( وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله ) : اسم كانت مضمر يعود على التولية عن البيت المقدس إلى الكعبة ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة ، وتحريره من جهة علم العربية أنه عائد على المصدر المفهوم من قوله : ( وما جعلنا القبلة ) ، أي وإن كانت الجعلة لكبيرة ، أو يعود على القبلة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوجه إليها ، وهي بيت المقدس قبل التحويل ، قاله أبو العالية والأخفش . وقيل : يعود على الصلاة التي صلوها إلى بيت المقدس . ومعنى " كبيرة " : أي شاقة صعبة ، ووجه صعوبتها أن ذلك مخالف للعادة ; لأن من ألف شيئا ، ثم انتقل عنه ، صعب عليه الانتقال ، أو أن ذلك محتاج إلى معرفة النسخ وجوازه ووقوعه . وإن هنا هي المخففة من الثقيلة ، دخلت على الجملة الناسخة . واللام هي لام الفرق بين إن النافية والمخففة من الثقيلة ، وهل هي لام الابتداء ألزمت للفرق ، أم هي لام اجتلبت للفرق ؟ في ذلك خلاف ، هذا مذهب البصريين والكسائي والفراء وقطرب في إن التي يقول البصريون إنها مخففة من الثقيلة ، خلاف مذكور في النحو . وقراءة الجمهور : " لكبيرة " بالنصب ، على أن تكون خبر كانت . وقرأ اليزيدي : " لكبيرة " بالرفع ، وخرج ذلك على زيادة كانت ، التقدير : وإن هي لكبيرة ، وهذا ضعيف ; لأن كان الزائدة لا عمل لها ، وهنا قد اتصل بها الضمير فعملت فيه ، ولذلك استكن فيها . وقد خالف الزمخشري أبو سعيد ، فزعم أنها إذا زيدت عملت في الضمير العائد على المصدر المفهوم منها ، أي كان هو ، أي الكون . وقد رد ذلك في علم النحو . وكذلك أيضا نوزع من زعم أن كان زائدة في قوله :
وجيران لنا كانوا كرام
لاتصال الضمير به وعمل الفعل فيه ، والذي ينبغي أن تحمل القراءة عليه أن تكون " لكبيرة " خبر مبتدأ محذوف ، والتقدير : لهي كبيرة . ويكون لام الفرق دخلت على جملة في التقدير ، تلك الجملة خبر لكانت ، وهذا التوجيه ضعيف أيضا ، وهو توجيه شذوذ . ( إلا على الذين هدى الله ) ، هذا استثناء من المستثنى منه المحذوف ، إذ التقدير : وإن كانت لكبيرة على الناس إلا على الذين هدى الله ، ولا يقال في هذا إنه استثناء مفرغ ; لأنه لم يسبقه نفي أو شبهة ، إنما سبقه إيجاب . ومعنى هدى الله : أي هداهم لاتباع الرسول ، أو عصمهم واهتدوا بهدايته ، أو خلق لهم الهدى الذي هو الإيمان في قلوبهم ، أو وفقهم إلى الحق وثبتهم على الإيمان . وهذه أقوال متقاربة ، وفيه إسناد الهداية إلى الله ، أي أن عدم صعوبة ذلك إنما هو بتوفيق من [ ص: 426 ] الله ، لا من ذوات أنفسهم ، فهو الذي وفقهم لهدايته .
( وما كان الله ليضيع إيمانكم ) : قيل : سبب نزول هذا أن جماعة ماتوا قبل تحويل القبلة ، فسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنهم ، فنزلت . وقيل : السائل ، أسعد بن زرارة مع جماعة ، وهذا مشكل ; لأنه قد روي أن والبراء بن معرور أسعد بن زرارة ماتا قبل تحويل القبلة . وقد فسر الإيمان بالصلاة إلى والبراء بن معرور بيت المقدس ، وكذلك ذكره البخاري ، وقال ذلك والترمذي ابن عباس والبراء بن عازب وقتادة والسدي والربيع وغيرهم ، وكنى عن الصلاة بالإيمان لما كانت صادرة عنه ، وهي من شعبه العظيمة . ويحتمل أن يقر الإيمان على مدلوله ، إذ هو يشمل التصديق في وقت الصلاة إلى بيت المقدس ، وفي وقت التحويل . وذكر الإيمان ، وإن كان السؤال عن صلاة من صلى إلى بيت المقدس ; لأنه هو العمدة ، والذي تصح به الأعمال . وقد كان لهم ثابتا في حال توجههم إلى بيت المقدس وغيره ، فأخبر تعالى أنه لا يضيع إيمانكم ، فاندرج تحته متعلقاته التي لا تصح إلا به . وكان ذكر الإيمان أولى من ذكر الصلاة ; لئلا يتوهم اندراج صلاة المنافقين إلى بيت المقدس ، وأتى بلفظ الخطاب ، وإن كان السؤال عمن مات على سبيل التغليب ; لأن المصلين إلى بيت المقدس لم يكونوا كلهم ماتوا . وقرأ الضحاك : ليضيع - بفتح الضاد وتشديد الياء - وأضاع وضيع ، الهمزة والتضعيف كلاهما للنقل ; إذ أصل الكلمة ضاع . وقال في المنتخب : لولا ذكر سبب نزول هذه الآية : لما اتصل الكلام بعضه ببعض . ووجه تقرير الإشكال ، أن الذين لا يجوزون النسخ إلا مع البداء يقولون : إنه لما تغير الحكم ، وجب أن يكون الحكم مفسدة ، أو باطلا ، فوقع في قلوبهم ، بناء على هذا السؤال ، أن تلك الصلوات التي أتوا بها متوجهين إلى بيت المقدس كانت ضائعة . فأجاب الله تعالى عن هذا الإشكال ، وبين أن النسخ نقل من مصلحة إلى مصلحة ، ومن تكليف إلى تكليف ، والأول كالثاني في أن المتمسك به قائم . انتهى .
