[ ص: 166 ] لما بين تعالى عظيم قدرته في خلق السماوات والأرض بالحق ، وهو حالة ابتداء العالم ، وفي مصيرهم إلى الجنة والنار ، وهي حالة الانتهاء ، أمر تعالى بتنزيهه من كل سوء . والظاهر أنه أمر عباده بتنزيهه في هذه الأوقات ، لما يتجدد فيها من النعم . ويحتمل أن يكون كناية عن استغراق زمان العبد ، وهو أن يكون ذاكرا ربه ، واصفه بما يجب له على كل حال .
وقال : لما ذكر الوعد والوعيد ، أتبعه ذكر ما يوصل إلى الوعد وينجي من الوعيد . وقيل : المراد هنا بالتسبيح : الصلاة . فعن الزمخشري ابن عباس وقتادة : المغرب والصبح والعصر والظهر ، وأما العشاء ففي قوله : ( وزلفا من الليل ) . وعن : الخمس ، وجعل ( ابن عباس حين تمسون ) شاملا للمغرب والعشاء . ( وله الحمد في السماوات والأرض ) اعتراض بين الوقتين ، ومعناه : أن الحمد واجب على أهل السماوات وأهل الأرض ، وكان الحسن يذهب إلى أن هذه الآية مدنية ; لأنه كان يقول : فرضت الخمس بالمدينة . وقال الأكثرون : بل فرضت بمكة ; وفي التحرير ، اتفق المفسرون على أن الخمس داخلة في هذه الآية . وعن : ما ذكرت الخمس إلا فيها ، وقدم الإمساء على الإصباح ، كما قدم في قوله ( يولج الليل في النهار ) والظلمات على النور ، وقابل بالعشي الإمساء ، وبالإظهار الإصباح ; لأن كلا منهما يعقب بما يقابله ; فالعشي يعقبه الإمساء ، والإصباح يعقبه الإظهار . ولما لم يتصرف من العشي فعل ، لا يقال : أعشى ، كما يقال : أمسى وأصبح وأظهر ، جاء التركيب ( وعشيا ) . وقرأ ابن عباس عكرمة : " حينا تمسون وحينا تصبحون " ، بتنوين حين ، والجملة صفة حذف منها العائد تقديره : تمسون فيه وتصبحون فيه . ولما ذكر الإبداء والإعادة ، ناسب ذكره : ( يخرج الحي من الميت ) وتقدم الكلام على هذه الآية في آل عمران . ( وكذلك ) أي : مثل ذلك الإخراج ، والمعنى : تساوى الإبداء والإعادة في حقه تعالى . وقرأ الجمهور : ( تخرجون ) بالتاء المضمومة ، مبنيا للمفعول ; وابن وثاب وطلحة : بفتح تاء الخطاب وضم الراء . والأعمش
ثم ذكر تعالى آياته من بدء خلق الإنسان ، آية آية ، إلى حين بعثه من القبر فقال : ( ومن آياته أن خلقكم من تراب ) جعل خلقهم من تراب ، حيث كان خلق أباهم آدم من تراب . و ( تنتشرون ) تتصرفون في أغراضكم بـ : " ثم " المقتضية المهلة والتراخي . ونبه تعالى على عظيم قدرته بخلق الإنسان من تراب ، وهو أبعد الأشياء عن درجة الإحياء ; لأنه بارد يابس ، والحياة بالحرارة والرطوبة ، وكذا الروح نير وثقيل ، والروح خفيف وساكن ، والحيوان متحرك إلى الجهات الست ، فالتراب أبعد من قبول الحياة من سائر الأجسام . ( من أنفسكم ) فيها قول ( وخلق منها زوجها ) إما كون حواء خلقت من ضلع آدم ، وإما من جنسكم ونوعكم . وعلل خلق الأزواج بالسكون إليها ، وهو الإلف . فمتى كان من الجنس ، كان بينهما تألف ، بخلاف الجنسين ، فإنه يكون بينهما التنافر ، وهذه الحكمة في بعث الرسل من جنس بني آدم . ويقال : سكن إليه : مال ، ومنه السكن : فعل بمعنى مفعول . ( مودة ورحمة ) أي : بالأزواج ، بعد أن لم يكن سابقة تعارف يوجب التواد . وقال مجاهد والحسن وعكرمة : المودة : النكاح ، والرحمة : الولد ، كنى بذلك [ ص: 167 ] عنهما . وقيل : مودة للشابة ، ورحمة للعجوز . وقيل : مودة للكبير ، ورحمة للصغير . وقيل : هما اشتباك الرحم . وقيل : المودة من الله ، والبغض من الشيطان .
