اشمأز ، قال أبو زيد : زعر . قال غيره : تقبض كراهة ونفورا . قال الشاعر :
إذا عض الثقات بها اشمأزت وولته عشوزنة زبونا
المقاليد : المفاتيح ، قيل : لا واحد لها من لفظها ، قاله التبريزي . وقيل : واحدها مقليد ، وقيل : مقلاد ، ويقال : إقليد وأقاليد ، والكلمة أصلها فارسية . الزمر : جمع زمرة ، قال أبو عبيد ، والأخفش : جماعات متفرقة ، [ ص: 427 ] بعضها إثر بعض . قال :
حتى احزألت زمر بعد زمر
ويقال : تزمر . والحفوف : الإحداق بالشيء ، قال الشاعر :
تحفه جانب ضيق ويتبعه مثل الزجاجة لم يكحل من الرمد
وهذه اللفظة مأخوذة من الحفاف ، وهو الجانب ، ومنه قول الشاعر :
له لحظات عن حفافي سريره إذا كرها فيها عقاب ونائل
( فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم ) .
( فمن أظلم ممن كذب على الله ) : هذا تفسير وبيان للذين يكون بينهم الخصومة ، وهذا يدل على أن الاختصام السابق يكون بين المؤمنين والكافرين ، والمعنى : لا أجد في المكذبين أظلم ممن افترى على الله ، فنسب إليه الولد والصاحبة [ ص: 428 ] والشريك ، وحرم وحلل من غير أمر الله .
( وكذب بالصدق ) : وهو ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ; ( إذ جاءه ) أي : وقت مجيئه ، فاجأه بالتكذيب من غير فكر ولا ارتياء ولا نظر ، بل وقت مجيئه كذب به .
ثم توعدهم توعدا فيه احتقارهم على جهة التوقيف ، وللكافرين مما قام فيه الظاهر مقام المضمر ، أي : مثوى لهم ، وفيه تنبيه على علة كذبهم وتكذيبهم ، وهو الكفر .
( والذي جاء بالصدق ) معادل لقوله : ( فمن أظلم ) .
( وصدق به ) مقابل لقوله : ( وكذب بالصدق ) . ( والذي ) جنس ، كأنه قال : والفريق الذي جاء بالصدق ، ويدل عليه : ( أولئك هم المتقون ) ، فجمع . كما أن المراد بقوله : ( فمن أظلم ) ، يراد به جمع ، ولذلك قال ( مثوى للكافرين ) .
وفي قراءة عبد الله : ( والذي جاءوا بالصدق وصدقوا به ) . وقيل : أراد والذين ، فحذفت منه النون ، وهذا ليس بصحيح ، إذ لو أريد الذين بلفظ الذي وحذفت منه النون ، لكان الضمير مجموعا كقوله :
وإن الذي حانت بفلح دماؤهم
ألا ترى أنه إذا حذفت النون في المثنى كان الضمير مثنى ؟ كقوله :
أبني كليب أن عمي اللذا قتلا الملوك وفككا الأغلالا
وقيل : الذي جاء بالصدق وصدق به هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وقيل : الذي جاء بالصدق جبريل ، والذي صدق به هو محمد - صلى الله عليه وسلم - .
وقال علي ، وأبو العالية ، والكلبي ، وجماعة : الذي جاء بالصدق هو الرسول ، والذي صدق به هو أبو بكر .
وقال أبو الأسود ، ومجاهد ، وجماعة : الذي صدق به وهو . علي بن أبي طالب
وقال : والذي جاء بالصدق وصدق به هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء بالصدق وآمن به ، وأراد به إياه ومن تبعه ، كما أراد بموسى إياه وقومه في قوله : ( الزمخشري ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون ) ، ولذلك قال : ( أولئك هم المتقون ) ، إلا أن هذا في الصفة ، وذلك في الاسم .
ويجوز أن يريد : والفوج والفريق الذي جاء بالصدق وصدق به ، وهو الرسول الذي جاء بالصدق ، وصحابته الذين صدقوا به . انتهى .
وقوله : وأراد به إياه ومن تبعه ، كما أراد بموسى إياه وقومه . استعمل الضمير المنفصل في غير موضعه ، وإنما هو متصل ، فإصلاحه : وأراده به ومن تبعه ، كما أراده بموسى وقومه أي : لعل قومه يهتدون ، إذ موسى - عليه السلام - مهتد . فالمترجى هداية قومه ، لا هدايته ، إذ لا يترجى إلا ما كان مفقودا لا موجودا .
