[ ص: 233 ] قال الجمهور ، ، وابن عباس وقتادة ، ومجاهد ، وغيرهم : خطب الرسول صلى الله عليه وسلم لزيد ، فأبت وقالت : لست بناكحة ، فقال : " زينب بنت جحش بلى فأنكحيه فقد رضيته لك " ، فأبت ، فنزلت . وذكر أنها وأخاها عبد الله كرها ذلك ، فلما نزلت الآية رضيا . وقال ابن زيد : وهبت ، وهي أول امرأة وهبت للنبي نفسها ، فقال : " أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط قد قبلتك وزوجتك زيد بن حارثة " ، فسخطت هي وأخوها ، قالا : إنما أردناه فزوجنا عبده ، فنزلت ، والسبب الأول أصح . ومناسبة هذه الآية أنه لما ذكر تلك الأوصاف السابقة من الإسلام فما بعده ، عقب ذلك بما صدر من بعض المسلمين ، إذ أشار الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر وقع منهم الإباء له ، فأنكر عليهم ، إذ طاعته ، عليه السلام ، من طاعة الله ، وأمره من أمره .
و ( الخيرة ) مصدر من تخير على غير قياس ، كالطيرة من تطير . وقرئ : بسكون الياء ، ذكره عيسى بن سليمان . وقرأ الحرميان ، والعربيان ، وأبو جعفر ، وشيبة ، والأعرج وعيسى : " أن تكون " ، بتاء التأنيث ; [ ص: 234 ] والكوفيون ، والحسن ، ، والأعمش والسلمي : بالياء . ولما كان قوله : ( لمؤمن ولا مؤمنة ) يعم في سياق النفي ، جاء الضمير مجموعا على المعنى في قوله : ( لهم ) مغلبا فيه المذكر على المؤنث . وقال : كان من حق الضمير أن يوحد ، كما تقول : ما جاءني من رجل ولا امرأة إلا كان من شأنه كذا . انتهى . ليس كما ذكر ; لأن هذا عطف بالواو ، فلا يجوز إفراد الضمير إلا على تأويل الحذف ، أي : ما جاءني من رجل إلا كان من شأنه كذا ، وتقول : ما جاء زيد ولا عمرو إلا ضربا خالدا ، ولا يجوز إلا ضرب إلا على الحذف ، كما قلنا . الزمخشري
( وإذ تقول ) الخطاب للرسول ، عليه السلام . ( للذي أنعم الله عليه ) بالإسلام ، وهو أجل النعم ، وهو الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم تبناه . ( زيد بن حارثة وأنعمت عليه ) وهو عتقه ، وتقدم طرف من قصته في أوائل السورة . ( أمسك عليك زوجك ) وهي ، وتقدم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان خطبها له . وقيل : أنعم الله عليه بصحبتك ومودتك ، وأنعمت عليه بتبنيه . زينب بنت جحش فجاء زيد فقال : يا رسول الله ، إني أريد أن أفارق صاحبتي ، فقال : " أرابك منها شيء ؟ " قال : لا والله ولكنها تعظم علي لشرفها وتؤذيني بلسانها ، فقال : " ( أمسك عليك زوجك ) " ، أي : لا تطلقها ، وهو أمر ندب ، " ( واتق الله ) في معاشرتها " . فطلقها ، وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعد انقضاء عدتها . وعلل تزويجه إياها بقوله : ( لكي لا يكون على المؤمنين حرج ) في أن يتزوجوا زوجات من كانوا تبنوه إذا فارقوهن ، وأن هؤلاء الزوجات ليست داخلات فيما حرم في قوله : ( وحلائل أبنائكم ) .
