( من في السماوات والأرض ) عام في كونهم تحت ملكه وقهره . وقال الحسن : ( قانتون ) قائمون بالشهادة على وحدانيته ، كما قال الشاعر :
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
وقال : مطيعون ، أي : في تصريفه ، لا يمتنع عنه شيء يريد فعله بهم ، من حياة وموت وصحة ومرض ، فهي طاعة الإرادة لا طاعة العبادة . وقيل : قائمون يوم القيامة ، يوم يقوم الناس لرب العالمين . وإذا حمل القنوت على الإخلاص ، كما قال ابن عباس ابن جبير ، أو على الإقرار بالعبودية ، أو قانتون من ملك ومؤمن ; لأن كل عام مخصوص . ( وهو أهون عليه ) أي : والعود أهون عليه ، وليست ( أهون ) أفعل تفضيل ; لأنه تفاوت عند الله في النشأتين : الإبداء والإعادة ، فلذلك تأوله ابن عباس على أنه بمعنى هين ، وكذا هو في مصحف عبد الله . والضمير في ( عليه ) عائد على الله . وقيل : ( أهون ) للتفضيل ، وذلك بحسب معتقد البشر وما يعطيهم النظر في المشاهد من أن الإعادة في كثير من الأشياء أهون من البداءة ، للاستغناء عن الروية التي كانت في البداءة ; وهذا ، وإن كان الاثنان عنده تعالى من اليسر في حيز واحد . وقيل : الضمير في ( عليه ) عائد على الخلق ، أي : والعود أهون على الخلق : بمعنى : أسرع ; لأن البداءة فيها تدرج من طور إلى طور ، إلى أن يصير إنسانا ، والإعادة لا تحتاج إلى هذه التدريجات في [ ص: 170 ] الأطوار ، إنما يدعوه الله فيخرج ، فكأنه قال : وهو أيسر عليه ، أي : أقصر مدة وأقل انتقالا . وقيل : المعنى وهو أهون على المخلوق ، أي : يعيد شيئا بعد إنشائه ، فهذا عرف المخلوقين ، فكيف تنكرون أنتم الإعادة في جانب الخالق ؟ قال والربيع بن خثيم ابن عطية : والأظهر عندي عود الضمير على الله تعالى ، ويؤيده قوله تعالى : ( وله المثل الأعلى ) كما جاء بلفظ فيه استعاذة واستشهاد بالمخلوق على الخالق ، وتشبيه بما يعهده الناس من أنفسهم ، خلص جانب العظمة ، بأن جعل له المثل الأعلى الذي لا يتصل به ، فكيف ولا تمثال مع شيء ؟ انتهى . وقال : فإن قلت : لم أخرت الصلة في قوله : ( الزمخشري وهو أهون عليه ) وقدمت في قوله : ( هو علي هين ) ؟ قلت : هنالك قصد الاختصاص ، وهو تجبره ، فقيل : وهو علي هين ، وإن كان مستصعبا عندك ، وإن تولد بين هرم وعاقر . وأما هنا لا معنى للاختصاص ، كيف والأمر مبني على ما يعقلون من أن الإعادة أسهل من الابتداء ؟ فلو قدمت الصلة لتغير المعنى . انتهى . ومبنى كلامه على أن تقديم المعمول يؤذن بالاختصاص ، وقد تكلمنا معه في ذلك ، ولم نسلمه في قوله : ( إياك نعبد ) .
( وله المثل الأعلى ) قيل : هو متعلق بما قبله ، قاله ، وهو قوله : ( الزجاج وهو أهون ) ; قد ضربه لكم مثلا فيما يسهل أو يصعب . وقيل : بما بعده من قوله : ( ضرب لكم مثلا من أنفسكم ) . وقيل : المثل : الوصف الأرفع الأعلى الذي ليس لغيره مثله ، وهو أنه القادر الذي لا يعجز عن شيء من إنشاء وإعادة وغيرهما . ( وهو العزيز ) أي : القاهر لكل شيء ، الحكيم الذي أفعاله على مقتضى حكمته . وعن مجاهد : المثل الأعلى قول : لا إله إلا الله ، وله الوصف بالوحدانية ، ويؤيده قوله : ( ضرب لكم ) .