وقوله : ويجوز إلخ ، فيه توزيع الصلة ، والفوج هو الموصول ، فهو كقوله : جاء الفريق الذي شرف وشرف . والأظهر عدم التوزيع ، بل المعطوف على الصلة ، صلة لمن له الصلة الأولى .
وقرأ الجمهور : ( وصدق ) مشددا ، وأبو صالح ، وعكرمة بن سليمان ، ومحمد بن جحازة : مخففا . قال أبو صالح : وعمل به .
وقيل : استحق به اسم الصدق . قال ابن عطية : فعلى هذا إسناد الأفعال كلها إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وكأن أمته في ضمن القول ، وهو الذي يحسن ( أولئك هم المتقون ) . انتهى .
وقال أي : صدق به الناس ، ولم يكذبهم به ، يعني : أداه إليهم ، كما نزل عليه من غير تحريف . وقيل : معناه : وصار صادقا به ، أي : بسببه ؛ لأن القرآن معجزة ، والمعجزة تصديق من الحكيم الذي لا يفعل القبيح لمن يجريها على يديه ، ولا يجوز أن يصدق إلا الصادق ، فيصير لذلك صادقا بالمعجزة . الزمخشري
وقرئ : ( وصدق به ) . انتهى . يعني : مبنيا للمفعول مشددا . وقال صاحب اللوامح : جاء بالصدق من عند الله وصدق بقوله ، أي : في قوله ، أو في مجيئه ، فاجتمع له الصفتان من الصدق : من صدقه من عند الله ، وصدقه بنفسه ، وذلك مبالغة في المدح . انتهى .
( لهم ما يشاءون ) : عام في كل ما تشتهيه أنفسهم وتتعلق به إرادتهم . و ( ليكفر ) : متعلق بالمحسنين ، أي : الذين أحسنوا ليكفر ، أو بمحذوف ، أي : يسر ذلك لهم ليكفر ؛ لأن التكفير لا يكون إلا بعد التيسير للخير . و ( أسوأ الذي عملوا ) : هو كفر أهل الجاهلية ومعاصي أهل الإسلام . [ ص: 429 ] والتكفير يدل على سقوط العقاب عنهم على أكمل الوجوه ، والجزاء بالأحسن يدل على حصول الثواب على أكمل الوجوه ، فقيل : ذلك يكون إذا صدقوا الأنبياء فيما أتوا به . وقال مقاتل : يجزيهم بالمحاسن من أعمالهم ، ولا يجزيهم بالمساوي ، وهذا قول المرجئة ، يقولون : لا يضر شيء من المعاصي مع الإيمان . واحتج بهذه الآية ، وقام الظاهر مقام المضمر في المحسنين ، أي : ذلك جزاؤهم ، فنبه بالظاهر على العلة المقتضية لحصول الثواب . والظاهر أن أسوأ أفعل تفضيل ، وبه قرأ الجمهور : وإذا كفر أسوأ أعمالهم ، فتكفير ما هو دونه أحرى . وقيل : أفعل ليس للتفضيل ، وهو كقولك : الأشج أعدل بني مروان ، أي : عادل ، فكذلك هذا ، أي : سيئ الذين عملوا .
ويدل على هذا التأويل قراءة ابن مقسم ، وحامد بن يحيى ، عن ابن كثير : ( أسوأ ) هنا ; وفي ( حم السجدة ) بألف بين الواو والهمزة ، جمع سوء ، ولا تفضيل فيه . والظاهر أن ( بأحسن ) أفعل تفضيل فقيل : لينظر إلى أحسن طاعاته فيجزى الباقي في الجزاء على قياسه ، وإن تخلف عنه بالتقصير . وقيل : بأحسن ثواب أعمالهم . وقيل : بأحسن من عملهم ، وهو الجنة ، وهذا ينبو عنه ( بأحسن الذي ) .
وقال : أما التفضيل فيؤذن بأن الشيء الذي يفرط منهم من الصغائر والزلات المكفرات هو عندهم الأسوأ لاستعظامهم المعصية ، الزمخشري والحسن الذي يعملون هو عند الله الأحسن لحسن إخلاصهم فيه ، فلذلك ذكر سيئهم بالأسوأ ، وحسنهم بالأحسن . انتهى .
