[ ص: 421 ] ( والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار وعد الله لا يخلف الله الميعاد ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين ) .
قال ابن زيد : نزلت ( والذين اجتنبوا الطاغوت ) في زيد بن عمرو بن نفيل ، وسلمان ، وأبي ذر .
وقال : الإشارة بها إلى ابن إسحاق ، عبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، وسعيد بن زيد والزبير ، وذلك أنه لما أسلم أبو بكر ، سمعوا ذلك فجاءوه وقالوا : أسلمت ؟ قال : نعم ، وذكرهم بالله ، فآمنوا بأجمعهم ، فنزلت فيهم ، وهي محكمة في الناس إلى يوم القيامة .
والطاغوت : تقدم الكلام عليها في البقرة . وقرأ الحسن : ( الطواغيت ) جمعا .
( أن يعبدوها ) أي : عبادتها ، وهو بدل اشتمال .
( لهم البشرى ) أي : من الله تعالى بالثواب .
( فبشر عباد ) : هم المجتنبون الطاغوت إلى الله . وضع الظاهر موضع المضمر ليدل على أنهم هم ، وليترتب على الظاهر الوصف ، وهو : ( الذين يستمعون القول ) ، وهو عام في جميع الأقوال ، ( فيتبعون أحسنه ) : ثناء عليهم بنفوذ بصائرهم وتمييزهم الأحسن ، فإذا سمعوا قولا تبصروه .
قيل : وأحسن القول : القرآن وما يرجع إليه . وقيل : القول : القرآن ، وأحسنه : ما فيه من صفح وعفو واحتمال ونحو ذلك . وقال قتادة : أحسن القول طاعة الله .
وعن : هو الرجل يجلس مع القوم ، فيسمع الحديث فيه محاسن ومساو ، فيحدث بأحسن ما سمع ، ويكف عن ما سواه . ابن عباس
و ( الذين ) : وصف لـ ( عباد ) . وقيل : الوقف على عباد ، والذين مبتدأ خبره أولئك وما بعده .
( أفمن حق عليه كلمة العذاب ) : قيل نزلت في أبي جهل ، أي : نفذ عليه الوعيد بالعذاب . والظاهر أنها جملة مستقلة ، و ( من ) موصولة مبتدأ ، والخبر محذوف ، فقيل تقديره : يتأسف عليه ، وقيل : يتخلص منه . وقدره : فأنت تخلصه ، قال : حذف لدلالة ( الزمخشري أفأنت تنقذ ) عليه . وقدر بين الهمزة والفاء جملة حتى تقر الهمزة في مكانها والفاء في مكانها ، فقال : التقدير : أأنت مالك أمرهم ؟ فمن حق عليه كلمة العذاب ، وهو قول انفرد به فيما علمناه . الزمخشري
والذي تقوله النحاة أن الفاء للعطف وموضعها التقديم على الهمزة ، لكن الهمزة لما كان لها صدر الكلام ، قدمت ، فالأصل عندهم : فأمن حق عليه ، وعلى القول أنها جملة مستقلة يكون قوله : ( أفأنت تنقذ من في النار ) ، استفهام توقيف ، وقدم فيه الضمير إشعارا بأنك لست تقدر أن تنقذه من النار ، بل لا يقدر على ذلك أحد إلا الله . وذهبت فرقة ، منهم الحوفي ، إلى أن من شرطية ، وجواب الشرط أفأنت ، فالفاء فاء الجواب دخلت على جملة الجزاء ، وأعيدت الهمزة لتوكيد معنى الإنكار والاستبعاد ، ووضع من في النار ، وهو ظاهر ، موضع المضمر ، إذ كان الأصل تنقذه ، وإنما أظهر تشهيرا لحالهم وإظهارا لخسة منازلهم . قال والزمخشري الحوفي : وجيء بألف الاستفهام لما طال الكلام توكيدا ، ولولا طوله ، لم يجز الإتيان بها ؛ لأنه لا يصلح في العربية أن يأتي بألف الاستفهام في الاسم ، وألف أخرى في الجزاء . ومعنى الكلام : أفأنت تنقذه ؟ انتهى .