( واختلاف ألسنتكم ) أي : لغاتكم ، فمن اطلع على لغات رأى من اختلاف تراكيبها أو قوانينها ، مع اتحاد المدلول ، عجائب وغرائب في المفردات والمركبات . وعن وهب : أن الألسنة اثنان وسبعون لسانا ، في ولد حام سبعة عشر ، وفي ولد سام تسعة عشر ، وفي ولد يافث ستة وثلاثون . وقيل : المراد باللغات : الأصوات والنغم . وقال : الألسنة : اللذات وأجناس النطف وأشكاله . خالف عز وجل بين هذه الأشياء حتى لا تكاد تسمع منطقين متفقين في همس واحد ، ولا جهارة ، ولا حدة ، ولا رخاوة ، ولا فصاحة ، ولا لكنة ، ولا نظم ، ولا أسلوب ، ولا غير ذلك من صفات النطق وأحواله . انتهى . ( الزمخشري وألوانكم ) السواد والبياض وغيرهما ، والأنواع والضروب بتخطيط الصور ، ولولا ذلك الاختلاف ، لوقع الالتباس وتعطلت مصالح كثيرة من المعاملات وغيرها . وفيه آية بينة ، حيث فرعوا من أصل واحد ، وتباينوا في الأشكال على كثرتهم . وقرأ الجمهور : ( للعالمين ) بفتح اللام ; لأنها في نفسها آية منصوبة للعالم . وقرأ حفص وحماد بن شعيب عن أبي بكر ، وعلقمة عن عاصم ، ويونس عن أبي عمرو : بكسر اللام ، إذ المنتفع بها إنما هم أهل العلم ، كقوله : ( وما يعقلها إلا العالمون ) . والظاهر أن ( بالليل والنهار ) متعلق ( بمنامكم ) فامتن تعالى بذلك ; لأن النهار قد يقام فيه ، وخصوصا من كان مشتغلا في حوائجه بالليل . ( وابتغاؤكم من فضله ) أي : فيهما ، أي : في الليل والنهار معا ; لأن بعض الناس قد يبتغي الفعل بالليل ، كالمسافرين والحراس بالليل وغيرهم .