وإذا كان الشك إنما تولد ممن يجوز البداء على الله ، فكيف يليق ذلك بالصحابة ؟ والجواب : أنه لا يقع إلا من منافق ، فأخبر عن جواب سؤال المنافق ، أو جووب على تقدير خطور ذلك ببال صحابي لو خطر ، أو على تقدير اعتقاده أن التوجه إلى الكعبة أفضل . وما ذكره في المنتخب من أنه لولا ذكر سبب نزول هذه الآية ، لما اتصل الكلام بعضه ببعض ، ليس بصحيح ، بل هو كلام متصل ، سواء أصح ذكر السبب أم لم يصح ، وذلك أنه لما ذكر قوله تعالى : ( لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ) ، كان ذلك تقسيما للناس حالة الجعل إلى قسمين : متبع للرسول ، وناكص . فأخبر تعالى أنه لا يضيع إيمان المتبع ، بل عمله وتصديقه ، قبل أن تحول القبلة ، وبعد أن تحول لا يضيعه الله ، إذ هو المكلف بما شاء من التكاليف ، فمن امتثلها ، فهو لا يضيع أجره . ولما كان قد يهجس في النفس الاستطلاع إلى حال إيمان من اتبع الرسول في الحالتين ، أخبر تعالى أنه لا يضيعه ، وأتى بكان المنفية بما الجائي بعدها لام الجحود ; لأن ذلك أبلغ من أن لا يأتي بلام الجحود . فقولك : ما كان زيد ليقوم ، أبلغ مما : كان زيد يقوم ; لأن في المثال الأول : هو نفي للتهيئة والإرادة للقيام ، وفي الثاني : هو نفي للقيام . ونفي التهيئة والإرادة للفعل أبلغ من نفي الفعل ; لأن نفي الفعل لا يستلزم نفي إرادته ، ونفي التهيئة والصلاح والإرادة للفعل تستلزم نفي الفعل ، فلذلك كان النفي مع لام الجحود أبلغ . وهكذا القول فيما ورد من هذا النحو في القرآن . وكلام العرب . وهذه الأبلغية إنما هي على تقدير مذهب البصريين ، فإنهم زعموا أن خبر كان التي بعدها لام الجحود محذوف ، وأن اللام بعدها أن مضمرة ينسبك منها مع الفعل بعدها مصدر ، وذلك الحرف متعلق بذلك الحرف المحذوف ، وقد صرح بذلك الخبر في قول بعضهم :
سموت ولم تكن أهلا لتسمو
ومذهب الكوفيين : أن اللام هي الناصبة ، وليست أن [ ص: 427 ] مضمرة بعده ، وأن اللام بعدها للتأكيد ، وأن نفس الفعل المنصوب بهذه اللام هو خبر كان ، فلا فرق بين : ما كان زيد يقوم ، وما كان زيد ليقوم ، إلا مجرد التأكيد الذي في اللام . والكلام على هذين المذهبين مذكور في علم النحو .
( إن الله بالناس لرءوف رحيم ) : ختم هذه الآية بهذه الجملة ظاهر ، وهي جارية مجرى التعليل لما قبلها ، أي للطف رأفته وسعة رحمته ، نقلكم من شرع إلى شرع أصلح لكم وأنفع في الدين ، أو لم يجعل لها مشقة على الذين هداهم ، أو لا يضيع إيمان من آمن ، وهذا الأخير أظهر . والألف واللام في بالناس يحتمل الجنس ، كما قال : ( الله لطيف بعباده ) ، ( ورحمتي وسعت كل شيء ) ، ( وسعت كل شيء رحمة وعلما ) ، ويحتمل العهد ، فيكون المراد بالناس المؤمنين . وقرأ الحرميان وابن عامر وحفص : لرءوف ، مهموزا على وزن فعول حيث وقع ، قال الشاعر :
نطيع رسولنا ونطيع ربا هو الرحمن كان بنا رءوفا
وقرأ باقي السبعة : لرؤف ، مهموزا على وزن ندس ، قال الشاعر :
يرى للمسلمين عليه حقا كحق الوالد الرؤف الرحيم
وقال : الوليد بن عقبة
وشر الظالمين فلا تكنه يقابل عمه الرؤف الرحيم
وقرأ أبو جعفر بن القعقاع : لروف ، بغير همز ، وكذلك سهل كل همزة في كتاب الله ، ساكنة كانت أو متحركة . ولما كان نفي الجملة السابقة مبالغا فيها من حيث لام الجحود ، ناسب إثبات الجملة الخاتمة مبالغا فيها ، فبولغ فيها بإن وباللام وبالوزن على فعول وفعيل ، كل ذلك إشارة إلى سعة الرحمة وكثرة الرأفة . وتأخر الوصف بالرحمة لكونه فاصلة ، وتقدم المجرور اعتناء بالمرءوف بهم . وقال القشيري : من نظر الأمر بعين التفرقة ، كبر عليه أمر التحويل ; ومن نظر بعين الحقيقة ، ظهر لبصيرته وجه الصواب . ( وما كان الله ليضيع إيمانكم ) : أي من كان مع الله في جميع الأحوال على قلب واحد ، فالمختلفات من الأحوال له واحدة ، فسواء غير ، أو قرر ، أو أثبت ، أو بدل ، أو حقق ، أو حول ، فهم به له في جميع الأحوال . قال قائلهم :
حيثما دارت الزجاجة درنا يحسب الجاهلون أنا جننا