[ ص: 275 ] لما بين حال الشاكرين وحال الكافرين ، وذكر قريشا ومن لم يؤمن بمن مضى ، عاد إلى خطابهم فقال ( قل ) ، يا محمد للمشركين الذين ضرب لهم المثل بقصة سبأ المعروفة عندهم بالنقل في أخبارهم وأشعارهم ، ( ادعوا الذين زعمتم ) ، وهم معبوداتهم من الملائكة والأصنام ، وهو أمر بدعاء هو تعجيز وإقامة للحجة . وروي أن ذلك نزل عند الجوع الذي أصاب قريشا ، أي ادعوهم ليكشفوا عنكم ما حل بكم ، والجئوا إليهم فيما يعن لكم . وزعم : من الأفعال التي تتعدى إلى اثنين إذا كانت اعتقادية ، والمفعول الأول هو الضمير المحذوف العائد على الذين ، والثاني محذوف أيضا لدلالة المعنى ، ونابت صفته منابه ، التقدير : الذي زعمتموهم آلهة من دونه ; وحسن حذف الثاني قيام صفته مقامه ، ولولا ذلك ما حسن ، إذ في حذف إحدى مفعولي ظن وأخواتها اختصارا خلاف ، منع ذلك ابن ملكوت ، وأجازه الجمهور ، وهو مع ذلك قليل ، ولا يجوز أن يكون الثاني من دونه ; لأنه لا يستقل كلاما . لو قلت : هم من دونه ، لم يصح ، ولا الجملة من قوله ( لا يملكون مثقال ذرة ) ; لأنه لو كانت هذه النسبة مزعومة لهم لكانوا معترفين بالحق قائلين له . ولو [ ص: 276 ] كان ذلك توحيدا منهم ، وأن آلهتهم ومعبوداتهم لا يملكون شيئا باعترافهم . ثم أخبر عن آلهتهم أنهم لا يملكون مثقال ذرة ، وهو أحقر الأشياء ، وإذا انتفى ملك الأحقر عنهم ، فملك الأعظم أولى . ثم ذكر مقر ذلك المثقال ، وهو السماوات والأرض . ثم أخبر أنهم ما لهم في السماوات ولا في الأرض من شركة ، فنفى نوعي الملك من الاستبداد والشركة . ثم نفى الإعانة منهم له تعالى في شيء مما أنشأ بقوله ( وما له منهم من ظهير ) ، فبين عجز معبوداتهم من جميع الجهات .
ولما كان من العرب من يعبد الملائكة لتشفع له ، نفى أن شفاعتهم تنفع ، والنفي منسحب على الشفاعة ، أي لا شفاعة لهم فتنفع ، وليس المعنى أنهم يشفعون ، ولا تنفع شفاعتهم ، أي لا يقع من معبوداتهم شفاعة أصلا . ولأن عابديهم كفار ، فإن كان المعبودون أصناما أو كفارا ، كفرعون ، فسلب الشفاعة عنهم ظاهر ، وإن كانوا ملائكة أو غيرهم ممن عبد ، كعيسى عليه السلام ، فشفاعتهم إذا وجدت تكون لمؤمن . و ( إلا لمن أذن له ) استثناء مفرغ ، فالمستثنى منه محذوف تقديره : ولا تنفع الشفاعة لأحد ( إلا لمن أذن له ) . واحتمل قوله لأحد أن يكون مشفوعا له ، وهو الظاهر ، فيكون قوله ( إلا لمن أذن له ) ، أي المشفوع ، أذن لأجله أن يشفع فيه ; والشافع ليس بمذكور ، وإنما دل عليه المعنى . واحتمل أن يكون شافعا ، فيكون قوله ( إلا لمن أذن له ) بمعنى : إلا لشافع أذن له أن يشفع ، والمشفوع ليس بمذكور ، إنما دل عليه المعنى . وعلى هذا الاحتمال تكون اللام في ( أذن له ) لام التبليغ ، لا لام العلة . وقال : يقول : الشفاعة لزيد على معنى أنه الشافع ، كما يقول : الكرم لزيد ، وعلى معنى أنه المشفوع له ، كما تقول : القيام لزيد ، فاحتمل قوله ( الزمخشري ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ) أن يكون على أحد هذين الوجهين ، أي لا تنفع الشفاعة إلا كائنة لمن أذن له من الشافعين ومطلقة له ، أو لا تنفع الشفاعة إلا كائنة لمن أذن له ، أي لشفيعه ، أو هي اللام الثانية في قولك : أذن لزيد لعمرو ، أي لأجله ، وكأنه قيل : إلا لمن وقع الإذن للشفيع لأجله ، وهذا وجه لطيف ، وهو الوجه ، وهذا تكذيب لقولهم : هؤلاء شفعاؤنا عند الله . انتهى . فجعل إلا لمن أذن له استثناء مفرغا من الأحوال ، ولذلك قدره : إلا كائنة ، وعلى ما قررناه استثناء من الذوات .