وقال علي بن الحسين : كان قد أوحى الله إليه أن زيدا سيطلقها ، وأنه يتزوجها بتزويج الله إياها . فلما شكا زيد خلقها ، وأنها لا تطيعه ، وأعلمه بأنه يريد طلاقها ، قال له " ( أمسك عليك زوجك واتق الله ) " ، على طريق الأدب والوصية ، وهو يعلم أنه سيطلقها . وهذا هو الذي أخفى في نفسه ، ولم يرد أنه يأمره بالطلاق . ولما علم من أنه سيطلقها ، وخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلحقه قول من الناس في أن يتزوج زينب بعد زيد ، وهو مولاه ، وقد أمره بطلاقها ، فعاتبه الله على هذا القدر في شيء قد أباحه الله بأن قال ; ( أمسك ) مع علمه أنه يطلق ، فأعلمه أن الله أحق بالخشية ، أي : في كل حال . انتهى . وهذا المروي عن علي بن الحسين ، هو الذي عليه أهل التحقيق من المفسرين ، ، كالزهري وبكر بن العلاء ، والقشيري ، وغيرهم . والمراد بقوله : ( والقاضي أبي بكر بن العربي وتخشى الناس ) إنما هو إرجاف المنافقين في تزويج نساء الأنبياء ، والنبي معصوم في حركاته وسكناته . ولبعض المفسرين كلام في الآية يقتضي النقص من منصب النبوة ، ضربنا عنه صفحا . وقيل ; قوله ( واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه ) خطاب من الله عز وجل ، أو من النبي صلى الله عليه وسلم لزيد ، فإنه أخفى الميل إليها ، وأظهر الرغبة عنها ، لما توهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن تكون من نسائه . انتهى .
في هذه الآية كلام طويل ، وبعضه لا يليق ذكره بما فيه غير صواب مما جرى فيه على مذهب الاعتزال وغيره ، واخترت منه ما أنصه . قال : كم من شيء يتحفظ منه الإنسان ويستحيي من إطلاع الناس عليه ، وهو في نفسه مباح متسع وحلال مطلق ، لا مقال فيه ولا عيب عند الله . وربما كان الدخول في ذلك المباح سلما إلى حصول واجبات ، لعظم أثرها في الدين ، ويجل ثوابها ، ولو لم يتحفظ منه ، لأطلق كثير من الناس فيه ألسنتهم ، إلا من أوتي فضلا وعلما ودينا ونظرا في حقائق الأشياء ولبابها دون قشورها . ألا ترى أنهم كانوا إذا طمعوا في بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بقوا مرتكزين في مجالسهم لا يديمون مستأنسين بالحديث . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذيه قعودهم ، ويضيق صدره حديثهم ، والحياء يصده أن يأمرهم بالانتشار حتى نزلت : ( وللزمخشري إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق ) . ولو أبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم مكنون [ ص: 235 ] ضميره ، وأمرهم أن ينتشروا ، لشق عليهم ، ولكان بعض المقالة . فهذا من ذلك القبيل ; لأن طموح قلب الإنسان إلى بعض مشتهياته ، من امرأة أو غيرها ، غير موصوف بالقبح في العقل ولا في الشرع . وتناول المباح بالطريق الشرعي ليس بقبيح أيضا ، وهو خطبة زينب ونكاحها من غير استنزال زيد عنها ، ولا طلب إليه . ولم يكن مستنكرا عندهم أن ينزل الرجل منهم عن امرأته لصديقه ، ولا مستهجنا إذا نزل عنها أن ينكحها الآخر . فإن المهاجرين حين دخلوا المدينة ، آثرتهم الأنصار بكل شيء ، حتى أن الرجل منهم إذا كانت له امرأتان نزل عن إحداهما وأنكحها المهاجر . وإذا كان الأمر مباحا من جميع جهاته ، ولم يكن فيه وجه من وجوه القبح ، ولا مفسدة ولا مضرة بزيد ولا بأحد ، بل كان مستجرا مصالح ; ناهيك بواحدة منها : أن بنت عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أمنت الأيمة والضيعة ونالت الشرف وعادت أما من أمهات المؤمنين ، إلى ما ذكر الله عز وجل من المصلحة العامة في قوله : ( لكي لا يكون ) الآية . انتهى ما اخترناه من كلام . وقوله : ( الزمخشري أمسك عليك ) فيه وصول الفعل الرافع الضمير المتصل إلى الضمير المجرور وهما لشخص واحد ، فهو كقوله :
هون عليك ودع عنك نهبا صيح في حجراته
وذكروا في مثل هذا التركيب أن " على " و " عن " اسمان ، ولا يجوز أن يكونا حرفين ، لامتناع فكر فيك ، وأعني بك ، بل هذا مما يكون فيه النفس ، أي : فكر في نفسك ، وأعني بنفسك ، وقد تكلمنا على هذا في قوله : ( وهزي إليك ) ( واضمم إليك جناحك ) . وقال الحوفي : ( وتخفي في نفسك ) مستأنف ( وتخشى ) معطوف على ( وتخفي ) . وقال : واو الحال ، أي : تقول الزمخشري لزيد : ( أمسك عليك زوجك ) مخفيا في نفسك إرادة أن لا يمسكها ، وتخفي خاشيا قالة الناس ، أو واو العطف ، كأنه قيل : وأن تجمع بين قولك : ( أمسك ) وإخفاء قالة وخشية الناس . انتهى . ولا يكون ( وتخفي ) حالا على إضمار مبتدأ ، أي : وأنت تخفي ; لأنه مضارع مثبت ، فلا يدخل عليه الواو إلا على ذلك الإضمار ، وهو مع ذلك قليل نادر ، لا يبنى على مثله القواعد ; ومنه قولهم : قمت وأصك عينه ، أي : وأنا أصك عينه . ( والله أحق أن تخشاه ) تقدم إعراب نظيره في التوبة .
