( لئلا يكون ) : هذه لام كي ، وأن بعدها لا النافية ، وقد حجز بها بين أن ومعمولها الذي هو يكون ، كما أنهم حجزوا بها بين الجازم والمجزوم في قولهم : أإن لا تفعل أفعل . وكتبت في المصحف : لا ما بعدها ياء ، بعدها لام ألف ، فجعلوا صورة للهمزة الياء ، وذلك على حسب [ ص: 441 ] التخفيف الذي قرأ به نافع في القرآن من إبدال هذه الهمزة ياء .
وقرأ الجمهور بالتحقيق : وهذه أن واجبة الإظهار هنا ; لكراهتهم اجتماع لام الجر مع لا النافية ; لأن في ذلك قلقا في اللفظ ، وهي جائزة الإظهار في غير هذا الموضع ، فإذا أثبتوها ، فهو الأصل ، وهو الأقل في كلامهم ، وإذا حذفوها ; فلأن المعنى يقتضيها ضرورة أن اللام لا تكون الناصبة ; لأنها قد ثبت لها أن تعمل في الأسماء الجر ، وعوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال .
( للناس عليكم حجة ) : أي احتجاج . والناس : قيل هو عموم في اليهود والعرب وغيرهم . وقيل : اليهود ، وحجتهم قولهم : يخالفنا محمد في قبلتنا ، وقد كان يتبعها ، أو لم ينصرف عن بيت المقدس ، مع علمه بأنه حق إلا برأيه ، ويزعم أنه أمر به ، أو ما درى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم . وقيل : مشركو العرب ، وحجتهم قولهم : قد رجع محمد إلى قبلتنا ، وسيرجع إلى ديننا حين صار يستقبل القبلة . وقيل : الناس عام ، والمعنى : أن الله وعدهم بأنه لا يقوم لأحد عليهم حجة إلا حجة باطلة ، وهي قولهم : يوافق اليهود مع قوله : إني حنيف أتبع ملة إبراهيم ، أو لا يقين لكم ولا تثبتون على دين ، أو قالوا : ما لك تركت بيت المقدس ؟ إن كانت ضلالة فقد دنت بها ، وإن كانت هدى فقد نقلت عنه ، أو قولهم : اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه ، أو قولهم في التوراة : إنه يتحول إلى قبلة أبيه إبراهيم ، فحوله الله ; لئلا يقولوا : نجده في التوراة يتحول فما تحول ، فيكون لهم ذلك حجة ، فأذهب الله حجتهم بذلك . واللام في لئلا لام الجر دخلت على إن وما بعدها فتتقدر بالمصدر ، أي لانتفاء الحجة عليكم . وتتعلق هذه اللام ، قيل : بمحذوف ، أي عرفناكم وجه الصواب في قبلتكم ، والحجة في ذلك لئلا يكون . وقيل : تتعلق ب " ولوا " ، والقراءة بالياء ; لأن الحجة تأنيثها غير حقيقي ، وقد حسن ذلك الفصل بين الفعل ومرفوعه بمجرورين ، فسهل التذكير جدا ، وخبر كان قوله : " للناس " ، و " عليكم " : في موضع نصب على الحال ، وهو في الأصل صفة للحجة ، فلما تقدم عليها انتصب على الحال ، والعامل فيها محذوف ، " ولا " جائز أن يتعلق بحجة ; لأنه في معنى الاحتجاج ، ومعمول المصدر المنحل لحرف مصدري ، والفعل لا يتقدم على عامله . وأجاز بعضهم أن يتعلق " عليكم " " بحجة " ، هكذا نقلوا ، ويحتمل أن يكون " عليكم " الخبر ، وللناس متعلق بلفظ يكون ; لأن كان الناقصة قد تعمل في الظرف والجار والمجرور .