وقال أبو عبد الله الرازي : المذاهب المفضية إلى الشرك أربعة : قائل : إن الله خلق السماوات وجعل الأرض والأرضيات في حكمها ، ونحن من جملة الأرضيات ، فنعبد الكواكب والملائكة السماوية ، وهم إلهنا ، والله إلههم ، فأبطل بقوله ( لا يملكون ) ، ( في السماوات ) ، كما اعترفتم ، ( ولا في الأرض ) ، خلاف ما زعمتم . وقائل : السماوات من الله استبدادا ، والأرضيات منه بواسطة الكواكب ، فإنه تعالى خلق العناصر والتركيبات التي فيها بالاتصالات وحركات وطوالع ، فجعلوا مع الله شركاء في الأرض ، والأولون جعلوا الأرض لغيره ، فأبطل بقوله ( وما لهم فيهما من شرك ) ، أي الأرض ، كالسماء لله لا لغيره ، ولا لغيره فيهما نصيب . وقائل : التركيبات والحوادث من الله ، لكن فوض إلى الكواكب ، وفعل المأذون ينسب إلى الآذن ، ويسلب عن المأذون له فيه ، جعلوا السماوات معينة لله ، فأبطل بقوله ( وما له منهم من ظهير ) وقائل : نعبد الأصنام التي هي صور الملائكة ليشفعوا لنا ، فأبطل بقوله ( ولا تنفع الشفاعة ) ، الجملة ، و ( أل ) في الشفاعة الظاهر أنها للعموم ، أي شفاعة جميع الخلق . وقيل : للعهد ، أي شفاعة الملائكة التي زعموها شركاء وشفعاء . انتهى ، وفيه بعض تلخيص . وقال أبو البقاء : اللام في ( لمن أذن له ) يجوز أن تتعلق بالشفاعة ، لأنك تقول : أشفعت له ، وأنت تعلق بـ ( تنفع ) . انتهى ، وهذا فيه قلة ; لأن المفعول متأخر ، فدخول اللام عليه قليل . وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، : أذن بضم الهمزة ; وباقي السبعة : بفتحها ، أي أذن الله له . والظاهر أن الضمير في قوله ( قلوبهم ) عائد على ما عادت عليه [ ص: 277 ] الضمائر التي للغيبة في قوله ( لا يملكون ) ، وفي ( ما لهم ) ، و ( ما له منهم ) ، وهم الملائكة الذين دعوهم آلهة وشفعاء ، ويكون التقدير : إلا لمن أذن له منهم . والكسائي
و ( حتى ) تدل على الغاية ، وليس في الكلام عائد على أن حتى غاية له . فقال ابن عطية : في الكلام حذف يدل عليه الظاهر ، كأنه قال : ولا هم شفعاء كما تحبون أنتم ، بل هم عبدة أو مسلمون أبدا ، يعني منقادون ، ( حتى إذا فزع عن قلوبهم ) . قال : وتظاهرت الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن قوله ( حتى إذا فزع عن قلوبهم ) ، إنما هي في الملائكة إذا سمعت الوحي ، أي جبريل ، وبالأمر يأمر الله به سمعت ، كجر سلسلة الحديد على الصفوان ، فتفزع عند ذلك تعظيما وهيبة . وقيل : خوف أن تقوم الساعة ، فإذا فزع ذلك عن قلوبهم ، أي أطير الفزع عنها وكشف ، يقول بعضهم لبعض ول جبريل ( ماذا قال ربكم ) ؟ فيقول المسئولون : قال ( الحق وهو العلي الكبير ) ، وبهذا المعنى من ذكر الملائكة في صدر الآيات تتسق هذه الآية على الأولى ، ومن لم يشعر أن الملائكة مشار إليهم من أول قوله ( الذين زعمتم ) لم تتصل له هذه الآية بما قبلها ، فلذلك اضطرب المفسرون في تفسيرها حتى قال بعضهم في الكفار ، بعد حلول الموت : ففزع عن قلوبهم بفقد الحياة ، فرأوا الحقيقة ، وزال فزعهم مما يقال لهم في حياتهم ، فيقال لهم حينئذ ( ماذا قال ربكم ) ؟ فيقولون : قال الحق ، يقرون حين لا ينفعكم الإقرار . وقالت فرقة : الآية في جميع العالم . وقوله ( حتى ) ، يريد في الآخرة ، والتأويل الأول في الملائكة هو الصحيح ، وهو الذي تظاهرت به الأحاديث ، وهذا بعيد . انتهى . وإذا كان الضمير في ( عن قلوبهم ) لا يعود على ( الذين زعمتم ) ، كان عائدا على من عاد عليه الضمير في قوله ( ولقد صدق عليهم إبليس ) ، ويكون الضمير في ( عليهم ) عائدا على جميع الكفار ، ويكون حتى غاية لقوله ( فاتبعوه ) ، ويكون التفزيع حالة مفارقة الحياة ، أو يجعل اتباعهم إياه مستصحبا لهم إلى يوم القيامة مجازا .
والجملة بعد من قوله ( قل ادعوا ) اعتراضية بين المغيا والغاية . قال ابن زيد : أقروا بالله حين لا ينفعهم الإقرار ، فالمعنى : فزع الشيطان عن قلوبهم وفارقهم ما كان يطلبهم به ، ( قالوا ماذا قال ربكم ) . وقال الحسن : وإنما يقال للمشركين ( ماذا قال ربكم ) على لسان الأنبياء ، فأقروا حين لا ينفع . وقيل ( حتى ) غاية متعلقة بقوله ( زعمتم ) ، أي زعمتم الكفر إلى غاية التفزيع ، ثم تركتم ما زعمتم وقلتم : قال الحق . انتهى . فيكون في الكلام التفات من خطاب في ( زعمتم ) إلى غيبة في ( فزع عن قلوبهم ) . وعن : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : فإذا أذن فزع ودام فزعه حتى إذا أزيل التفزيع عن قلوبهم . قال بعض الشافعين من الملائكة لبعض الملائكة ( ابن عباس ماذا قال ربكم ) في قبول شفاعتنا ؟ فيجيب بعضهم لبعض : قال أي الله الحق ، أي القول الحق ، وهو قبول شفاعتهم ، إذا كان تعالى أذن لهم في ذلك ، ولا يأذن إلا وهو مريد لقبول الشفاعة . وقال : فإن قلت بم اتصل قوله ( الزمخشري حتى إذا فزع عن قلوبهم ) ؟ ولا شيء وقعت حتى غاية له . قلت : بما فهم من هذا الكلام من أن ثم انتظار الإذن وتوقفا وتمهلا وفزعا من الراجين للشفاعة والشفعاء ، هل يؤذن لهم أو لا يؤذن ؟ وأنه لا يطلق الإذن إلا بعد ملي من الزمان وطول من التربص . ومثل هذه الحال دل عليه قوله ، عز من قائل : [ ص: 278 ] ( رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ) ، كأنه قيل : يتربصون ويتوقفون مليا فزعين وهلين .