( فلما قضى زيد منها وطرا ) أي : حاجة ، قيل : وهو الجماع ، قاله . وروى ابن عباس أبو عصمة نوح بن أبي مريم ، بإسناد رفعه إلى زينب ، أنها قالت : ما كنت أمتنع منه ، غير أن الله منعني منه . وقيل : إنه مذ تزوجها لم يتمكن من الاستمتاع بها . وروي أنه كان يتورم ذلك منه حين يريد أن يقر بها . وقال قتادة : الوطر هنا : الطلاق . وقرأ الجمهور : ( زوجناكها ) بنون العظمة ; وجعفر بن محمد ، ، وأخواه وابن الحنفية الحسن والحسين ، وأبوهم علي : زوجتكها ، بتاء الضمير للمتكلم . ونفى تعالى الحرج عن المؤمنين في إجراء أزواج المتبنين مجرى أزواج النبيين في تحريمهن عليهن بعد انقطاع علائق الزواج بينهم وبينهن . ( وكان أمر الله ) أي : مقتضى أمر الله ، أو مضمن أمره . قال ابن عطية : وإلا فالأمر قديم لا يوصف بأنه مفعول ، ويحتمل على بعد أن يكون الأمر واحد الأمور التي شأنها أن تفعل . وقال : ( وكان أمر الله ) الذي يريد أن يكونه ( مفعولا ) مكونا لا محالة ، وهو مثل لما أراد كونه من تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم الزمخشري زينب . ويجوز أن يراد بأمر الله المكون ; لأنه مفعول يكون . ولما نفى الحرج عن المؤمنين فيما ذكر ، واندرج الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم ، إذ هو سيد المؤمنين ، نفى عنه الحرج بخصوصه ، وذلك على سبيل التكريم والتشريف ، ونفى الحرج عنه مرتين ، إحداهما بالاندراج في العموم ، والأخرى بالخصوص .
( فيما فرض الله له ) قال الحسن : فيما خص به من صحة النكاح بلا صداق . وقال قتادة : فيما أحل له . وقال الضحاك : في الزيادة على الأربع ، وكانت اليهود عابوه بكثرة النكاح وكثرة [ ص: 236 ] الأزواج ، فرد الله عليهم بقوله : ( سنة الله ) أي : في الأنبياء بكثرة النساء ، حتى كان لسليمان ، عليه السلام ، ثلاثمائة حرة وسبعمائة سرية ، وكان لداود مائة امرأة وثلاثمائة سرية . وقيل : الإشارة إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم جمع بينه وبين زينب ، كما جمع بين داود وبين التي تزوجها بعد قتل زوجها . وانتصب ( سنة الله ) على أنه اسم موضوع موضع المصدر ، قاله ; أو على المصدر ; أو على إضمار فعل تقديره : الزم ، أو نحوه ، أو على الإغراء ، كأنه قال : فعليه سنة الله . قال الزمخشري ابن عطية : وقوله : أو على الإغراء ، ليس بجيد ; لأن عامل الاسم في الإغراء لا يجوز حذفه ، وأيضا فتقديره : فعليه سنة الله بضمير الغيبة ، ولا يجوز ذلك في الإغراء ، إذ لا يغرى غائب . وما جاء من قولهم : عليه رجلا ليسني ، له تأويل ، وهو مع ذلك نادر . و ( الذين خلوا ) الأنبياء ، بدليل وصفهم بعد قوله : ( الذين يبلغون رسالات الله ) . ( وكان أمر الله ) أي : مأموراته ، والكائنات من أمره ، فهي مقدورة . وقوله : ( قدرا ) أي : ذا قدر ، أو عن قدر ، أو قضاء مقضيا وحكما مثبوتا . و ( الذين ) صفة ( الذين خلوا ) ، أو مرفوع ، أو منصوب على إضمارهم ، أو على : أمدح . وقرأ عبد الله : الذين بلغوا ، جعله فعلا ماضيا . وقرأ أبي : " رسالة الله " على التوحيد ; والجمهور : " يبلغون رسالات " جمعا . ( وكفى بالله حسيبا ) أي : محاسبا على جميع الأعمال والعقائد ، أو محسبا : أي : كافيا .
