عن ، أن قوما من الصحابة قالوا : يا رسول الله ، حدثنا بأحاديث حسان ، وبأخبار الدهر ، فنزل : ( ابن عباس الله نزل أحسن الحديث ) .
و عن ، أن الصحابة ملئوا ابن مسعود مكة ، فقالوا له : حدثنا ، فنزلت .
والابتداء باسم الله ، وإسناد نزل لضميره مبنيا عليه فيه تفخيم للمنزل ورفع منه ، كما تقول : الملك أكرم فلانا ، هو أفخم من : أكرم الملك فلانا . وحكمة ذلك البداءة بالأشرف من تذكر ما تسند إليه ، وهو كثير في القرآن ، كقوله : ( الله يصطفي من الملائكة رسلا ) ، و ( كتابا ) بدل من ( أحسن الحديث ) . وقال : ويحتمل أن يكون حالا . انتهى . الزمخشري
وكان بناء على أن ( أحسن الحديث ) معرفة لإضافته إلى معرفة . وأفعل التفضيل ، إذا أضيف إلى معرفة ، فيه خلاف . فقيل : إضافته محضة ، وقيل : غير محضة . و ( متشابها ) : مطلق في مشابهة بعضه بعضا . فمعانيه متشابهة ، لا تناقض فيها ولا تعارض ، وألفاظه في غاية الفصاحة والبلاغة والتناسب ، بحيث أعجزت العظماء والبلغاء . وقرأ الجمهور : ( مثاني ) ، بفتح الياء ; وهشام ، وابن عامر ، وأبو بشر : بسكون الياء ، فاحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، واحتمل أن يكون منصوبا ، وسكن الياء على قول من يسكن الياء في كل الأحوال ، لانكسار ما قبلها استثقالا للحركة عليها . و ( مثاني ) يظهر أنه جمع مثنى ، ومعناه : موضع تثنية القصص والأحكام والعقائد والوعد والوعيد . وقيل : يثني في الصلاة بمعنى : التكرير والإعادة . انتهى .
ووصف المفرد بالجمع ؛ لأن فيه تفاصيل ، وتفاصيل الشيء جملته . ألا ترى أنك تقول : القرآن سور وآيات ؟ فكذلك تقول : أحكام ومواعظ مكررات ، وأصله كتابا متشابها فصولا مثاني ، حذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه . وأجاز أن يكون من باب : برمة أعشار ، وثوب أخلاق ، وأن يكون تمييزا عن : متشابها ، فيكون منقولا من الفاعل ، أي : متشابها مثانيه . الزمخشري
كما تقول : رأيت رجلا حسنا شمائل ، وفائدة تثنيته وتكرره رسوخه في النفوس ، إذ هي أنفر شيء عن سماع الوعظ والنصيحة .
والظاهر حمل القشعريرة على الحقيقة ، إذ هو موجود عند الخشية ، محسوس يدركه الإنسان من نفسه ، وهو حاصل من التأثر القلبي . وقيل : هو تمثيل تصوير لإفراط خشيتهم ، والمعنى : أنه حين يسمعونه يتلى ما فيه من آيات الوعيد ، عرتهم خشية تنقبض منها جلودهم .
ثم إذا ذكروا الله ورحمته لانت جلودهم ، أي : زال عنها ذلك التقبض الناشئ عن خشية القلوب بزوال الخشية عنها ، وضمن تلين معنى تطمئن جلودهم لينة غير منقبضة ، وقلوبهم راجية غير خاشية ، ولذلك عداه بإلى .
وكان في ذكر القلوب في هذه الجملة دليل على تأثرها عند السماع ، فاكتفى بقشعريرة الجلود عن ذكر خشية القلوب لقيام المسبب مقام السبب . فلما ذكر اللين ذكرهما ، وفي ذكر اللين دليل على المحذوف الذي هو رحمة الله ، كما كان في قوله : ( إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ) ، دليل بقوله : ( وجلت ) عن ذكر المحذوف ، أي : إذا ذكر وعيد الله وبطشه . وقال : قال النبي - عليه السلام - : " العباس بن عبد المطلب من اقشعر جلده من خشية الله تحاتت عنه ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها " .
وقال : وقد رأى ساقطا من سماع القرآن ، فقال : إنا لنخشى الله ، وما نسقط ، هؤلاء يدخل الشيطان في جوف أحدهم . ابن عمر
و قالت : كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم عند سماع القرآن ، قيل لها : إن قوما اليوم إذا اسمعوا القرآن خر أحدهم مغشيا عليه ، فقالت : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . أسماء بنت أبي بكر
وقال : بيننا وبين هؤلاء الذين يصرعون عند قراءة القرآن أن يجعل أحدهم على حائط باسطا رجليه ، ثم يقرأ عليه القرآن كله ، فإن رمى بنفسه فهو صادق . والإشارة بذلك إلى [ ص: 424 ] الكتاب ، أو إلى ذينك الوصفين من الاقشعرار واللين ، أي : أثر هدى الله . ابن سيرين
( أفمن يتقي ) أي : يستقبل ، كما قال الشاعر :
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد
أي : استقبلتنا بيدها لتقي بيدها وجهها أن يرى .
والظاهر حمل ( بوجهه ) على حقيقته . لما كان يلقى في النار مغلولة يداه إلى رجليه مع عنقه ، لم يكن له ما يتقي به النار إلا وجهه .
قال مجاهد : يجر على وجهه في النار ، ويجوز أن يعبر بالوجه عن الجملة . وقيل : المعنى وصف كثرة ما ينالهم من العذاب ، يتقيه أولا بجوارحه ، فيتزيد حتى يتقيه بوجهه الذي هو أشرف جوارحه ، وفيه جواب ، وهو غاية العذاب .
قال ابن عطية : وهذا المعنى عندي أبين بلاغة . في هذا المضمار يجري قول الشاعر :
يلقى السيوف بوجهه وبنحره ويقيم هامته مقام المغفر
لأنه إنما أراد عظم جرأته عليها ، فهو يلقاها بكل مجن ، وبكل شيء عنه ، حتى بوجهه وبنحره . انتهى .
و ( سوء العذاب ) : أشده ، وخبر من محذوف قدره : كمن أمن العذاب ، الزمخشري وابن عطية : كالمنعمين في الجنة .
( وقيل للظالمين ) أي : قال ذلك خزنة النار ، ( ذوقوا ما كنتم ) أي : وبال ما كنتم ( تكسبون ) من الأعمال السيئة .
( كذب الذين من قبلهم ) : تمثيل ل قريش بالأمم الماضية ، وما آل إليه أمرهم من الهلاك .
( فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ) : من الجهة التي لا يشعرون أن العذاب يأتيهم من قبلها ، ولا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها .
كانوا في أمن وغبطة وسرور ، فإذا هم معذبون مخزيون ذليلون في الدنيا من ممسوخ ومقتول ومأسور ومنفي .
ثم أخبر أن ما أعد لهم في الآخرة أعظم . وانتصب ( قرآنا عربيا ) على الحال ، وهي حال مؤكدة ، والحال في الحقيقة هو ( عربيا ) ، و ( قرآنا ) توطئة له . وقيل : انتصب على المدح ، ونفى عنه العوج ؛ لأنه مستقيم بريء من الاختلاف والتناقض .
وقال : غير مضطرب . وقال عثمان بن عفان : غير مختلف . وقال ابن عباس مجاهد : غير ذي لبس . وقال : غير مخلوق . وقيل : غير ذي لحن . السدي
قال : ( فإن قلت ) : فهلا قيل مستقيما أو غير معوج ؟ ( قلت ) : فيه فائدتان : إحداهما : نفي أن يكون فيه عوج قط ، كما قال : ( الزمخشري ولم يجعل له عوجا ) .
والثاني : أن لفظ العوج مختص بالمعاني دون الأعيان . وقيل : المراد بالعوج : الشك واللبس ، وأنشد :
وقد أتاك يقينا غير ذي عوج من الإله وقول غير مكذوب . انتهى
ولما ذكر تعالى أنه ضرب في القرآن ( من كل مثل ) : أي محتاج إليه ، ضرب هنا مثلا لعابد آلهة كثيرة ، ومن يعبد الله وحده ، ومثل برجل مملوك اشترك فيه ملاك سيئو الأخلاق ، فهو لا يقدر أن يوفي كل واحد منهم مقصوده ، إذ لا يتغاضى بعضهم لبعض لمشاحتهم ، وطلب كل منهم أن يقضي حاجته على التمام ، فلا يزال في عناء وتعب ولوم من كل منهم .
ورجل آخر مملوك جميعه لرجل واحد ، فهو معني بشغله لا يشغله عنه شيء ، ومالكه راض عنه إن قد خلص لخدمته ، وبذل جهده في قضاء حوائجه ، فلا يلقى من سيده إلا إحسانا ، وتقدم الكلام في نصب المثل .
وما بعده .