( حتى إذا فزع عن قلوبهم ) أي كشف الفزع من قلوب الشافعين والمشفوع لهم بكلمة يتكلم بها رب العزة في إطلاق الإذن . تباشروا بذلك وسأل بعضهم بعضا ( ماذا قال ربكم ) ؟ قال الحق ، أي القول الحق ، وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى . انتهى . وتلخص من هذا أن حتى غائية إما لمنطوق وهو زعمتم ، ويكون الضمير في ( عن قلوبهم ) التفاتا ، وهو للكفار ، أو هو فاتبعوه ، وفيه تناسق الضمائر لغائب . والفصل بالاعتراض والضمير أيضا للكفار ، والضمير في ( قالوا ) للملائكة ، وضمير الخطاب في ( ربكم ) ، والغائب في ( قالوا ) الثانية للكفار . وإما لمحذوف ، فما قدره ابن عطية لا يصح أن يغيا ; لأن ما بعد الغاية مخالف لما قبلها ، وهم عبدة منقادون دائما لا ينفكون عن ذلك ، لا إذا فزع عن قلوبهم ، ولا إذا لم يفزع ، وحمل ذلك على الملائكة حال الوحي لا يناسب الآية ، وكون النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة الوحي قال : " جبريل فزع عن قلوبهم " ، لا يدل على أن هذه الآية في الملائكة حالة تكلم الله بالوحي . والحديث رواه فإذا جاءهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا تكلم الله عز وجل بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا ، فيصعقون ، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم ابن مسعود جبريل عليه السلام ، فإذا جاءهم جبريل فزع عن قلوبهم ، فيقولون : يا جبريل ماذا قال ربك ؟ قال : فيقول الحق : " فينادون الحق " . وما قدره يحتمل ، إلا أن فيه تخصيص الذين زعمتم من دونه بالملائكة ، والذين عبدوهم ملائكة وغيرهم ، وتخصيص من أذن له بالملائكة أيضا ، والمأذون لهم في الشفاعة الملائكة وغيرهم . ألا ترى إلى ما حكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في " الشفاعة في قوله عز وجل " . الزمخشري
وقرئ : فزع مشددا ، من الفزع ، مبنيا للمفعول ، أي أطير الفزع عن قلوبهم . وفعل تأتي لمعان منها : الإزالة ، وهذا منه نحوه : قردت البعير ، أي أزلت القراد عنه . وقرأ ، ابن مسعود ، وابن عباس وطلحة ، ، وأبو المتوكل الناجي وابن السميفع ، وابن عامر : مبنيا للفاعل من الفزع أيضا ، والضمير الفاعل في فزع إن كان الضمير في عن قلوبهم للملائكة ، فهو الله ، وإن كان للكفار ، فالضمير لمغويهم . وقرأ الحسن ( فزع ) من الفزع ، بتخفيف الزاي ، مبنيا للمفعول ، و ( عن قلوبهم ) في موضع رفع به ، كقولك : انطلق يزيد . وقرأ الحسن أيضا ، وأبو المتوكل أيضا ، وقتادة ، ومجاهد : فزع مشددا ، مبنيا للفاعل من الفزع . وقرأ الحسن أيضا : كذلك ، إلا أنه خفف الزاي . وقرأ عبد الله بن عمر ، والحسن أيضا ، ، وأيوب السختياني وقتادة أيضا ، وأبو مجلز : فرغ من الفراغ ، مشدد الراء ، مبنيا للمفعول . وقرأ ، ابن مسعود وعيسى افرنقع : عن قلوبهم ، بمعنى انكشف عنها ، وقيل : تفرق . وقال : والكلمة مركبة من حروف المفارقة مع زيادة العين ، كما ركب قمطر من حروف القمط مع زيادة الراء . انتهى . فإن عني الزمخشري أن العين