وقال : الخطاب للمؤمنين بمعنى : ما شاهدتم ذلك ، وإنما حصل لكم العلم به من طريق الوحي . وقيل : الخطاب لليهود ، لأنهم كانوا يقولون : ما مات نبي إلا على اليهودية ، إلا أنهم لو شهدوه ، ولو سمعوا ما قاله لبنيه ، وما قالوه ، لظهر لهم حرصه على ملة الإسلام ، ولما ادعوا عليه اليهودية . فالآية منافية لقولهم ، فكيف يقال لهم : ( الزمخشري أم كنتم شهداء ) ؟ ولكن الوجه أن تكون أم متصلة ، على أن يقدر قبلها محذوف ، كأنه قيل : أتدعون على الأنبياء اليهودية ؟ ( أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت ) ؟ يعني أن أوائلكم من بني إسرائيل كانوا مشاهدين له ، إذ أراد بنيه على التوحيد وملة الإسلام ، فما لكم تدعون على الأنبياء ما هم منه برآء ؟ انتهى كلامه . وملخصه : أنه جعل أم متصلة ، وأنه حذف قبلها ما يعادلها ، ولا نعلم أحدا أجاز حذف هذه الجملة ، ولا يحفظ ذلك لا في شعر ولا غيره ، فلا يجوز : أم زيد ؟ وأنت تريد : أقام عمرو أم زيد ؟ ولا أم قام خالد ؟ وأنت تريد : أخرج زيد ؟ أم قام خالد ؟ والسبب في أنه لا يجوز الحذف أن الكلام في معنى : أي الأمرين وقع ؟ فهي في الحقيقة جملة واحدة . وإنما يحذف المعطوف عليه ويبقى المعطوف مع الواو والفاء ، إذا دل على ذلك دليل نحو قولك : بلى وعمرا ، جوابا لمن . قال : ألم تضرب زيدا ؟ ونحو قوله تعالى : ( " أن اضرب بعصاك الحجر ) فانفجرت ، أي فضرب فانفجرت . وندر حذف المعطوف عليه مع أو ، نحو قوله :
فهل لك أو من والد لك قبلنا
أراد : فهل لك من أخ أو من والد ؟ ومع حتى على نظر فيه في قوله :
فيا عجبا حتى كليب تسبني
أي : يسبني الناس حتى كليب ، لكن الذي سمع من كلام العرب حذف أم المتصلة مع المعطوف ، قال :
دعاني إليها القلب إني لأمرها سميع فما أدري أرشد طلابها
يريد : أم غير رشد ، فحذف لدلالة الكلام عليه ، وإنما جاز ذلك لأن المستفهم عن الإثبات يتضمن نقيضه . فالمعنى : أقام زيد أم لم يقم ، ولذلك صلح الجواب أن يكون بنعم وبلا ، فلذلك جاز ذلك في البيت في قوله : أرشد طلابها ، أي أم غير رشد . ويجوز حذف الثواني المقابلات إذا دل عليها المعنى . ألا ترى إلى قوله : ( تقيكم الحر ) ، كيف حذف والبرد ؟ . " إذ حضر " العامل في إذ " شهداء " ، وذلك على جهة الظرف لا على جهة المفعول ، كأنه قيل : حاضري كلامه في وقت حضور الموت ، وكنى بالموت عن مقدماته لأنه إذا حضر الموت نفسه لا يقول المحتضر شيئا ، ومنه : ( ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ) ، أي ويأتيه دواعيه وأسبابه ، وقال الشاعر :
وقل لهم بادروا العذر والتمسوا قولا يبرئكم إني أنا الموت