وقال : انتصب رجلا على إسقاط الخافض ، أي مثلا لرجل ، أو في رجل فيه ، أي : في رقه مشتركا ، وفيه صلة لشركاء . وقرأ الكسائي عبد الله ، ، وابن عباس وعكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، ، والزهري والحسن : بخلاف عنه ; والجحدري ، وابن كثير وأبو عمرو : ( سالما ) اسم فاعل من سلم ، أي خالصا من الشركة . وقرأ ، الأعرج وأبو جعفر ، وشيبة ، وأبو رجاء ، وطلحة ، والحسن : بخلاف عنه ; وباقي السبعة : ( سلما ) بفتح السين واللام .
وقرأ ابن جبير : ( سلما ) بكسر السين وسكون اللام ، وهما مصدر إن وصف بهما مبالغة في الخلوص من الشركة . وقرئ : ( ورجل [ ص: 425 ] سالم ) برفعهما . وقال : أي وهناك رجل سالم لرجل . انتهى ، فجعل الخبر هناك . الزمخشري
ويجوز أن يكون ورجل مبتدأ ؛ لأنه موضع تفصيل ، إذ قد تقدم ما يدل عليه ، فيكون كقول امرئ القيس :
إذا ما بكى من خلفها انحرفت له بشق وشق عندنا لم يحول .
وقال : وإنما جعله رجلا ليكون أفطن لما شقي به أو سعد ، فإن المرأة والصبي قد يغفلان عن ذلك . الزمخشري
وانتصب ( مثلا ) على التمييز المنقول من الفاعل ، إذ التقدير : هل يستوي مثلهما ؟ واقتصر في التمييز على الواحد ؛ لأنه المقتصر عليه أولا في قوله : ( ضرب الله مثلا ) ، ولبيان الجنس . وقرئ : ( مثلين ) ، فطابق حال الرجلين .
وقال : ويجوز فيمن قرأ ( مثلين ) أن يكون الضمير في ( يستويان ) للمثلين ؛ لأن التقدير مثل رجل ، والمعنى : هل يستويان فيما يرجع إلى الوصفية ؟ كما يقول : كفى بهما رجلين . انتهى . الزمخشري
والظاهر أنه يعود الضمير في يستويان إلى الرجلين ، فأما إذا جعلته عائدا إلى المثلين اللذين ذكر أن التقدير مثل رجل ورجل ، فإن التمييز إذ ذاك يكون قد فهم من المميز الذي هو الضمير ، إذ يصير التقدير : هل يستوي المثلان مثلين ؟ قل : ( الحمد لله ) : أي الثناء والمدح لله لا لغيره ، وهو الذي ثبتت وحدانيته ، فهو الذي يجب أن يحمد ، ( بل أكثرهم لا يعلمون ) ، فيشركون به غيره .
ولفظة الحمد لله تشعر بوقوع الهلاك بهم بقوله : ( فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين ) .
ولما لم يلتفتوا إلى هذه الدلائل الباهرة ، أخبر الجميع بأنهم ميتون وصائرون إليه ، وأن اختصامكم يكون بين يديه يوم القيامة ، وهو الحكم العدل ، فيتميز المحق من المبطل ، وهو - عليه السلام - وأتباعه المحقون الفائزون بالظفر والغلبة ، والكافرون هم المبطلون .
فالضمير في ( وإنك ) خطاب للرسول ، وتدخل معه أمته في ذلك . والظاهر عود الضمير في ( وإنهم ) على الكفار ، وغلب ضمير الخطاب في ( إنك ) على ضمير الغيبة في ( إنهم ) ولذلك جاء ( تختصمون ) بالخطاب ، فتحتج أنت عليهم بأنك قد بلغت وكذبوا ، واجتهدت في الدعوة ولجوا في العناد .
وقال أبو العالية : هم أهل القبلة ، يختصمون بينهم يوم القيامة في مظالمهم .
وأبعد من ذهب إلى أن هذا الخصام سببه ما كان في قتل عثمان ، وما جرى بين علي ومعاوية بسبب ذلك ، رضى الله عنهم .
وقيل : يختصم الجميع ، فالكفار يخاصم بعضهم بعضا حتى يقال لهم : لا تختصموا لدي . والمؤمنون يتلقون الكافرين بالحجج ، وأهل القبلة يكون بينهم الخصام .
وقرأ ابن الزبير ، وابن أبي إسحاق ، وابن محيصن ، وعيسى ، واليماني ، وابن أبي غوث ، : ( إنك مائت وإنهم مائتون ) ، وهي تشعر بحدوث الصفة ; والجمهور : ( ميت وميتون ) وهي تشعر بالثبوت واللزوم كالحي . وابن أبي عبلة