وقال : هذا من باب اللف ، وترتيبه : ( الزمخشري ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم ) ولأنه فصل بين الفريقين الأولين بالقرينين الآخرين لأنهما زمانان ، والزمان والواقع فيه كشيء واحد مع إعانة اللف على ذلك ، ويجوز أن يراد ( منامكم ) في الزمانين ( وابتغاؤكم من فضله ) فيهما . والظاهر هو الأول لتكرره في القرآن ، وأسد المعاني ما دل عليه القرآن . وقال ابن عطية : وقال بعض المفسرين : في الكلام تقديم وتأخير ، وهذا ضعيف ، وإنما أراد أن ترتب النوم في الليل والابتغاء للنهار ، ولفظ الآية لا يعطي ذلك . ( ومن آياته يريكم البرق خوفا ) إما أن يتعلق من آياته بـ : ( يريكم ) ، فيكون في موضع نصب ، و ( من ) لابتداء الغاية ، أو يكون ( يريكم ) على إضمار " أن " ، كما قال :
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى
برفع أحضر ، والتقدير أن أحضر ، فلما حذف أن ، ارتفع الفعل ، وليس هذا من المواضع التي يحذف منها أن قياسا ، أو على إنزال الفعل منزلة المصدر من غير ما يسبكه له ، كما قال الخليل في قول :
أريد لأنسى حبها
أي أرادني لأنسى حبها ، فيكون التقدير في هذين الوجهين : ومن آياته إراءته إياكم البرق ، فمن آياته في موضع رفع على أنه خبر المبتدأ . وقال الرماني : يحتمل أن يكون التقدير : ومن آياته يريكم البرق بها ، وحذف لدلالة من عليها ، كما قال الشاعر :
وما الدهر إلا تارتان فمنهما أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح
أي : فمنهما تارة أموت ، ومن على هذه الأوجه الثلاثة للتبعيض . وانتصب ( خوفا وطمعا ) على أنهما مصدران في موضع الحال ، أي : خائفين وطامعين . وقيل : مفعول من أجله . وقال : وأجازه الزجاج على تقدير إرادة خوف وطمع ، فيتحد الفاعل في العامل والمحذوف ، ولا يصح أن يكون العامل ( يريكم ) ، لاختلاف الفاعل في العامل والمصدر . وقال الزمخشري : المفعولون فاعلون في المعنى ; لأنهم راءون مكانه ، فكأنه قيل : لجعلكم رائين البرق خوفا وطمعا . انتهى . وكونه فاعلا ، قيل : همزة التعدية لا تثبت له حكمه بعدها ، على أن المسألة فيها خلاف . مذهب الجمهور : اشتراط اتحاد [ ص: 168 ] الفاعل ، ومن النحويين من لا يشترطه . ولو قيل : على مذهب من يشترطه أن التقدير : يريكم البرق فترونه خوفا وطمعا ، فحذف العامل للدلالة ، لكان إعرابا سائغا واتحد فيها الفاعل . وقال الزمخشري الضحاك : خوفا من صواعقه ، وطمعا في مطره . وقال قتادة : خوفا للمسافر ، وطمعا للمقيم . وقيل : خوفا أن يكون خلبا ، وطمعا أن يكون ماطرا . وقال الشاعر :
لا يكن برقك برقا خلبا إن خير البرق ما الغيث معه
وقال ابن سلام : خوفا من البرد أن يهلك الزرع ، وطمعا في المطر أن يحييه . ( ومن آياته أن تقوم ) أن تثبت وتمسك ، مثل : وإذا أظلم عليهم قاموا : أي : ثبتوا بأمره ، أي : بإرادته . وإذا الأولى للشرط ، والثانية للمفاجأة جواب الشرط ، والمعنى : أنه لا يتأخر طرفة عين خروجكم عن دعائه ، كما يجيب الداعي المطاع مدعوه ، كما قال الشاعر :
دعوت كليبا دعوة فكأنما دعوت قرين الطود أو هو أسرع