ثم نفى تعالى كون رسوله ( أبا أحد من رجالكم ) بينه وبين من تبناه من حرمة الصهارة والنكاح ما يثبت بين الأب وولده . هذا مقصود هذه الجملة ، وليس المقصود أنه لم يكن له ولد ، فيحتاج إلى الاحتجاج في أمر بنيه بأنهم كانوا ماتوا ، ولا في أمر الحسن والحسين بأنهما كانا طفلين . وإضافة ( رجالكم ) إلى ضمير المخاطبين يخرج من كان من بنيه ; لأنهم رجاله ، لا رجال المخاطبين . وقرأ الجمهور ; ( ولكن رسول ) بتخفيف " لكن " ونصب " رسول " على إضمار كان ، لدلالة " كان " المتقدمة عليه ; قيل : أو على العطف على ( أبا أحد ) . وقرأ عبد الوارث ، عن أبي عمرو : بالتشديد والنصب على أنه خبر " لكن " ، والخبر محذوف تقديره : ولكن رسول الله وخاتم النبيين هو ، أي : محمد . وحذف خبر لكن وأخواتها جائز إذا دل عليه الدليل . ومما جاء في ذلك قول الشاعر :
فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي ولكن زنجيا عظيم المشافر
أي : أنت لا تعرف قرابتي . وقرأ ، زيد بن علي : بالتخفيف ، ورفع " ورسوله " و " خاتم " ، أي : ولكن هو رسول ، كما قال الشاعر : وابن أبي عبلة
ولست الشاعر السقاف فيهم ولكن مدرة الحرب العوال
أي : لكن أنا مدرة . وقرأ الجمهور : ( خاتم ) بكسر التاء ، بمعنى أنه ختمهم ، أي : جاء آخرهم . وروي عنه أنه قال : أنا خاتم ألف نبي ، وعنه : أنا خاتم النبيين في حديث " واللبنة " . وروي عنه ، عليه السلام ، ألفاظ تقتضي نصا أنه لا نبي بعده ، والمعنى أن لا يتنبأ أحد بعده ، ولا يرد نزول عيسى آخر الزمان ; لأنه ممن نبئ قبله ، وينزل عاملا على شريعة محمد مصليا إلى قبلته كأنه بعض أمته . قال ابن عطية : وما ذكره القاضي أبو الطيب في كتابه المسمى بالهداية ، من تجويز الاحتمال في ألفاظ هذه الآية ضعيف ، وما ذكره في هذه الآية ، وهذا المعنى في كتابه الذي سماه بالاقتصاد ، وتطرق إلى ترك تشويش عقيدة المسلمين في ختم الغزالي محمد النبوة ، فالحذر الحذر منه ، والله الهادي برحمته . وقرأ الحسن ، ، والشعبي ، وزيد بن علي بخلاف ; والأعرج وعاصم : بفتح التاء بمعنى : أنهم به ختموا ، فهو كالخاتم والطابع لهم .
ومن ذهب إلى أن النبوة مكتسبة لا تنقطع ، أو إلى أن الولي أفضل من النبي ، فهو زنديق يجب قتله . وقد ادعى النبوة ناس ، فقتلهم المسلمون على ذلك . وكان في عصرنا شخص من الفقراء ادعى النبوة بمدينة مالقة ، فقتله السلطان ، ملك الأندلس ابن الأحمر بغرناطة ، [ ص: 237 ] وصلب إلى أن تناثر لحمه .