وقال وغيره : بين تعالى أمر الأصنام وفساد معتقد من يشركها بالله ، بضربه هذا المثل ، ومعناه : أنكم أيها الناس ، إذا كان لكم عبيد تملكونهم ، فإنكم لا تشركونهم في أموالكم ومهم أموركم ، ولا في شيء على جهة استواء المنزلة ، وليس من شأنكم أن تخافوهم في أن يرثوا أموالكم ، أو يقاسمونكم إياها في حياتكم ، كما يفعل بعضكم ببعض ; فإذا كان هذا فيكم ، فكيف تقولون : إن من عبيده وملكه شركاء في سلطانه وألوهيته ، وتثبتون في جانبه ما لا يليق عندكم بجوانبكم ؟ وجاء هذا المعنى في معرض السؤال والتقرير . وقال ابن عباس : كانوا يورثون آلهتهم ، فنزلت . وقيل : لما نزلت قال السدي أهل مكة : لا يكون ذلك أبدا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فلم يجوز لربكم " ؟ و " من " في : ( من أنفسكم ) لابتداء الغاية ، كأنه قال : أخذ مثلا ، وانتزعه من أقرب شيء منكم ، وهو أنفسكم ، ولا يبعد . و " من " في : ( مما ملكت ) للتبعيض ، و " من " في : ( من شركاء ) زائدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي . يقول : ليس يرضى أحد منكم أن يشركه عبده في ماله وزوجته وما يختص به حتى يكون مثله ، فكيف ترضون شريكا لله ، وهو رب الأرباب ومالك الأحرار والعبيد ؟
وقال أبو عبد الله الرازي : وبين المثل والممثل به مشابهة ومخالفة . فالمشابهة معلومة ، والمخالفة من وجوه : قوله : ( من أنفسكم ) أي : من نسلكم ، مع حقارة الأنفس ونقصها وعجزها ، وقاس نفسه عليكم مع عظمتها وجلالتها وقدرتها . وقوله : ( مما ملكت أيمانكم ) أي : عبيدكم ، والملك ما قبل النقل بالبيع ، والزوال بالعتق ، ومملوكه تعالى لا خروج له عن الملك . فإذا لم يجز أن يشرككم مملوككم ، وهو مثلكم من جميع الوجوه ومثلكم في الآدمية ، حالة الرق ، فكيف يشرك الله مملوكه من جميع الوجوه المباين له بالكلية ؟ وقوله : ( فيما رزقناكم ) يعني أن الميسر لكم في الحقيقة إنما هو الله ومن رزقه حقيقة ، فإذا لم يجز أن يشرككم فيما هو لكم من حيث الاسم ، فكيف يكون له تعالى شريك فيما له من جهة الحقيقة ؟ انتهى ، وفيه بعض تلخيص . و ( شركاء ) في موضع رفع بالابتداء ، و ( فيما رزقناكم ) متعلق به ، و ( لكم ) الخبر ، و ( مما ملكت ) في موضع الحال ; لأنه نعت نكرة تقدم عليها ، وانتصب على الحال ، والعامل [ ص: 171 ] فيها العامل في الجار والمجرور ، والواقع خبرا ، وهو مقدر بعد المبتدأ . و " ما " في ( رزقناكم ) واقعة على النوع ، والتقدير : هل شركاء فيما رزقناكم كائنون من النوع الذي ملكته أيمانكم كائنون لكم ؟ ويجوز أن يتعلق ( لكم ) بـ : ( شركاء ) ، ويكون ( مما رزقناكم ) في موضع الخبر ، كما تقول : لزيد في المدينة مبغض ، ف : " لزيد " متعلق بـ : " مبغض " الذي هو مبتدأ ، و " في المدينة " الخبر ، و ( فأنتم فيه سواء ) جملة في موضع الجواب للاستفهام المضمن معنى النفي ، وفيه متعلق بـ " سواء " ، و ( تخافونهم ) خبر ثان لـ : " أنتم " ، والتقدير : فأنتم مستوون معهم فيما رزقناكم ، تخافونهم كما يخاف بعضكم بعضا أيها السادة . والمقصود نفي الشركة والاستواء والخوف ، وليس النفي منسحبا على الجواب وما بعده فقط ، كأحد وجهي : ما تأتينا فتحدثنا ، أي : ما تأتينا فتحدثنا ، إنما تأتي ولا تحدث ، بل هو على الوجه الآخر ، أي : ما تأتينا فكيف تحدثنا ؟ أي : ليس منك إتيان فلا يكون حديث . وكذلك هذا ليس لهم شريك ، فلا استواء ولا خوف . وقرأ الجمهور : بالنصب ، أضيف المصدر إلى الفاعل ; : بالرفع ، أضيف المصدر للمفعول ، وهما وجهان حسنان ، ولا قبح في إضافة المصدر إلى المفعول مع وجود الفاعل . وابن أبي عبيدة