قرين الطود : الصدى ، أو الحجر إذا تدهده . والطود : الجبل . والدعوة البعث من القبور ، و ( من الأرض ) يتعلق بـ : ( دعاكم ) ، و ( دعوة ) أي : مرة ، فلا يحتاج إلى تكرير دعائكم لسرعة الإجابة . وقيل : ( من الأرض ) صفة لـ : ( دعوة ) . وقال ابن عطية : و " من " عندي هنا لانتهاء الغاية ، كما يقول : دعوتك من الجبل إذا كان المدعو في الجبل . انتهى . وكون " من " لانتهاء الغاية قول مردود عند أصحابنا . وعن نافع ويعقوب : أنهما وقفا على دعوة ، وابتدآ من الأرض . ( إذا أنتم تخرجون ) علقا من الأرض بـ : ( تخرجون ) ، وهذا لا يجوز ; لأن فيه الفصل بين الشرط وجوابه ، بالوقف على ( دعوة ) فيه إعمال ما بعد إذا الفجائية فيما قبلها ، وهو لا يجوز . وقال : وقوله : ( إذا دعاكم ) بمنزلة قوله : ( يريكم ) في إيقاع الجملة موقع المفرد على المعنى ، كأنه قال : ومن آياته قيام السماوات والأرض ، ثم خروج الموتى من القبور إذا دعاهم دعوة واحدة : يا أهل القبور اخرجوا ، وإنما عطف هذا على قيام السماوات والأرض بـ : " ثم " ، بيانا لعظيم ما يكون من ذلك الأمر واقتداره على مثله ، وهو أن يقول : يا أهل القبور قوموا ، فلا تبقى نسمة من الأولين والآخرين إلا قامت تنظر . انتهى . وقرأ الزمخشري حمزة : ( تخرجون ) ، بفتح التاء وضم الراء ; وباقي السبعة : بضمها وفتح الراء . والكسائي
وبدأ أولا من الآيات بالنشأة الأولى ، وهي خلق الإنسان من التراب ، ثم كونه بشرا منتشرا ، وهو خلق حي من جماد ، ثم أتبعه بأن خلق له من نفسه زوجا ، وجعل بينهما تواد ، وذلك خلق حي من عضو حي . وقال : ( لقوم يتفكرون ) لأن ذلك لا يدرك إلا بالفكر في تأليف بين شيئين لم يكن بينهما تعارف ، ثم أتبعه بما هو مشاهد للعالم كلهم ، وهو خلق السماوات والأرض ، واختلاف اللغات والألوان ، والاختلاف من لوازم الإنسان لا يفارقه . وقال : ( للعالمين ) لأنها آية مكشوفة للعالم ، ثم أتبعه بالمنام والابتغاء ، وهما من الأمور المفارقة في بعض الأوقات ، بخلاف اختلاف الألسنة والألوان . وقال : ( لقوم يسمعون ) لأنه لما كان من أفعال العبادة قد يتوهم أنه لا يحتاج إلى مرشد ، فنبه على السماع ، وجعل البال من كلام المرشد . ولما ذكر عرضيات الأنفس اللازمة والمفارقة ، ذكر عرضيات الآفاق المفارقة من إراءة البرق وإنزال المطر ، وقدمها على ما هو من الأرض ، وهو الإتيان والإحياء ، كما قدم السماوات على الأرض ، وقدم البرق على الإنزال ; لأنه كالمبشر يجيء بين يدي القادم . والأعراب لا يعلمون البلاد المعشبة ، إن لم يكونوا قد رأوا البروق اللائحة من جانب إلى جانب . وقال : ( لقوم يعقلون ) لأن البرق والإنزال ليس أمرا عاديا فيتوهم أنه طبيعة ، إذ يقع ذلك ببلدة دون أخرى ، ووقتا دون وقت ، وقويا وضعيفا ، فهو أظهر في العقل دلالة على الفاعل المختار ، فقال : هو آية لمن عقل بأن لم يتفكر تفكرا تاما .
[ ص: 169 ] ثم ختم هذه الآيات بقيام السماوات والأرض ، وذلك من العوارض اللازمة ، فإن كلا من السماء والأرض لا يخرج عن مكانه ، فيتعجب من وقوف الأرض وعدم نزولها ، ومن علو السماء وثباتها من غير عمد . ثم أتبع ذلك بالنشأة الأخرى ، وهي الخروج من الأرض ، وذكر تعالى من كل باب أمرين : من الأنفس خلقكم وخلق لكم ، ومن الآفاق السماء والأرض ، ومن لوازم الإنسان اختلاف الألسنة واختلاف الألوان ، ومن خواصه المنام والابتغاء ، ومن عوارض الآفاق البرق والمطر ، ومن لوازمه قيام السماء وقيام الأرض .