( وكان الله بكل شيء عليما ) هذا عام ، والقصد هنا علمه تعالى بما رآه الأصلح لرسوله ، وبما قدره في الأمر كله ، ثم أمر المؤمنين بذكره بالثناء عليه وتحميده وتقديسه ، وتنزيهه عما لا يليق به . والذكر الكثير ، قال : أن لا ينساه أبدا ، أو التسبيح مندرج في الذكر ، لكنه خص بأنه ينزهه تعالى عما لا يليق به ، فهو أفضل ، أو من أفضل الأذكار . وعن ابن عباس قتادة : قولوا : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله . وعن مجاهد : هذه الكلمات يقولها الطاهر والجنب . و ( بكرة وأصيلا ) يقتضيهما : " اذكروا " و " سبحوا " ، والنصب بالثاني على طريق الإعمال ، والوقتان كناية عن جميع الزمان ، ذكر الطرفين إشعار بالاستغراق . وقال : أي : صلوا صلاة الفجر والعشاء . وقال ابن عباس الأخفش : ما بين العصر إلى العشاء . وقال قتادة : الإشارة بهذين الوقتين إلى صلاة الغداة وصلاة العصر ; ويجوز أن يكون الأمر بالذكر وإكثاره تكثيرا لطاعات والإقبال على الطاعات ، فإن كل طاعة وكل خير من جملة الذكر . ثم خص من ذلك التسبيح ( بكرة وأصيلا ) ، وهي الصلاة في جميع أوقاتها ، تفضل الصلاة غيرها ، أو صلاة الفجر والعشاء ; لأن أداءهما أشق .
ولما أمرهم بالذكر والتسبيح ، ذكر إحسانه تعالى بصلاته عليهم هو وملائكته . قال الحسن : ( يصلي عليكم ) يرحمكم . وقال ابن جبير : يغفر لكم . وقال أبو العالية يثني عليكم . وقيل : يترأف بكم . وصلاة الملائكة الاستغفار ، كقوله تعالى : ( ويستغفرون للذين آمنوا ) . وقال مقاتل : الدعاء ، والمعنى : هو الذي يترحم عليكم ، حيث يدعوكم إلى الخير ، ويأمركم بإكثار الذكر والطاعة ، ليخرجكم من ظلمات المعصية إلى نور الطاعة . وقال ابن زيد : من الضلالة إلى الهدى . وقال مقاتل : من الكفر إلى الإيمان . وقيل : من النار إلى الجنة ، حكاه الماوردي . وقيل : من القبور إلى البعث . ( وملائكته ) معطوف على الضمير المرفوع المستكن في ( يصلي ) فأغنى الفصل بالجار والمجرور عن التأكيد ، وصلاة الله غير صلاة الملائكة ، فكيف اشتركا في قدر مشترك ؟ وهو إرادة وصول الخير إليهم . فالله تعالى يريد برحمته إياهم إيصال الخير إليهم ، وملائكته يريدون بالاستغفار ذلك . وقال : جعلوا لكونهم مستجابي الدعوة ، كأنهم فاعلون الرحمة والرأفة ، ونظيره قولهم : حياك الله : أي : أحياك وأبقاك ، وحييتك : أي : دعوت لك بأن يحييك الله ; لأنك لاتكالك على إجابة دعوتك كأنك تبقيه على الحقيقة ; وكذلك عمرك الله وعمرتك ، وسقاك الله وسقيتك ، وعليه قوله ; ( الزمخشري إن الله وملائكته يصلون على النبي ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه ) أي : ادعوا له بأن يصلى عليه . ( وكان بالمؤمنين رحيما ) دليل على أن المراد بالصلاة الرحمة . انتهى . وما ذكره من قوله ، كأنهم فاعلون فيه الجمع بين الحقيقة والمجاز ، وما ذكرناه من أن الصلاتين اشتركتا في قدر مشترك أولى .
( تحيتهم يوم يلقونه ) أي : يوم القيامة . ( سلام ) أي : تحية الله لهم . يقول للمؤمنين : السلام عليكم ، مرحبا بعبادي الذين أرضوني باتباع أمري ، قاله الرقاشي . وقيل : يحييهم الملائكة بالسلامة من كل مكروه . وقال : معناه أن ملك الموت لا يقبض روح المؤمن حتى يسلم عليه . وقال البراء بن عازب : إذا جاء ملك الموت لقبض روح المؤمن قال : ربك يقرؤك السلام ، قيل : فعلى هذا الهاء في قوله : ( يلقونه ) كناية عن غير مذكور ، وقيل : سلام الملائكة عند خروجهم من القبور . وقال ابن مسعود قتادة : يوم دخولهم الجنة يحيي بعضهم بعضا بالسلام ، أي : سلمنا وسلمت من كل مخوف . وقيل : تحييهم الملائكة يومئذ . وقيل : هو سلام ملك الموت والملائكة معه عليهم ، وبشارتهم بالجنة . والتحية مصدر في هذه الأقوال أضيف إلى المفعول ، إلا في قول من قال إنه مصدر مضاف للمحيي والمحيا ، لا على جهة العمل ; لأن الضمير الواحد لا يكون فاعلا مفعولا ، ولكنه كقوله : [ ص: 238 ] ( وكنا لحكمهم شاهدين ) أي : للحكم الذي جرى بينهم ، وليبعث إليهم ، فكذلك هذه التحية الجارية بينهم هي سلام . وفرق بين التحية والسلام فقال : التحية يكون ذلك دعاء ، والسلام مخصوص ، ومنه : ( المبرد ويلقون فيها تحية وسلاما ) . والأجر الكريم : الجنة ( شاهدا ) على من بعثت إليهم ، وعلى تكذيبهم وتصديقهم ، أي : مفعولا قولك عند الله ، وشاهدا بالتبليغ إليهم ، وبتبليغ الأنبياء قولك . وانتصب ( شاهدا ) على أنه حال مقدرة ، إذا كان قولك عند الله وقت الإرسال لم يكن شاهدا عليهم ، وإنما يكون شاهدا عند تحمل الشهادة وعند أدائها ، أو لأنه أقرب زمان البعثة ، وإيمان من آمن وتكذيب من كذب كان ذلك وقع في زمان واحد .