( كذلك ) أي : مثل ذلك التفصيل ( نفصل الآيات ) أي : نبينها ; لأن التمثيل مما يكشف المعاني ويوضحها ; لأنه بمنزلة التصوير والتشكيل لها . ألا ترى كيف صور الشرك بالصورة المشوهة ؟ وقرأ الجمهور : ( نفصل ) ، بالنون ، حملا على ( رزقناكم ) ; وعباس عن : بياء الغيبة ، رعيا لـ : ( ضرب ) ، إذ هو مسند للغائب . وذكر بعض العلماء في هذه الآية دليلا على صحة أصل الشركة بين المخلوقين ، لافتقار بعضهم إلى بعض ، كأنه يقول : الممتنع والمستقبح شركة العبيد لساداتهم ; أما شركة السادات بعضهم لبعض فلا يمتنع ولا يستقبح . والإضراب بـ : " بل " في قوله : ( ابن عمر بل اتبع ) جاء على ما تضمنته الآية ، إذ المعنى : ليس لهم حجة ولا معذرة فيما فعلوا من إشراكهم بالله ، بل ذلك بمجرد هوى بغير علم ; لأنه قد يكون هوى للإنسان ، وهو يعلم . و ( الذين ظلموا ) هم المشركون ، اتبعوا أهواءهم جاهلين هائمين على أوجههم ، لا يرغمهم عن هواهم علم ، إذ هم خالون من العلم الذي قد يردع متبع الهوى . ( فمن يهدي من أضل الله ) أي : لا أحد يهدي من أضله الله ، أي : هؤلاء ممن أضلهم الله ، فلا هادي لهم . وقال : من أضل الله : من خذله الله ولم يلطف به ، لعلمه أنه ممن لا لطف له ممن يقدر على هداية مثله . ( الزمخشري وما لهم من ناصرين ) دليل على أن المراد بالإضلال الخذلان . انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال .
( فأقم وجهك للدين ) فقوم وجهك له وعد له غير ملتفت ، وهو تمثيل لإقباله على الدين ، واستقامته عليه ، وثباته واهتمامه بأسبابه . فإن من اهتم بالشيء ، عقد عليه طرفه وقوم له وجهه مقبلا به عليه ، والدين دين الإسلام . وذكر الوجه ; لأنه جامع حواس الإنسان وأشرفه . و ( حنيفا ) حال من الضمير في " أقم " ، أو من الوجه ، أو من الدين ، ومعناه : مائلا عن الأديان المحرفة المنسوخة . ( فطرة الله ) منصوب على المصدر ، كقوله : ( صبغة الله ) وقيل : منصوب بإضمار فعل تقديره : التزم فطرة الله . وقال : الزموا فطرة الله ، أو عليكم فطرة الله . وإنما أضمرت على خطاب الجماعة لقوله : ( الزمخشري منيبين إليه ) و " منيبين " حال من الضمير في " الزموا " . وقوله : ( وأقيموا ) ( ولا تكونوا ) معطوف على هذا المضمر . انتهى . وقيل : ( فأقم وجهك ) المراد به : فأقيموا وجوهكم ، وليس مخصوصا بالرسول وحده ، وكأنه خطاب لمفرد أريد به الجمع ، أي : فأقم أيها المخاطب ، ثم جمع على المعنى ; لأنه لا يراد به مخاطب واحد . فإذا كان هذا ، فقوله : ( منيبين ) ( وأقيموا ) ( ولا تكونوا ) ملحوظ فيه معنى الجمع . وقول : أو عليكم فطرة الله لا يجوز ; لأن فيه حذف كلمة الإغراء ، ولا يجوز حذفها ; لأنه قد حذف الفعل وعوض " عليك " منه . فلو جاء حذفه لكان إجحافا ، إذ فيه حذف العوض والمعوض منه . الزمخشري
والفطرة ، قيل : دين الإسلام ، و " الناس " مخصوصون [ ص: 172 ] بالمؤمنين . وقيل : العهد الذي أخذه الله على ذرية آدم حين أخرجهم نسما من ظهره ، ورجح الحذاق أنها القابلية التي في الطفل للنظر في مصنوعات الله ، والاستدلال بها على موجده ، فيؤمن به ويتبع شرائعه ، لكن قد تعرض له عوارض تصرفه عن ذلك ، كتهويد أبويه له ، وتنصيرهما ، وإغواء شياطين الإنس والجن .
