( الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ) قال : نزلت في أهل السفينة الذين قدموا مع ابن عباس ، وكانوا اثنين وثلاثين من جعفر بن أبي طالب أهل الحبشة ، وثمانية من رهبان الشام . وقيل : كان بعضهم من أهل نجران ، وبعضهم من أهل الحبشة ، ومن الروم ، وثمانية ملاحون أصحاب السفينة أقبلوا مع جعفر . وقال الضحاك : هم من آمن من اليهود ، كابن سلام ، وابن صوريا ، وابن يامين ، وغيرهم . وقيل : في علماء اليهود وأحبار النصارى . وقال ابن كيسان : الأنبياء والمرسلون . وقيل : المؤمنون . وقيل : الصحابة ، قاله عكرمة وقتادة . وعلى هذا الاختلاف ، يتنزل الاختلاف في الكتاب ، أهو التوراة أو الإنجيل ؟ أو هما والقرآن ؟ أو الجنس ؟ فيكون يعني به المكتوب ، فيشمل الكتب المتقدمة .
( يتلونه حق تلاوته ) : أي يقرءونه ويرتلونه بإعرابه . وقال عكرمة : يتبعون أحكامه . وقال الحسن : يعملون بمحكمه ويكلون متشابهه إلى الله . وقال عمر : يسألون من رحمته ويستعيذون من عذابه . وقال : لا يحرفونه ولا يغيرون ما فيه من نعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والذين : مبتدأ ، فإن أريد به الخصوص في من اهتدى ، صح أن يكون يتلونه خبرا عنه ، وصح أن يكون حالا مقدرة إما من ضمير المفعول ، وإما من الكتاب ، لأنهم وقت الإيتاء لم يكونوا تالين له ، ولا كان هو متلوا لهم ، ويكون الخبر إذ ذاك في الجملة من قوله : ( الزمخشري أولئك يؤمنون به ) . وجوز الحوفي أن يكون يتلونه خبرا ، وأولئك وما بعده خبرا بعد خبر . قال مثل قولهم : هذا حلو حامض ، وهذا مبني على أنه هل يقتضي المبتدأ الواحد خبرين ؟ أم لا يقتضي إلا إذا كان في معنى خبر واحد كقولهم : هذا حلو حامض ، أي مز ، وفي ذلك خلاف . وإن أريد بـ " الذين آتيناهم الكتاب " العموم ، كان الخبر " أولئك يؤمنون به " قالوا - ومنهم ابن عطية - : ويتلونه حال لا يستغنى عنها ، وفيها الفائدة ، ولا يجوز أن يكون خبرا ؛ لأنه كان يكون كل مؤمن يتلو الكتاب ، وليس كذلك بأي تفسير فسرت التلاوة . ونقول : ما لزم في الامتناع من جعلها خبرا ، يلزم في الحال ؛ لأنه ليس كل مؤمن يكون على حالة التلاوة بأي تفسير فسرتها . وانتصب ( حق تلاوته ) على المصدر كما [ ص: 370 ] تقول : ضربت زيدا حق ضربه ، وأصله تلاوة حقا . ثم قدم الوصف ، وأضيف إلى المصدر ، وصار نظير : ضربت شديد الضرب ، إذ أصله : ضربا شديدا . وجوزوا أن يكون وصفا لمصدر محذوف ، وأن يكون منصوبا على الحال من الفاعل ، أي يتلونه محقين . وقال ابن عطية : و " حق " مصدر والعامل فيه فعل مضمر ، وهو بمعنى ، ولا يجوز إضافته إلى واحد معرف ، وإنما جازت هنا لأن تعرف التلاوة بإضافتها إلى الضمير ليس بتعرف محض ، وإنما هو بمنزلة قولهم : رجل واحد أمه ، ونسيج وحده . انتهى كلامه . وأولئك يؤمنون به : ظاهره أن الضمير في به يعود إلى ما يعود عليه الضمير في يتلونه ، وهو الكتاب ، على اختلاف الناس في الكتاب . وقيل : يعود على النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا : وإن لم يتقدم له ذكر ، لكن دلت قوة الكلام عليه ، وليس كذلك ، بل قد تقدم ذكره في قوله : ( إنا أرسلناك بالحق ) ، لكن صار ذلك التفاتا وخروجا من خطاب إلى غيبة . وقيل : يعود على الله تعالى ، ويكون التفاتا أيضا وخروجا من ضمير المتكلم المعظم نفسه إلى ضمير الغائب المفرد . قال ابن عطية : ويحتمل عندي أن يعود الضمير على الهدى الذي تقدم ، وذلك أنه ذكر كفار اليهود والنصارى في الآية ، وحذر رسوله من اتباع أهوائهم ، وأعلمه بأن هدى الله هو الهدى الذي أعطاه وبعثه به . ثم ذكر له أن المؤمنين التالين لكتاب الله هم المؤمنون بذلك الهدى المقتدون بأنواره . انتهى كلامه ، وهو محتمل لما ذكر . لكن الظاهر أن يعود على الكتاب لتتناسب الضمائر ولا تختلف ، فيحصل التعقيد في اللفظ ، والإلباس في المعنى ؛ لأنه إذا كان جعل الضمائر المتناسبة عائدة على واحد ، والمعنى فيها جيد صحيح الإسناد ، كان أولى من جعلها متنافرة ، ولا نعدل إلى ذلك إلا بصارف عن الوجه الأول ، إما لفظي ، وإما معنوي ، وإلى عوده على الكتاب ذهب . الزمخشري
( ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون ) : الضمير في به في هذه الجملة فيه من الخلاف ما فيه من الجملة السابقة ، والظاهر كما قلناه ، أنه عائد على الكتاب ، ولم يعادل بين الجملتين في التركيب الخبري غير الشرطي أو الشرطي . بل قصد في الأولى إلى ذكر الحكم من غير تعليق عليه ، ودل مقابلة الخسران على ربح من آمن به وفوزه ووفور حظه عند الله ، فاكتفى بثبوت السبب عن ذكر المسبب عنه . وقصد في الجملة الثانية إلى ذكر المسبب على تقدير حصول السبب ، فكان في ذلك تنفير عن تعاطي السبب لما يترتب عليه من المسبب الذي هو الخسران ونقص الحظ ، وأخرج ذلك في جملة شرطية حمل فيها الشرط على لفظ من ، والجزاء على معناها . و " هم " محتمل أن يكون مبتدأ وأن يكون فصلا . وعلى كلا التقديرين يكون في ذلك توكيد . وفي المنتخب : الذي يليق به هذا الوصف هو القرآن . وأولئك الأولى عائدة على المؤمنين ، والثانية عائدة على الكفار . والدليل عليه ، أن الذين تقدم ذكرهم هم أهل الكتاب ، فلما ذم طريقتهم وحكى سوء أفعالهم ، أتبع ذلك بمدح من ترك طريقتهم ، بأن تأمل التوراة وترك تحريفها ، وعرف منها صحة نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم . انتهى .
والتلاوة لها معنيان : القراءة لفظا ، والاتباع فعلا . وقد تقدم ما نقل في تفسير التلاوة هنا ، والأولى أن يحمل على كل تلك الوجوه لأنها مشتركة في المفهوم ، وهو أن بينها كلها قدرا مشتركا ، فينبغي أن يحمل عليه لكثرة الفوائد .