وعلى هذا القول ، يكون قد اجتمع استفهام وشرط على قول الجماعة أن الهمزة قدمت من تأخر ، فيجيء الخلاف بين ويونس : هل الجملة الأخيرة هي للمستفهم عنها أو هي جواب الشرط ؟ وعلى تقدير سيبويه : لم تدخل الهمزة على اسم الشرط ، فلم يجتمع استفهام وشرط ؛ لأن الاستفهام عنده دخل على الجملة المحذوفة عنده ، وهو : أأنت مالك أمرهم ؟ وفمن معطوف على تلك الجملة المحذوفة ، عطفت جملة الشرط على جملة الاستفهام ، ونزل استحقاقهم العذاب ، وهم في الدنيا بمنزلة دخولهم النار ، ونزل اجتهاد [ ص: 422 ] الرسول - عليه السلام - في دعائهم إلى الإيمان منزلة انقاذهم من النار . الزمخشري
ولما ذكر حال الكفار في النار ، وأن الخاسرين لهم ظلل ، ذكر حال المؤمنين ، وناسب الاستدراك هنا ، إذ هو واقع بين الكافرين والمؤمنين ، فقال : ( لكن الذين اتقوا ) . ففي ذلك حض على التقوى ، لهم علالي مرتفعة فوقها علالي مبنية ، أي : بناء المنازل التي سويت على الأرض . والضمير في ( من تحتها ) عائد على الجمعين ، أي : من تحت الغرف السفلى والغرف العليا ، لا تفاوت بين أعلاها وأسفلها وانتصب ( وعد الله ) على المصدر المؤكد لمضمون الجملة قبله ، إذ تضمنت معنى الوعد .
( ألم تر ) : خطاب وتوقيف للسامع على ما يعتبر به من أفعال الله الدالة على فناء الدنيا واضمحلالها .
( فسلكه ينابيع ) أي : أدخله مسالك وعيونا . والظاهر أن ماء العيون هو من ماء المطر ، تحبسه الأرض ويخرج شيئا فشيئا .
( ثم يخرج به زرعا ) ، ذكر منته تعالى علينا بما تقوم به معيشتنا .
( مختلفا ألوانه ) : من أحمر وأبيض وأصفر ، وشمل لفظ الزرع جميع ما يزرع من مقتات وغيره ، أو مختلفا أصنافه من بر وشعير وسمسم وغير ذلك .
( ثم يهيج ) : يقارب الثمار ، ( فتراه مصفرا ) أي : زالت خضرته ونضارته .
وقرأ أبو بشر : ( ثم يجعله ) بالنصب في اللام . قال صاحب الكامل وهو ضعيف . انتهى .
( إن في ذلك ) أي : فيما ذكر من إنزال المطر وإخراج الزرع به وتنقلاته إلى حالة الحطامية ، ( لذكرى ) أي : لتذكرة وتنبيها على حكمة فاعل ذلك وقدرته .
( أفمن شرح الله صدره للإسلام ) : نزلت في حمزة ، وعلي ، و ( من ) مبتدأ وخبره محذوف يدل عليه ( فويل للقاسية قلوبهم ) تقديره : كالقاسي المعرض عن الإسلام ، وأبو لهب وابنه كانا من القاسية قلوبهم ، وشرح الصدر استعارة عن قبوله للإيمان والخير والنور والهداية . وفي الحديث : ( كيف انشراح الصدور ؟ قال : إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح ، قلنا : وما علامة ذلك ؟ قال : الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والتأهب للموت قبل الموت ) .
( فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله ) أي : من أجل ذكره ، أي : إذا ذكر الله عندهم قست قلوبهم . وقال : ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة قلب . مالك بن دينار
( أولئك ) أي : القاسية قلوبهم ، ( في ضلال مبين ) أي : في حيرة واضحة ، لا تخفى على من تأملها .