( سخر لكم ) تنبيه على الصنعة الدالة على الصانع من تسخير ( ما في السماوات ) من الشمس ، والقمر ، والنجوم ، والسحاب ; [ ص: 190 ] ( وما في الأرض ) من الحيوان ، والنبات ، والمعادن ، والبحار ، وغير ذلك ; وذلك لا يكون إلا بمسخر من مالك متصرف كما يشاء . وقرأ ، ابن عباس ويحيى بن عمارة : " وأصبغ " بالصاد ، وهي لغة لبني كلب ، يبدلونها من السين ، إذا جامعت الغين أو الخاء أو القاف صادا ; وباقي القراء : بالسين على الأصل . وقرأ الحسن ، ، والأعرج وأبو جعفر ، وشيبة ، ونافع ، وأبو عمرو ، وحفص : ( نعمه ) جمعا مضافا للضمير ; وباقي السبعة ، : " نعمة " ، على الإفراد . والظاهر أنه يراد بالنعمة الظاهرة : الإسلام ، والباطنة : الستر . وعن وزيد بن علي الضحاك ، الظاهرة : حسن الصورة وامتداد القامة وتسوية الأعضاء ، والباطنة : المعرفة . وقيل : الظاهرة : البصر والسمع واللسان وسائر الجوارح ، والباطنة : القلب والعقل والفهم . والذي ينبغي أن يقال : إن الظاهرة مما يدرك بالمشاهدة ، والباطنة ما لا يعلم إلا بدليل ، أو لا يعلم أصلا . فكم من نعمة في بدن الإنسان لا يعلمها ، ولا يهتدي إلى العلم بها ؟ وانتصب ( ظاهرة ) على الحال من ( نعمه ) الجمع على الصفة ، ومن نعمة على الإفراد . وتقدم الكلام على : ( ومن الناس ) إلى : ( منير ) في الحج ، وعلى ما بعده إلى : ( آباءنا ) في نظيره في البقرة . ( أولو ) كان تقديره : أيتبعونهم في أحوالهم ؟ وفي هذه الحال التي لا ينبغي أن لا يتبع فيها الآباء ؟ لأنها حال تلف وعذاب . وقد تقدم لنا أن مثل هذا التركيب الذي فيه " ولو أنما " يكون في الشيء الذي كان ينبغي أن لا يكون ، نحو : أعطوا السائل ولو جاء على فرس ، ردوا السائل ولو بظلف محرق ( وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين ) . وكذلك هذا ، كان ينبغي من دعا إلى عذاب السعير أن لا يتبع . وقرأ الجمهور :
( ومن يسلم ) مضارع أسلم ; وعلي ، والسلمي ، وعبد الله بن مسلم بن يسار : بتشديد اللام ، مضارع سلم ، وتقدم الكلام على نظير هذه الجملة في البقرة ، والمراد : التفويض إلى الله . ( فقد استمسك بالعروة الوثقى ) تقدم الكلام عليه في البقرة . وقال : من باب التمثيل مثلت حال المتوكل بحال من تدلى من شاهق ، فاحتاط لنفسه بأن استمسك بأوثق عروة من حبل متين مأمون انقطاعه . انتهى . ولما ذكر حال الكافر المجادل ، ذكر حال المسلم ، وأخبر بأن منتهى الأمور صائرة إليه . وقال الزمخشري ابن عطية : والعروة : موضع التعليق ، فكأن المؤمن متعلق بأمر الله ، فشبه ذلك بالعروة . وسلى رسوله بقوله : ( ومن كفر ) إلى آخره ، وشبه إلزام العذاب وإرهاقهم إليه باضطرار من يضطر إلى الشيء الذي لا يمكنه دفعه ، ولا الانفكاك منه . والغلظ يكون في الإجرام ، فاستعير للمعنى ، والمراد : الشدة . ( ليقولن الله ) أقام الحجة عليهم بأنهم يقرون بأن الله هو خالق العالم بأسره ، ويدعون مع ذلك إلها غيره . ( قل الحمد لله ) على ظهور الحجة عليهم . ( بل أكثرهم لا يعلمون ) إضراب عن مقدر ، تقديره : ليس دعواهم ، نحو : لا يعلمون أن ما ارتكبوه من ادعاء إله غير الله لا يصح ، ولا يذهب إليه ذو علم . ثم أخبر أنه مالك للعالم كله ، وأنه هو الغني ، فلا افتقار له لشيء من الموجودات . ( الحميد ) المستحق الحمد على ما أنشأ وأنعم .
( ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام ) تقدم في أول السورة سبب نزول هذه الآية . ولما ذكر تعالى أن ما في السماوات والأرض ملك له ، وكان ذلك متناهيا ، بين أن في قدرته وعلمه عجائب لا نهاية لها ، فقال : ( ولو أنما في الأرض ) وأن بعد لو في موضع رفع على الفاعلية ، أي : لو وقع أو ثبت على رأي ، أو في موضع مبتدأ محذوف الخبر على رأي غيره ، وتقرر ذلك في علم النحو . و ( المبرد من شجرة ) تبيين لـ : " ما " ، وهو في التقرير في موضع الحال من الضمير الذي في الجار والمجرور المنتقل من العامل فيه ، وتقديره : ولو أن الذي استقر في الأرض كائنا من شجرة وأقلام خبر لـ : " أن " ، وفيه دليل على بطلان دعوى وبعض العجم ممن ينصر قوله : إن خبر أن الجائية بعد لو لا يكون اسما جامدا ولا اسما مشتقا ، بل يجب أن يكون فعلا ، وهو قول باطل ، ولسان العرب طافح بالزيادة عليه . قال الشاعر : الزمخشري
[ ص: 191 ]
ولو أنها عصفورة لحسبتها مسومة تدعو عبيدا وأزنما
وقال الآخر :
ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر تنبو الحوادث عنه وهو ملموم
وقال آخر :
ولو أن حيا فائت الموت فاته أخو الحرب فوق القارح العدوان
وهو كثير في لسانهم . والظاهر أن الواو في قوله : ( والبحر ) في قراءة من رفع ، وهم الجمهور ، واو الحال ; والبحر مبتدأ ، و ( يمده ) الخبر ، أي : حال كون البحر ممدودا . وقال : عطفا على محل إن ومعمولها على ولو ثبت كون الأشجار أقلاما ، وثبت أن البحر ممدودا بسبعة أبحر . انتهى . وهذا لا يتم إلا على رأي الزمخشري ، حيث زعم أن ( أن ) في موضع رفع على الفاعلية . وقال بعض النحويين : هو عطف على أن ; لأنها في موضع رفع بالابتداء ، وهو لا يتم إلا على رأي من يقول : إن " أن " بعد " لو " في موضع رفع على الابتداء ، ولولا يليها المبتدأ اسما صريحا إلا في ضرورة شعر ، نحو قوله : المبرد
لو بغير الماء حلقي شرق كنت كالغصان بالماء اعتصاري
فإذا عطفت ( والبحر ) على أن ومعموليها ، وهما رفع بالابتداء ، لزم من ذلك أن " لو " يليها الاسم مبتدأ ، إذ يصير التقدير : ولو البحر ، وذلك لا يجوز إلا في الضرورة ، إلا أنه قد يقال : إنه يجوز في المعطوف عليه نحو : رب رجل وأخيه يقولان ذلك . وقرأ عبد الله : " وبحر يمده " ، بالتنكير بالرفع ، والواو للحال ، أو للعطف على ما تقدم ; وإن كانت الواو واو الحال ، كان " بحر " ، وهو نكرة ، مبتدأ ، وذكروا في مسوغات الابتداء بالنكرة أن تكون واو الحال تقدمته ، نحو قوله :
سرينا ونجم قد أضاء فقد بدا محياك أخفى ضوؤه كل شارق
وقرأ الجمهور : ( يمده ) بالياء ، من مد ; ، وابن مسعود : بتاء التأنيث ، من مد أيضا ; وابن عباس وعبد الله أيضا ، والحسن ، وابن مطرف ، وابن هرمز : بالياء من تحت ، من أمد ; وجعفر بن محمد : " والبحر مداده " ، أي : يكتب به من السواد . وقال ابن عطية : هو مصدر . انتهى . ( من بعده ) أي : من بعد نفاد ما فيه ( سبعة أبحر ) لا يراد به الاقتصار على هذا العدد ، بل جيء للكثرة ، كقوله : ، لا يراد به العدد ، بل ذلك إشارة إلى القلة والكثرة . ولما كان لفظ " سبعة " ليس موضوعا في الأصل للتكثير ، وإن كان مرادا به التكثير ، جاء مميزه بلفظ القلة ، وهو " أبحر " ، ولم يقل : بحور ، وإن كان لا يراد به أيضا إلا التكثير ، ليناسب بين اللفظين . فكما يجوز في " سبعة " ، واستعمل للتكثير ، كذلك يجوز في " أبحر " ، واستعمل للتكثير . وفي الكلام جملة محذوفة يدل عليها المعنى : وكتب بها الكتاب كلمات الله ( المؤمن يأكل في معى واحد ، والكافر في سبعة أمعاء ما نفدت ) والمعنى : ولو أن أشجار الأرض أقلام ، والبحر ممدود بسبعة أبحر ، وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات الله ( ما نفدت ) ونفدت الأقلام والمداد الذي في البحر وما يمده ، كما قال : ( لو كان البحر مدادا لكلمات ربي ) الآية . وقال : فإن قلت : زعمت أن قوله : ( الزمخشري والبحر يمده ) حال في أحد وجهي الرفع ، وليس فيه ضمير راجع إلى ذي الحال ، قلت : هو كقوله :