من حروف الزيادة ، وكذلك الراء ، وهو ظاهر كلامه ، فليس بصحيح ; لأن العين والراء ليستا من حروف الزيادة . وإن عنى أن الكلمة فيها حروف ، وما ذكروا زائدا إلى ذلك العين والراء كمادة فرقع وقمطر ، فهو صحيح لولا إيهام ما قاله الزمخشري في هذه الكلمة ، لم أذكر هذه القراءة لمخالفتها سواد المصحف . وقالوا أيضا في قوله تعالى ( الزمخشري حتى إذا فزع ) أقوالا غير ما سبق . قال كعب : إذا تكلم الله عز وجل بلا كيف ضربت الملائكة بأجنحتها وخرت فزعا ، قالوا فيما بينهم ( ماذا قال ربكم قالوا الحق ) . وقيل : إذا دعاهم إسرافيل من قبورهم ، قالوا مجيبين ماذا ، وهو من الفزع الذي هو الدعاء والاستصراخ ، كما قاله زهير : [ ص: 279 ]
إذا فزعوا طاروا إلى مستغيثهم طوال الرماح لا ضعاف ولا عزل
وقيل : هو فزع ملائكة أدنى السماوات عند نزول المدبرات إلى الأرض . وقيل : لما كانت الفترة بين عيسى ومحمد - صلى الله عليه وسلم - وبعث الله محمدا ، أنزل الله جبريل بالوحي ، فظنت الملائكة أنه قد نزل بشيء من أمر الساعة ، وصعقوا لذلك ، فجعل جبريل يمر بكل سماء ويكشف عنهم الفزع ويخبرهم أنه الوحي ، قاله قتادة ومقاتل وابن السائب . وقيل : الملائكة المعقبات الذين يختلفون إلى أهل الأرض ، ويكتبون أعمالهم إذا أرسلهم الله فانحدروا ، سمع لهم صوت شديد ، فيحسب الذين هم أسفل منهم من الملائكة أنه من أمر الساعة ، فيخرون سجدا يصعقون ، رواه الضحاك عن . ابن مسعود
وهذه الأقوال والتي قبلها لا تكاد تلائم ألفاظ القرآن ، فالله أسأل أن يرزقنا فهم كتابه ، وأقربها عندي أن يكون الضمير في ( قلوبهم ) عائدا على من عاد عليه اتبعوه وعليهم ، وممن هو منها في شك ، وتكون الجملة بعد ذلك اعتراضا . وقوله ( قالوا ) ، أي الملائكة ، لأولئك المتبعين الشاكين يسألونهم سؤال توبيخ ( ماذا قال ربكم ) ، على لسان من بعث إليكم بعد أن كشف الغطاء عن قلوبهم ، فيقرون إذ ذاك أن الذي قاله ، وجاءت به أنبياؤه ، وهو الحق ، لا الباطل الذي كنا فيه من اتباع إبليس وشكنا في البعث . ( ماذا ) يحتمل أن تكون ما منصوبة بقال ، أي أي شيء قال ربكم ، وأن يكون في موضع رفع على أن ( ذا ) موصولة ، أي ما الذي قال ربكم ، وذا خبره ، ومعمول قال ضمير محذوف عائد على الموصول . وقرأ : قالوا الحق ، برفع الحق ، خبر مبتدأ ، أي مقوله الحق ، ( ابن أبي عبلة وهو العلي الكبير ) ، تنزيه منهم له تعالى وتمجيد . ثم رجع إلى خطاب الكفار فسألهم عمن يرزقهم ، محتجا عليهم بأن رازقهم هو الله ، إذ لا يمكن أن يقولوا إن آلهتهم ترزقهم وتسألهم أنهم ( لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ) ، وأمره بأن يتولى الإجابة والإقرار عنهم بقوله ( قل الله ) ; لأنهم قد لا يجيبون حبا في العناد وإيثارا للشرك . ومعلوم أنه لا جواب لهم ولا لأحد إلا بأن يقول هو الله . ( وإنا ) أي الموحدين الرازق العابدين ، ( أو إياكم ) المشركين العابدين الأصنام والجمادات . ( لعلى هدى ) أي طريقة مستقيمة ، أو في حيرة واضحة بينة . والمعنى : أن أحد