( إلا الذين ظلموا منهم ) ، قرأ الجمهور : " إلا " جعلوها أداة استثناء ، وقرأ ابن عامر وزيد بن علي وابن زيد : ألا ، بفتح الهمزة وتخفيف لام ألا ، إذ جعلوها التي للتنبيه والاستفتاح . فعلى قراءة هؤلاء يكون إعراب " الذين ظلموا " مبتدأ ، والجملة من قوله : ( فلا تخشوهم واخشوني ) في موضع الخبر ، ودخلت الفاء لأنه سلك بالذين مسلك الشرط ، والفعل الماضي الواقع صلة هو مستقبل . المعنى : كأنه قيل : من يظلم من الناس ، فلا تخافوا مطاعنهم في قبلتكم . واخشوني : فلا تخالفوا أمري ، ولولا دخول الفاء لترجح نصب " الذين ظلموا " ، على أن تكون المسألة من باب الاشتغال ، أي لا تخشوا الذين ظلموا ، لا تخشوهم ، لكن ذلك يجوز على مذهب الأخفش في زيادة الفاء ، وأجاز ابن عطية أن يكون الذين نصب بفعل مقدر على الإغراء . ونقل السجاوندي عن أنه قرأ إلى الذين ، جعلها حرف جر ، وتأولها بمعنى مع . وأما على قراءة الجمهور ، فالاستثناء متصل ، قاله أبي بكر بن مجاهد وغيره ، واختاره ابن عباس ، وبدأ به الطبري ابن عطية ، ولم يذكر غيره ، وذلك أنه متى أمكن الاستثناء المتصل إمكانا حسنا كان أولى من غيره . قال الزمخشري : ومعناه لئلا يكون حجة لأحد من الزمخشري اليهود ، إلا للمعاندين منهم القائلين : ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا ميلا إلى دين قومه وحبا لبلده ، ولو كان على الحق للزم قبلة الأنبياء . ( فإن قلت ) : أي حجة كانت تكون للمتصفين منهم لو لم يحول حتى احترز من تلك الحجة ولم يبال بحجة المعاندين ؟ " قلت " : كانوا يقولون : ما له لا يحول إلى قبلة أبيه [ ص: 442 ] إبراهيم ، كما هو مذكور في نعته في التوراة ؟ ( فإن قلت ) : كيف أطلق اسم الحجة على قول المعاندين ؟ ( قلت ) : لأنهم يسوقونه سياق الحجة ، انتهى كلامه . وقال ابن عطية : المعنى أنه لا حجة لأحد عليكم إلا الحجة الداحضة للذين ظلموا من اليهود وغيرهم من كل من تكلم في النازلة في قولهم : ( ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ) استهزاء ، وفي قولهم : تحير محمد في دينه ، وغير ذلك من الأقوال التي لم تنبعث إلا من عابد وثن ، أو من يهودي ، أو من منافق . وسماها تعالى : حجة ، وحكم بفسادها حين كانت من ظلمة . انتهى كلامه . وقد اتضح بهذا التقرير اتصال الاستثناء . وذهب قوم إلى أنه استثناء منقطع ، أي لكن الذين ظلموا فإنهم يتعلقون عليكم بالشبهة ، يضعونها موضع الحجة ، وليست بحجة . ومثار الخلاف هو : هل الحجة هو الدليل والبرهان الصحيح ؟ أو الحجة هو الاحتجاج والخصومة ؟ ومثار الخلاف هو : هل الحجة هو الدليل والبرهان الصحيح ؟ أو الحجة هو الاحتجاج والخصومة ؟ فإن كان الأول فهو استثناء منقطع ، وإن كان الثاني فهو استثناء متصل . قال : أي عرفكم الله أمر الاحتجاج في القبلة في قوله تعالى : ( الزجاج ولكل وجهة هو موليها ) : لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا من ظلم باحتجاجه فيما قد وضح له ، كما تقول : ما لك علي حجة إلا الظلم ، أو إلا أن تظلمني ، أي ما لك حجة ألبتة ، ولكنك تظلمني . وأجاز قطرب أن يكون الذين في موضع جر بدلا من ضمير الخطاب في عليكم ، ويكون التقدير : لئلا تثبت حجة للناس على غير الظالمين منهم ، وهم أنتم أيها المخاطبون ، بتولية وجوهكم إلى القبلة . ونقل السجاوندي أن قطربا قرأ : إلا على الذين ظلموا ، وهو بدل أيضا على إظهار حرف الجر ، كقوله : ( للذين استضعفوا لمن آمن منهم ) ، وهذا ضعيف ; لأن فيه إبدال الظاهر من ضمير الخطاب ، بدل شيء من شيء ، وهما لعين واحدة ، ولا يجوز ذلك إلى على مذهب الأخفش . وزعم أن " إلا " في الآية بمعنى الواو ، وجعل من ذلك قوله : أبو عبيد معمر بن المثنى