وفي قوله : حضر ، كناية غريبة ، إنه غائب لا بد أن يقدم ، ولذلك يقال في الدعاء : واجعل الموت خير غائب ننتظره . وقرئ : حضر بكسر الضاد ، وقد ذكرنا أن ذلك لغة ، وأن مضارعها بضم الضاد شاذ ، وقدم [ ص: 402 ] المفعول هنا على الفاعل للاعتناء . ( إذ قال لبنيه ) ، إذ : بدل من إذ في قوله : إذ حضر ، فالعامل فيه إما " شهداء " العاملة في إذ الأولى على قول من زعم أن العامل في البدل العامل في المبدل منه ، وإما " شهداء " مكررة على قول من زعم أن البدل على تكرار العامل . وزعم القفال أن " إذا " وقت للحضور ، فالعامل فيه حضر ، وهو يئول إلى اتحاد الظرفين ، وإن اختلف عاملهما . ( ما تعبدون من بعدي ) ما : استفهام عما لا يعقل ، وهو اسم تام منصوب بالفعل بعده . فعلى قول من زعم أن ما مبهمة في كل شيء ، يكون هنا يقع على من يعقل وما لا يعقل ; لأنه قد عبد بنو آدم والملائكة والشمس والقمر وبعض النجوم ، والأوثان المنحوتة ، وأما من يذهب إلى تخصيص ما بغير العاقل ، فقيل : هو سؤال عن صفة المعبود ; لأن ما يسأل بها عن الصفات تقول : ما زيد ، أفقيه أم شاعر ؟ وقيل : سأل بما لأن المعبودات المتعارفة في ذلك الوقت كانت جمادات ، كالأوثان والنار والشمس والحجارة ، فاستفهم بما التي يستفهم بها عما لا يعقل . وفهم عنه بنوه فأجابوه : بأنا لا نعبد شيئا من هؤلاء . وقيل : استفهم بـ " ما " عن المعبود تجربة لهم ، ولم يقل " من " لئلا يطرق لهم الاهتداء ، وإنما أراد أن يختبرهم وينظر ثبوتهم على ما هم عليه . وظاهر الكلام أنه استفهم عن الذي يعبدون ، أي العبادة المشروعة ؟ وقال القفال : دعاهم إلى أن لا يتحروا في أعمالهم غير وجه الله تعالى ، ولم يخف عليهم الاشتغال بعبادة الأصنام ، وإنما خاف عليهم أن تشغلهم دنياهم . وفي ذلك دليل على أن شفقة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - على أولادهم كانت في باب الدين ، وهمتهم مصروفة إليهم . " من بعدي " : يريد من بعد موتي ، وحكي أن يعقوب - عليه السلام - حين خير ، كما يخير الأنبياء ، اختار الموت وقال : أمهلوني حتى أوصي بني وأهلي ، فجمعهم وقال لهم هذا القول .
( قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ) : هذه قراءة الجمهور . وقرأ أبي : وإله إبراهيم ، بإسقاط آبائك . وقرأ ، ابن عباس والحسن ، وابن يعمر ، والجحدري ، وأبو رجاء : وإله أبيك . فأما على قراءة الجمهور ، فإبراهيم وما بعده بدل من آبائك ، أو عطف بيان . وإذا كان بدلا ، فهو من البدل التفصيلي ، ولو قرئ فيه بالقطع ، لكان ذلك جائزا . وأجاز المهدوي أن يكون إبراهيم وما بعده منصوبا على إضمار أعني : وفيه دلالة على أن العم يطلق عليه أب . وقد جاء في العباس : هذا بقية آبائي ، وردوا علي أبي ، وأنا ابن الذبيحين ، على القول الشهير : أن الذبيح هو إسحاق ، وفيه دلالة على أن الجد يسمى أبا لقوله : ( وإله آبائك إبراهيم ) ، وإبراهيم جد ليعقوب . وقد استدل بذلك وبقوله : ( ابن عباس واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ) على ، عند فقد الأب ، وأن لا يختلف حكمه وحكم الأب في الميراث ، إذا لم يكن أب ، وهو مذهب الصديق وجماعة من الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - وهو قول توريث الجد دون الإخوة ، وإنزاله منزلة الأب في الميراث أبي حنيفة . وقال : هو بمنزلة الإخوة ، ما لم تنقصه المقاسمة من الثلث ، فيعطى الثلث ، ولم ينقص منه شيئا ، وبه قال زيد بن ثابت مالك وأبو يوسف . وقال والشافعي