تقديره بسم الله أتلوا ، وذكرنا نص والزمخشري هناك . فالتقديم عندنا إنما هو للاعتناء والاهتمام بالمفعول . وسب أعرابي آخر فأعرض عنه وقال : إياك أعني ، فقال له : وعنك أعرض ، فقدما الأهم ، وإياك التفات لأنه انتقال من الغيبة ، إذ لو جرى على نسق واحد لكان إياه . والانتقال من فنون البلاغة ، وهو الانتقال من الغيبة للخطاب أو التكلم ، ومن الخطاب للغيبة أو التكلم ، ومن التكلم للغيبة أو الخطاب . والغيبة تارة تكون بالظاهر ، وتارة بالمضمر ، وشرطه أن يكون المدلول واحدا . ألا ترى أن المخاطب بإياك هو الله - تعالى - ؟ وقالوا : فائدة هذا الالتفات إظهار الملكة في الكلام والاقتدار على التصرف فيه . وقد ذكر بعضهم مزيدا على هذا ، وهو إظهار فائدة تخص كل موضع ، ونتكلم على ذلك حيث يقع لنا منه شيء ، وفائدته في سيبويه إياك نعبد أنه لما ذكر أن الحمد لله المتصف بالربوبية والرحمة والملك والملك لليوم المذكور ، أقبل الحامد مخبرا بأثر ذكره الحمد المستقر له منه ومن غيره ، أنه وغيره يعبده ويخضع له . وكذلك أتى بالنون التي تكون له ولغيره ، فكما أن الحمد يستغرق الحامدين ، كذلك العبادة تستغرق المتكلم وغيره . ونظير هذا أنك تذكر شخصا متصفا بأوصاف جليلة ، مخبرا عنه إخبار الغائب ، ويكون ذلك الشخص حاضرا معك ، فتقول له : إياك أقصد ، فيكون في هذا الخطاب من التلطف على بلوغ المقصود ما لا يكون في لفظ إياه ، ولأنه ذكر ذلك توطئة للدعاء في قوله اهدنا . ومن ذهب إلى أن ملك منادى فلا يكون إياك التفاتا لأنه خطاب بعد خطاب وإن كان يجوز بعد النداء الغيبة ، كما قال :
يا دار مية بالعلياء فالسند أقوت وطال عليها سالف الأبد .
ومن الخطاب بعد النداء :
ألا يا اسلمي يا دار مي على البلى ولا زال منهلا بجرعائك القطر .
ودعوى في أبيات الزمخشري امرئ القيس الثلاثة أن فيه ثلاثة التفاتات غير صحيح ، بل هما التفاتان :
الأول : خروج من الخطاب المفتتح به في قوله :
تطاول ليلك بالإثمد ونام الخلي ولم ترقد
إلى الغيبة في قوله :
وبات وباتت له ليلة كليلة ذي العائر الأرمد
الثاني : خروج من هذه الغيبة إلى التكلم في قوله :
وذلك من نبأ جاءني . وخبرته عن أبي الأسود
أأنت الهلالي الذي كنت مرة سمعنا به والأرحبي المغلب
وإلى قول أبي كثير الهذلي :
[ ص: 25 ]
يا لهف نفسي كان جدة خالد وبياض وجهك للتراب الأعفر .
وفسرت العبادة في إياك نعبد بأنها التذلل والخضوع ، وهو أصل موضوع اللغة أو الطاعة ، كقوله - تعالى - : ( لا تعبد الشيطان ) ، أو التقرب بالطاعة أو الدعاء ( إن الذين يستكبرون عن عبادتي ) ، أي عن دعائي ، أو التوحيد ( إلا ليعبدون ) ، أي ليوحدون ، وكلها متقاربة المعنى . وقرنت الاستعانة بالعبادة للجمع بين ما يتقرب به العبد إلى الله - تعالى - وبين ما يطلبه من جهته . وقدمت العبادة على الاستعانة لتقديم الوسيلة قبل طلب الحاجة لتحصل الإجابة إليها ، وأطلق العبادة والاستعانة لتتناول كل معبود به وكل مستعان عليه . وكرر إياك ليكون كل من العبادة والاستعانة سيقا في جملتين ، وكل منهما مقصودة ، وللتنصيص على طلب العون منه بخلاف لو كان إياك نعبد ونستعين ، فإنه كان يحتمل أن يكون إخبارا بطلب العون ، أي وليطلب العون من غير أن يعين ممن يطلب .
ونقل عن المنتمين للصلاح تقييدات مختلفة في العبادة والاستعانة ، كقول بعضهم : إياك نعبد بالعلم ، وإياك نستعين عليه بالمعرفة ، وليس في اللفظ ما يدل على ذلك . وفي قوله : نعبد قالوا رد على الجبرية ، وفي نستعين رد على القدرية ، ومقام العبادة شريف ، وقد جاء الأمر به في مواضع ، قال تعالى : ( واعبد ربك ) ( اعبدوا ربكم ) ، والكناية عن أشرف المخلوقين - صلى الله عليه وسلم - . قال تعالى : ( سبحان الذي أسرى بعبده ) ، ( وما أنزلنا على عبدنا ) ، وقال تعالى حكاية عن عيسى - على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام - : ( قال إني عبد الله ) ، وقال تعالى وتقدس : ( لا إله إلا أنا فاعبدني ) فذكر العبادة عقيب التوحيد ; لأن التوحيد هو الأصل والعبادة فرعه . وقالوا في قوله إياك رد على الدهرية والمعطلة والمنكرين لوجود الصانع ، فإنه خطاب لموجود حاضر .