( لا تبديل لخلق الله ) أي : لا تبديل لهذه القابلية من جهة الخالق . وقال مجاهد ، ، وابن جبير والضحاك ، والنخعي ، وابن زيد : لا تبديل لدين الله ، والمعنى : لمعتقدات الأديان ، إذ هي متفقة في ذلك . وقال : أي : ما ينبغي أن تبدل تلك الفطرة أو تغير . وقال الزمخشري : لا تبديل لقضاء الله بسعادتهم وشقاوتهم ، وقيل : هو نفي معناه : النهي ، أي : لا تبدلوا ذلك الدين . وقيل : ( ابن عباس لا تبديل لخلق الله ) بمعنى : الوحدانية مترشحة فيه ، لا تغير لها ، حتى لو سألته : من خلق السماوات والأرض ؟ يقول : الله . ويستغرب ما روي عن أن معنى ( ابن عباس لا تبديل لخلق الله ) النهي عن خصاء الفحول من الحيوان . وقول من ذهب إلى أن المعنى في هذه الجملة ألجأ على الكفرة ، اعترض به أثناء الكلام ، كأنه يقول : أقم وجهك للدين الذي من صفته كذا وكذا ، فإن هؤلاء الكفرة ومن خلق الله لهم الكفر ، و ( لا تبديل لخلق الله ) أي : أنهم لا يفلحون ، ذلك الذي أمرت بإقامة وجهك له ، هو الدين المبالغ في الاستقامة . والقيم : بياء مبالغة ، من القيام ، بمعنى الاستقامة ، ووزنه : فعيل ، أصله قيوم كيد ، اجتمعت الياء والواو ، وسبقت إحداهما بالسكون ، فقلبت الواو ياء ، وأدغمت الياء فيها ، وهو بناء مختص بالمعتل العين ، لم يجئ منه في الصحيح إلا بيئس وصيقل علم لامرأة .
( منيبين ) حال من ( الناس ) ولا سيما إذا أريد بالناس : المؤمنون ، أو من الضمير في : الزموا فطرة الله ، وهو تقدير ، أو من الضمير في : ( فأقم ) إذ المقصود : الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته ، وكأنه حذف معطوف ، أي : فأقم وجهك وأمتك . وكذا زعم الزمخشري في : ( الزجاج ياأيها النبي إذا طلقتم ) أي : يا أيها النبي والناس ، ودل على ذلك مجيء الحال في ( منيبين ) جمعا ، وفي ( إذا طلقتم ) جاء الخطاب فيه وفي ما بعده جمعا ، أو على خبر " كان " مضمرة ، أي : كونوا منيبين ، ويدل عليه قوله بعد ( ولا تكونوا ) وهذه احتمالات منقولة كلها . ( من المشركين ) من اليهود والنصارى ، قاله قتادة . وقال ابن زيد : هم اليهود ; وعن أبي هريرة وعائشة : أنهم أهل القبلة ، ولفظة الإشراك على هذا تجوز بأنهم صاروا في دينهم فرقا . والظاهر أن المشركين : كل من أشرك ، فيدخل فيهم أهل الكتاب وغيرهم . و ( من الذين ) بدل من المشركين ( فرقوا دينهم ) أي : دين الإسلام وجعلوه أديانا مختلفة لاختلاف أهوائهم . ( وكانوا شيعا ) كل فرقة تشايع إمامها الذي كان سبب ضلالها . ( كل حزب ) أي : منهم فرح بمذهبه مفتون به . والظاهر أن ( كل حزب ) مبتدأ و ( فرحون ) الخبر . وقال : ويجوز أن يكون ( من الذين ) منقطعا مما قبله ومعناه : من المفارقين دينهم . كل حزب فرحين بما لديهم ، ولكنه رفع ( فرحون ) على الوصف لـ : ( كل ) ، كقوله : الزمخشري
وكل خليل غير هاضم نفسه
انتهى . قدر أولا ( فرحين ) مجرورة صفة لحزب ، ثم قال : ولكنه رفع على الوصف لـ : ( كل ) ; لأنك إذا قلت : من قومك كل رجل صالح ، جاز في " صالح " الخفض نعتا لـ : " رجل " ، وهو الأكثر ، كقوله :
جادت عليه كل عين ثرة فتركن كل حديقة كالدرهم
وجاز الرفع نعتا لـ : ( كل ) ، كقوله :
وعليه هبت كل معصفة هوجاء ليس للبها زبر
يرفع " هوجاء " صفة لـ : " كل " .