علي : هو بمنزلة أحد الإخوة ، ما لم تنقصه المقاسمة من السدس ، فيعطى السدس ، ولم ينقص منه شيئا ، وبه قال ، وحجج هذه الأقوال في كتب الفقه . وأما قراءة ابن أبي ليلى أبي فظاهرة ، وأما على قراءة ومن ذكر معه ، فالظاهر أن لفظ أبيك أريد به الإفراد ويكون ابن عباس إبراهيم بدلا منه ، أو عطف بيان . وقيل : هو جمع سقطت منه النون للإضافة ، فقد جمع " أب " على أبين نصبا وجرا ، وأبون رفعا ، حكى ذلك ، وقال الشاعر : سيبويه
فلما تبين أصواتنا بكين وفديننا بالأبينا
وعلى هذا الوجه يكون إعراب إبراهيم مثل إعرابه حين كان جمع تكسير . وفي إجابتهم له بإظهار [ ص: 403 ] الفعل تأكيد لما أجابوه به ، إذ كان يجوز أن يقال : قالوا إلهك ، فتصريحهم بالفعل تأكيد في الجواب أنه مطابق للسؤال ، أعني في العامل الملفوظ به في السؤال . وإضافة الإله إلى يعقوب فيه دليل على اتحاد معبود السائل والمجيب لفظا . وفي قوله : ( وإله آبائك ) دليل على اتحاد المعبود أيضا من حيث اللفظ ، وإنما كرر لفظ وإله ; لأنه لا يصح العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة جاره ، إلا في الشعر ، أو على مذهب من يرى ذلك ، وهو عنده قليل . فلو كان المعطوف عليه ظاهرا ، لكان حذف الجار إذا كان اسما ، أولى من إثباته ، لما يوهم إثباته من المغايرة . فإن حذفه يدل على الاتحاد . وبدأ أولا بإضافة الإله إلى يعقوب ; لأنه هو السائل ، وقدم إبراهيم ; لأنه الأصل ، وقدم إسماعيل على إسحاق ; لأنه أسن أو أفضل ، لكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذريته ، وهو في عمود نسبه . واقتصر على هؤلاء ، لأنهم كانوا خير الناس في أزمانهم ، ولم يعم ; لأن الناس كان لهم معبودون كثيرون دون الله .
( إلها واحدا ) : يجوز أن يكون بدلا ، وهو بدل نكرة موصوفة من معرفة ، ويجوز أن يكون حالا ، ويكون حالا موطئة نحو : رأيتك رجلا صالحا . فالمقصود إنما هو الوصف ، وجيء باسم الذات توطئة للوصف . وجوز أن ينتصب على الاختصاص ، أي يريد بإلهك إلها واحدا . وقد نص النحويون على أن المنصوب على الاختصاص لا يكون نكرة ولا مبهما . وفائدة هذه الحال ، أو البدل ، هو التنصيص على أن معبودهم واحد فرد ، إذ قد توهم إضافة الشيء إلى كثيرين تعداد ذلك المضاف ، فنهض بهذه الحال أو البدل على نفي ذلك الإيهام . ( الزمخشري ونحن له مسلمون ) : أي منقادون لما ذكر الجواب بالفعل الذي هو نعبد ; لأن العبادة متجددة دائما . ذكر هذه الجملة الاسمية المخبر عن المبتدأ فيها باسم الفاعل الدال على الثبوت ; لأن الانقياد لا ينفكون عنه دائما ، وعنه تكون العبادة ، فيكون قوله : ( ونحن له مسلمون ) أحد جملتي الجواب . فأجابوه بشيئين : أحدهما : الذي سأل عنه ، والثاني : مؤكد لما أجابوا به ، فيكون من باب الجواب المربي على السؤال . وأجاز بعضهم أن تكون الجملة حالية من الضمير في نعبد ، والأول أبلغ ، وهو أن تكون الجملة معطوفة على قوله : ( نعبد ) ، فيكون أحد شقي الجواب . وأجاز أن تكون جملة اعتراضية مؤكدة ، أي : ومن حالنا أنا نحن له مسلمون مخلصون التوحيد أو مذعنون . والذي ذكره النحويون أن جملة الاعتراض هي الجملة التي تفيد تقوية بين جزأي موصول وصلة ، نحو قوله : الزمخشري