وقد أغتدي والطير في وكناتها
وجئت والجيش مصطف ، وما أشبه ذلك من الأحوال التي حكمها حكم الظروف . يجوز أن يكون المعنى : وبحرها ، والضمير للأرض . انتهى . وهذا الذي جعله سؤالا وجوابا من واضح النحو الذي لا يجهله المبتدئون فيه ، وهو أن الجملة الاسمية إذا كانت حالا بالواو ، لا يحتاج إلى ضمير يربط ، واكتفي بالواو فيها . وأما قوله : وما أشبه ذلك من الأحوال التي حكمها حكم الظروف ، فليس بجيد ; لأن الظرف [ ص: 192 ] إذا وقع حالا ، ففي العامل فيه ضمير ينتقل إلى الظرف . والجملة الاسمية إذا كانت حالا بالواو ، فليس فيها ضمير منتقل . وأما قوله : ويجوز ، فلا يجوز إلا على رأي الكوفيين ، حيث يجعلون " أل " عوضا من الضمير . وقال : فإن قلت : لم قيل : ( الزمخشري من شجرة ) على التوحيد دون اسم الجنس الذي هو شجر ؟ قلت : أريد تفصيل الشجر ونقضها شجرة شجرة ، حتى لا يبقى من جنس الشجر واحدة إلا قد بريت أقلاما . انتهى . وهذا النوع هو مما أوقع فيه المفرد موقع الجمع ، والنكرة موقع المعرفة ، ونظيره : ( ما ننسخ من آية ) ( ما يفتح الله للناس من رحمة ) ( ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة ) ; وكقول العرب : هو أول فارس ، وهذا أفضل عالم ، يريد من الآيات ومن الرحمات ومن الدواب ، وأول الفرسان . أخبروا بالمفرد والنكرة ، وأرادوا به معنى الجمع المعرف بأل ، وهو مهيع في كلام العرب معروف . وكذلك يتقدر هذا من الشجرات ، أو من الأشجار . وفي هذا الكلام من المبالغة في تكثير الأقلام والمداد ما ينبغي أن يتأمل ، وذلك أن الأشجار مشتمل كل واحدة منها على الأغصان الكثيرة ، وتلك الأغصان كل غصن منها يقطع على قدر القلم ، فيبلغ عدد الأقلام في التناهي إلى ما لا يعلم به ، ولا يحيط إلا الله تعالى .
وقرأ الجمهور : ( ما نفدت كلمات الله ) بالألف والتاء . وقرأ : " كلمة الله " ، على التوحيد . وقرأ زيد بن علي الحسن : " ما نفد " ، بغير تاء ، " كلام الله " . قال أبو علي : المراد بالكلمات ، والله أعلم : ما في المعدوم دون ما خرج من العدم إلى الوجود . وقالت فرقة : المراد بكلمات الله : معلوماته . وقال : فإن قلت : الكلمات جمع قلة ، والمواضع مواضع التكثير لا التقليل ، فهلا قيل : كلم الله ؟ ( قلت ) معناه أن كلماته لا تفي بكتبها البحار ، فكيف بكلمه ؟ انتهى . وعلى تسليم أن كلمات جمع قلة ، فجموع القلة إذا تعرفت بالألف واللام غير العهدية ، أو أضيفت ، عمت وصارت لا تخص القليل ، والعام مستغرق لجميع الأفراد . ( الزمخشري إن الله عزيز ) كامل القدرة ، فمقدوراته لا نهاية لها . ( حكيم ) كامل العلم ، فمعلوماته لا نهاية لها . ولما ذكر تعالى كمال قدرته وعلمه ، ذكر ما يبطل استبعادهم للحشر . ( إلا كنفس واحدة ) إلا كخلق نفس واحدة وبعثها ، ومن لا نفاد لكلماته يقول للموتى : كونوا ، فيكونون ، فالقليل والكثير ، والواحد والجمع ، لا يتفاوت في قدرته . وقال النقاش : هذه الآية في أبي بن خلف ، وأبي الأسد ، ونبيه ومنبه ابني الحجاج ، قالوا : يا محمد : إنا نرى الطفل يخلق بتدريج ، وأنت تقول : الله يعيدنا دفعة واحدة ، فنزلت . ( إن الله سميع بصير ) سميع كل صوت ، بصير يبصر كل مبصر في حالة واحدة ، لا يشغله إدراك بعضها عن بعض ، فكذلك الخلق والبعث .