ما بالمدينة دار غير واحدة دار الخليفة إلا دار مروانا
وقوله :
وكل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان
التقدير : عنده والذين ظلموا ، ودار مروان والفرقدان . وإثبات إلا بمعنى الواو ، لا يقوم عليه دليل ، والاستثناء سائغ فيما ادعى فيه أن " إلا " بمعنى الواو ، وكان أبو عبيدة يضعف في النحو . وقال : هذا خطأ عند حذاق النحويين ، وأضعف من هذا زعم أن " إلا " بمعنى بعد ، أي بعد الذين ظلموا ، وجعل من ذلك ( إلا ما قد سلف ) ، أي بعد ما قد سلف ، و ( الزجاج إلا الموتة الأولى ) ، أي بعد الموتة الأولى ، ولولا أن بعض المفسرين ذكر هذين القولين ، ما ذكرتهما لضعفهما . ( فلا تخشوهم واخشوني ) : هذا فيه تحقير لشأنهم ، وأمر باطراحهم ، ومراعاة لأمره تعالى . وضمير المفعول في فلا تخشوهم يحتمل أن يعود على الناس ، أي فلا تخشوا الناس ، وأن يعود على الذين ظلموا ، أي فلا تخشوا الظالمين . ونهى عن خشيتهم فيما يزخرفونه من الكلام الباطل ، فإنهم لا يقدرون على نفع ولا ضر . وأمر بخشيته هو في ترك ما أمرهم به من التوجه إلى المسجد الحرام . وقيل : المعنى " فلا تخشوهم " في المباينة ، " واخشوني " في المخالفة ، ومعناه قريب من الأول . وقد ذكر نا شرح هاتين الجملتين في ذكر قراءة بقريب من هذا . وقال ابن عباس : معناه لا تخشوا أن أردكم في دينكم واخشوني ، وهذا الذي قاله لا يساعده قوله : " فلا تخشوهم " . قال بعضهم : ذكر الخشية هنا ولم يذكر الخوف ; لأن الخشية حذر من أمر قد وقع ، والخوف حذر من أمر لم يقع . والذي تدل عليه اللغة والاستعمال أن الخشية والخوف مترادفان ، وقال تعالى : ( السدي فلا تخافوهم وخافون ) ، كما قال هنا : ( فلا تخشوهم واخشوني ) .
( ولأتم نعمتي عليكم ) : الظاهر أنه معطوف [ ص: 443 ] على قوله : ( لئلا يكون ) ، وكان المعنى : عرفناكم وجه الصواب في قبلتكم ، والحجة لكم لانتفاء حجج الناس عليكم ، ولإتمام النعمة ، فيكون التعريف معللا بهاتين العلتين ، والفصل بالاستثناء وما بعده كلا فصل ; إذ هو من متعلق العلة الأولى . وقيل : هو معطوف على علة محذوفة ، وكلاهما معلولهما الخشية السابقة ، كأنه قيل : واخشوني لأوفقكم ولأتم نعمتي عليكم . وقيل : تتعلق اللام بفعل مؤخر ، التقدير : ولأتم نعمتي عليكم عرفتكم قبلتي ، ومن زعم أن الواو زائدة ، فقوله ضعيف . وإتمام النعمة بما هداهم إليه من القبلة ، أو بما أعده لهم من ثواب الطاعة ، أو بما حصل للعرب من الشرف بتحويل القبلة إلى الكعبة ، أو بإبطال حجج المحتجين عليهم ، أو بإدخالهم الجنة ، أو بالموت على الإسلام ، أو النعمة سنة الإسلام ، والقرآن ، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - ، والستر ، والعافية ، والغنى عن الناس ; أو بشرائع الملة الحنيفية ، أقوال ثمانية صدرت مصدر المثال ، لا مصدر التعيين ، وكل فيها نعمة . ( ولعلكم تهتدون ) : تقدم القول في لعل بالنسبة إلى مجيئها من الله تعالى في قوله : ( الذين من قبلكم لعلكم تتقون ) ، في أول البقرة ، وهو أول مواقعها فيه . والمعنى : لتكونوا على رجاء إدامة هدايتي إياكم على استقبال الكعبة ، أو لكي تهتدوا إلى قبلة أبيكم إبراهيم ، والظاهر رجاء الهداية مطلقا .