الفريقين منا ومنكم لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلال ، أخرج الكلام مخرج الشك والاحتمال . ومعلوم أن من عبد الله ووحده هو على الهدى ، وأن من عبد غيره من جماد أو غيره في ضلال . وهذه الجملة تضمنت الإنصاف واللطف في الدعوى إلى الله ، وقد علم من سمعها أنها جملة اتصاف ، والرد بالتورية والتعريض أبلغ من الرد بالتصريح ، ونحوه قول العرب : أخزى الله الكاذب مني ومنك ، يقول ذاك من يتيقن أن صاحبه هو الكاذب ، ونظيره قول الشاعر :
فأيي ما وأيك كان شرا فسيق إلى المقادة في هوان
وقال حسان :
أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء
وهذا النوع يسمى في علم البيان : استدراج المخاطب . يذكر له أمرا يسلمه ، وإن كان بخلاف ما ذكر حتى يصغي إليه إلى ما يلقيه إليه ، إذ لو بدأ به بما يكره لم يصغ ، ولا يزال ينقله من حال إلى حال حتى يتبين له الحق ويقبله . وهنا لما سمعوا الترداد بينه وبينهم ، ظهر لهم أنه غير جازم أن الحق معه ، فقال لهم بطريق الاستدلال : إن آلهتكم لا تملك مثقال ذرة ، ولا تنفع ولا تضر ; لأنها جماد ، وهم يعلمون ذلك ، فتحقق أن الرازق لهم والنافع والضار هو الله سبحانه . وقيل : معنى الجملة استنقاص المشركين والاستهزاء بهم ، وقد بينوا أن آلهتهم لا ترزقهم شيئا ولا تنفع ولا تضر ، فأراد الله من نبيه ، وأمره أن يوبخهم ويستنقصهم ويكذبهم بقول غير مكشوف ، إن كان ذلك أبلغ في استنقاصهم ، كقولك : إن أحدنا لكاذب ، وقد [ ص: 280 ] علمت أن من خاطبته هو الكاذب ، ولكنك وبخته بلفظ غير مكشوف . و ( أو ) هنا على موضوعها لكونها لأحد الشيئين ، أو الأشياء . وخبر ( إنا أو إياكم ) هو ( لعلى هدى أو في ضلال مبين ) ، ولا يحتاج إلى تقدير حذف ، إذ المعنى : أن أحدنا لفي أحد هذين ، كقولك : زيد أو عمرو في القصر ، أو في المسجد ، لا يحتاج هذا إلى تقدير حذف ، إذ معناه : أحد هذين في أحد هذين . وقيل : الخبر محذوف ، فقيل : خبر لا ( وله ) ، والتقدير : وإنا لعلى هدى أو في ضلال مبين ، فحذف لدلالة خبر ما بعده عليه ، فلعلى هدى أو في ضلال مبين المثبت خبر عنه ، أو إياكم ، إذ هو على تقدير إنا ، ولكنها لما حذفت اتصل الضمير ، وقيل : خبر الثاني ، والتقدير : أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ، وحذف لدلالة خبر الأول عليه ، وهو هذا المثبت ( لعلى هدى أو في ضلال مبين ) ، ولا حاجة لهذا التقدير من الحذف لو كان ما بعد ( أو ) غير معطوف بها ، نحو : زيد أو عمرو قائم ، كان يحتاج إلى هذا التقدير ، وإن مع ما يصلح أن يكون خبرا لأن اسمها عطف عليه بأو ، والخبر معطوف بأو ، فلا يحتاج إليه . وذهب أبو عبيدة إلى أن أو بمعنى الواو ، فيكون من باب اللف والنشر ، والتقدير : وإنا لعلى هدى ، وإياكم في ضلال مبين ، فأخبر عن كل بما ناسبه ، ولا حاجة إلى إخراج أو عن موضوعها . وجاء في الهدى بعلى ; لأن صاحبه ذو استعلاء ، وتمكن مما هو عليه ، يتصرف حيث شاء . وجاء في الضلال بعن لأنه منغمس في حيرة مرتبك فيها لا يدري أين يتوجه .