وهو على رأي المعتزلة ، ويكون قد استعمل أسوأ في التفضيل على معتقدهم ، وأحسن في التفضيل على ما هو عند الله ، وذلك توزيع في أفعل التفضيل ، وهو خلاف الظاهر .
قالت قريش : لئن لم ينته محمد عن تعييب آلهتنا وتعييبنا ، لنسلطها عليه فتصيبه بخبل وتعتريه بسوء ، فأنزل الله : ( أليس الله بكاف عبده ) أي : شر من يريده بشر ، والهمزة الداخلة على النفي للتقرير ، أي : هو كاف عبده ، وفي إضافته إليه تشريف عظيم لنبيه . وقرأ الجمهور : ( عبده ) ، وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وقرأ أبو جعفر ، ومجاهد ، وابن وثاب ، وطلحة ، ، والأعمش وحمزة ، : ( عباده ) بالجمع ، أي : الأنبياء والمطيعين من المؤمنين . والكسائي
( ويخوفونك بالذين من دونه ) : وهو الأصنام . ولما بعث خالدا إلى كسر العزى ، قال له سادنها : إني أخاف عليك منها ، فلها قوة لا يقوم لها شيء . فأخذ خالد الفأس ، فهشم به وجهها ثم انصرف . وفي قوله : ( ويخوفونك ) ، تهكم بهم ؛ لأنهم خوفوه بما لا يقدر على نفع ولا ضرر . ونظير هذا التخويف قول قوم هود له : ( إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء ) . وقرئ : ( بكافي عبده ) على الإضافة ، ( ويكافي عباده ) مضارع كفى ، ونصب ( عباده ) فاحتمل أن يكون مفاعلة من الكفاية ، كقولك : يجازي في يجزي ، وهو أبلغ من كفى ، لبنائه على لفظ المبالغة ، وهو الظاهر لكثرة تردد هذا المعنى في القرآن ، كقوله : ( فسيكفيكهم الله ) . ويحتمل أن يكون مهموزا من المكافأة ، وهي المجازاة ، أي : يجزيهم أجرهم .
ولما كان تعالى كافي عبده ، كان التخويف بغيره عبثا باطلا .
ولما اشتملت الآية على مهتدين وضالين ، أخبر أن ذلك كله هو فاعله ، ثم قال : ( أليس الله بعزيز ) أي : غالب منيع ، ( ذي انتقام ) : وفيه وعيد لقريش ، ووعد للمؤمنين .
ولما أقروا بالصانع ، وهو الله ، أخبرهم أنه تعالى هو المتصرف في نبيه بما أراد . فإن تلك الأصنام التي يدعونها آلهة من دونه لا تكشف ضرا ولا تمسك رحمة ، أي : صحة وسعة في الرزق ونحو ذلك .
وأرأيتم هنا جارية على وضعها ، تعدت إلى مفعولها الأول ، وهو ما يدعون . وجاء المفعول الثاني جملة استفهامية ، وفيها العائد على ما ، وهو لفظ هن وأنث تحقيرا لها وتعجيزا وتضعيفا . وكان فيها من سمي تسمية الإناث ، كالعزى ومناة واللات .
وأضاف إرادة الله الضر إلى نفسه والرحمة إليها ؛ لأنهم خوفوه مضرتها ، فاستسلف منهم الإقرار بأن خالق العالم هو الله .
ثم استخبرهم عن أصنامهم ، هل تدفع شرا [ ص: 430 ] وتجلب خيرا ؟ وقرأ الجمهور : ( كاشفات وممسكات ) على الإضافة ; وشيبة ، ، والأعرج ، وعمرو بن عبيد وعيسى : بخلاف عنه ; وأبو عمرو ، وأبو بكر ; بتنوينهما ونصب ما بعدهما .
ولما تقرر أنه تعالى كافيه ، وأن أصنامهم لا تضر ولا تنفع ، أمره تعالى أن يعلم أنه تعالى هو حسبه ، أي : كافيه . والجواب في هذا الاستخبار محذوف ، والتقدير : فإنهم سيقولون : لا تقدر على شيء من ذلك . وقال مقاتل : استخبرهم فسكتوا .
( قل ياقوم اعملوا ) : تقدم الكلام على نظيرها .