( وداعيا إلى الله ) قال : شهادة أن لا إله إلا الله . وقال ابن عباس ابن عيسى : إلى الطاعة . ( بإذنه ) أي : بتسهيله وتيسيره ، ولا يراد به حقيقة الإذن ; لأنه قد فهم في قوله : إنا أرسلناك داعيا ، أنه مأذون له في الدعاء . ولما كان دعاء المشرك إلى التوحيد صعبا جدا ، قيل : بإذنه ، أي : بتسهيله تعالى . و ( سراجا منيرا ) جلى من ظلمات الشرك ، واهتدى به الضالون ، كما يجلى ظلام الليل بالسراج المنير . ويهتدى به إذا مد الله بنور نبوته نور البصائر ، كما يمد بنور السراج نور الأبصار . ووصفه بالإنارة ; لأن من السراج ما لا يضيء إذا قل سليطه ودقت فتيلته . وقال : هو معطوف على ( شاهدا ) أي : وذا سراج منير ، أي : كتاب نير . وقال الزجاج الفراء : إن شئت كان نصبا على معنى : وتاليا سراجا منيرا . وقال ; ويجوز على هذا التفسير أن يعطف على كاف ( أرسلناك ) . انتهى . ولا يتضح هذا الذي قاله ، إذ يصير المعنى : أرسلنا ذا سراج منير ، وهو القرآن . ولا يوصف بالإرسال القرآن ، إنما يوصف بالإنزال . وكذلك أيضا إذا كان التقدير : وتاليا ، يصير المعنى : أرسلنا تاليا سراجا منيرا ، ففيه عطف الصفة التي للذات على الذات ، كقولك : رأيت زيدا والعالم ، إذا كان العالم صفة لزيد ، والعطف مشعر بالتغاير ، لا يحسن مثل هذا التخريج في كلام الله ، وثم حمل على ما تقتضيه الفصاحة والبلاغة . الزمخشري
ولما ذكر تعالى أنه أرسل نبيه ( شاهدا ) إلى آخره ، تضمن ذلك الأمر بتلك الأحوال ، فكأنه قال ; فاشهد وبشر وأنذر وادع وانه ، ثم قال ; ( وبشر المؤمنين ) ; فهذا متصل بما قبله من جهة المعنى ، وإن كان يظهر أنه منقطع من الذي قبله . والفضل الكبير : الثواب ، من قولهم للعطايا : فضول وفواضل ، أو المزيد على الثواب . وإذا ذكر المتفضل به وكبره ، فما ظنك بالثواب أو ما فضلوا به على سائر الأمم ، وذلك من جهته تعالى ، أو الجنة وما أوتوا فيها ؟ ويفسره : ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير ) . ( ولا تطع الكافرين والمنافقين ) نهي له عليه السلام عن السماع منهم في أشياء كانوا يطلبونها مما لا يجب ، وفي أشياء ينتصحون بها وهي غش . ( ودع أذاهم ) الظاهر إضافته إلى المفعول . لما نهى عن طاعتهم ، أمر بتركه إذايتهم وعقوبتهم ، ونسخ منه ما يخص الكافرين بآية السيف . ( وتوكل على الله ) فإنه ينصرك ويخذلهم . ويجوز أن يكون مصدرا مضافا للفاعل ، أي : ودع إذايتهم إياك ، أي : مجازاة الإذاية من عقاب وغيره حتى تؤمر ، وهذا تأويل مجاهد .