ماذا ولا عتب في المقدور رمت إما تخطيك بالنجح أم خسر وتضليل
[ ص: 404 ] ( وقال ) :
ذاك الذي وأبيك يعرف مالكا والحق يدفع ترهات الباطل
أو بين جزأي إسناد ، نحو قوله :
وقد أدركتني والحوادث جمة أسنة قوم لا ضعاف ولا عزل
أو بين فعل شرط وجزائه ، أو بين قسم وجوابه ، أو بين منعوت ونعته ، أو ما أشبه ذلك مما بينهما تلازم ما . وهذه الجملة التي هي قوله : ( ونحن له مسلمون ) ليست من هذا الباب ; لأن قبلها كلاما مستقلا ، وبعدها كلام مستقل ، وهو قوله : ( تلك أمة قد خلت ) . لا يقال : إن بين المشار إليه وبين الإخبار عنه تلازم يصح به أن تكون الجملة معترضة ; لأن ما قبلها من كلام بني يعقوب ، حكاه الله عنهم ، وما بعدها من كلام الله تعالى ، أخبر عنهم بما أخبر تعالى . والجملة الاعتراضية الواقعة بين متلازمين لا تكون إلا من الناطق بالمتلازمين ، يؤكد بها ويقوي ما تضمن كلامه . فتبين بهذا كله أن قوله : ( ونحن له مسلمون ) ليس جملة اعتراضية . وقال ابن عطية : ( ونحن له مسلمون ) ابتداء وخبر ، أي : كذلك كنا ونحن نكون . ويحتمل أن يكون في موضع الحال . والعامل نعبد والتأويل الأول أمدح . انتهى كلامه . ويظهر منه أنه جعل الجملة معطوفة على جملة محذوفة ، وهي قوله : كذلك كنا ، ولا حاجة إلى تكلف هذا الإضمار ; لأنه يصح عطفها على نعبد إلهك ، كما ذكرناه وقررناه قبل . ومتى أمكن حمل الكلام على غير إضمار مع صحة المعنى ، كان أولى من حمله على الإضمار .
وفي المنتخب ما ملخصه تمسك بهذه الآية المقلدة ، وقالوا : إن أبناء يعقوب اكتفوا بالتقليد ، ولم ينكره هو عليهم ، فدل على أن التقليد كاف ، واستدل بها التعليمية ، قالوا : لا طريق لمعرفة الله تعالى إلا بتعليم الرسول والإمام ، فإنهم لم يقولوا : نعبد الإله الذي دل عليه العقل ، بل قالوا : لا نعبد إلا الذي أنت تعبده وآباؤك تعبده ، وهذا يدل على أن طريقة المعرفة التعلم . وما ذهبوا إليه لا دليل في الآية عليه ; لأن الآية لم تتضمن إلا الإقرار بعبادة الإله . والإقرار بالعبادة لله لا تدل على أن ذلك ناشئ عن تقليد ، ولا تعليم ، ولا أنه أيضا ناشئ عن استدلال بالعقل ، فبطل تمسكهم بالآية . وإنما لم تتعرض الآية للاستدلال العقلي ، لأنها لم تجئ في معرض ذلك ; لأنه إنما سألهم عما يعبدونه من بعد موته ، فأحالوه على معبوده ومعبود آبائه ، وهو الله تعالى ، وكان ذلك أخصر في القول من شرح صفاته تعالى من الوحدانية والعلم والقدرة وغير ذلك من صفاته ، وأقرب إلى سكون نفس يعقوب ، فكأنهم قالوا : لسنا نجري إلا على طريقتك . وقد يقال : إن في قوله : ( نعبد إلهك وإله آبائك ) إشارة إلى الاستدلال العقلي على وجود الصانع ; لأنه قد تقدم في أول السورة : ( ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم ) ، فمرادهم هنا بقولهم : ( نعبد إلهك وإله آبائك ) الإله الذي دل عليه وجود آبائك ، وهذا إشارة إلى الاستدلال .