( وإلهكم إله واحد ) الآية . روي عن أنها نزلت في كفار قريش ، قالوا : يا ابن عباس محمد ، صف وانسب لنا ربك ، فنزلت سورة الإخلاص وهذه الآية . وروي عنه أيضا أنه كان في الكعبة ، وقيل حولها ، ثلاثمائة وستون صنما يعبدونها من دون الله ، فنزلت . وظاهر الخطاب أنه لجميع المخلوقات المتصور منهم العبادة ، فهو إعلام لهم بوحدانية الله تعالى . ويحتمل أن يكون خطابا لمن قال : صف لنا ربك وانسبه ، أو خطابا لمن يعبد مع الله غيره من صنم ووثن ونار . وإله : خبر عن إلهكم ، وواحد : صفته ، وهو الخبر في المعنى لجواز الاستغناء عن إله ، ومنع الاقتصار عليه ، فهو شبيه بالحال الموطئة ، كقولك : مررت بزيد رجلا صالحا . والواحد المراد به نفي النظير أو القديم الذي لم يكن معه في الأزل شيء ، أو الذي لا أبعاض له ولا أجزاء ، أو المتوحد في استحقاق العبادة . أقوال أربعة أظهرها الأول . تقول : فلان واحد في عصره ، أي لا نظير له ولا شبيه ، وليس المعنى هنا بواحد مبدأ العدد .
( لا إله إلا هو ) : توكيد لمعنى الوحدانية ونفي الإلهية عن غيره . وهي جملة جاءت لنفي كل فرد من الآلهة ، ثم حصر ذلك المعنى فيه - تبارك وتعالى - ، فدلت الآية الأولى على نسبة الواحدية إليه تعالى ، [ ص: 463 ] ودلت الثانية على حصر الإلهية فيه من اللفظ الناص على ذلك ، وإن كانت الآية الأولى تستلزم ذلك ; لأن من ثبتت له الواحدية ثبتت له الإلهية .
وتقدم الكلام على إعراب الاسم بعد " لا " في قوله : ( لا ريب فيه ) ، والخبر محذوف ، وهو بدل من اسم " لا " على الموضع ، ولا يجوز أن يكون خبرا . كما جاز ذلك في قولك : زيد ما العالم إلا هو ; لأن " لا " لا تعمل في المعارف ، هذا إذا فرعنا على أن الخبر بعد " لا " التي يبنى الاسم معها هو مرفوع بها ، وأما إذا فرعنا على أن الخبر ليس مرفوعا بها ، بل هو خبر المبتدأ الذي هو " لا " مع المبني معها ، وهو مذهب ، فلا يجوز أيضا ; لأنه يلزم من ذلك جعل المبتدأ نكرة ، والخبر معرفة ، وهو عكس ما استقر في اللسان العربي . وتقرير البدل فيه أيضا مشكل على قولهم : إنه بدل من إله ; لأنه لا يمكن أن يكون على تقدير تكرار العامل ، لا تقول : لا رجل إلا زيد . والذي يظهر لي فيه أنه ليس بدلا من " إله " ولا من رجل في قولك : لا رجل إلا زيد ، إنما هو بدل من الضمير المستكن في الخبر المحذوف ، فإذا قلنا : لا رجل إلا زيد ، فالتقدير : لا رجل كائن أو موجود إلا زيد . كما تقول : ما أحد يقوم إلا زيد ، فزيد بدل من الضمير في " يقوم " لا من " أحد " ، وعلى هذا يتمشى ما ورد من هذا الباب ، فليس بدلا على موضع اسم لا ، وإنما هو بدل مرفوع من ضمير مرفوع ، ذلك الضمير هو عائد على اسم لا . ولولا تصريح النحويين أنه بدل على الموضع من اسم لا ، لتأولنا كلامهم على أنهم يريدون بقولهم بدل من اسم لا ، أي من الضمير العائد على اسم لا . قال بعضهم : وقد ذكر أن هو بدل من إله على المحل ، قال : ولا يجوز فيه النصب هاهنا ; لأن الرفع يدل على الاعتماد على الثاني ، والمعنى في الآية على ذلك ، والنصب على أن الاعتماد على الأول . انتهى كلامه . سيبويه
ولا فرق في المعنى بين : ما قام القوم إلا زيد ، وإلا زيدا ، من حيث أن زيدا مستثنى من جهة المعنى . إلا أنهم فرقوا من حيث الإعراب ، فأعربوا ما كان تابعا لما قبله بدلا ، وأعربوا هذا منصوبا على الاستثناء ، غير أن الإتباع أولى للمشاكلة اللفظية ، والنصب جائز ، ولا نعلم في ذلك خلافا .
وقال في المنتخب : لما قال تعالى : ( وإلهكم إله واحد ) ، أمكن أن يخطر ببال أحد أن يقول : هب أن إلهنا واحد ، فلعل إله غيرنا مغاير لإلهنا ، فلا جرم أزال ذلك الوهم ببيان التوحيد المطلق فقال : " لا إله إلا هو " . فقوله : " لا إله " يقتضي النفي العام الشامل ، فإذا قال بعده : إلا الله ، أفاد التوحيد التام المطلق المحقق . ولا يجوز أن يكون في الكلام حذف ، كما يقوله النحويون ، والتقدير : لا إله لنا ، أو في الوجود ، إلا الله ; لأن هذا غير مطابق للتوحيد الحق ; لأنه إن كان المحذوف لنا ، كان توحيدا لإلهنا لا توحيدا للإله المطلق ، فحينئذ لا يبقى بين قوله : ( وإلهكم إله واحد ) ، وبين قوله : ( لا إله إلا هو ) فرق فيكون ذلك تكرارا محضا ، وأنه غير جائز . وأما إن كان المحذوف في الوجود ، كان هذا نفيا لوجود الإله الثاني . أما لو لم يضمر ، كان نفيا لماهية الإله الثاني ، ومعلوم أن نفي الماهية أقوى في التوحيد الصرف من نفي الوجود ، فكان إجراء الكلام على ظاهره ، والإعراض عن هذا الإضمار أولى ، وإنما قدم النفي على الإثبات ، لغرض إثبات التوحيد ونفي الشركاء والأنداد . انتهى الكلام .
قال أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي في ( ري الظمآن ) : هذا كلام من لا يعرف لسان العرب . فإن لا إله في موضع المبتدأ ، على قول ، وعند غيره اسم " لا " ، وعلى التقديرين ، لا بد من خبر للمبتدأ أو للا ، فما قاله من الاستغناء عن الإضمار فاسد . وأما قوله : إذا لم يضمر كان نفيا للماهية ، قلنا : نفي الماهية هو نفي الوجود ; لأن نفي الماهية لا يتصور عندنا إلا مع الوجود ، فلا فرق عنده بين لا ماهية ولا وجود ، وهذا مذهب أهل السنة ، خلافا سيبويه للمعتزلة ، فإنهم يثبتون الماهية عرية عن الوجود ، والدليل يأبى ذلك . انتهى كلامه ، وما قاله من تقدير خبر " لا " لا بد منه ; لأن قوله : " لا إله " ، كلام ، فمن حيث هو كلام ، لا بد فيه من مسند ومسند إليه . فالمسند إليه هو إله ، والمسند هو الكون المطلق ، ولذلك ساغ حذفه ، كما [ ص: 464 ] ساغ بعد قولهم : لولا زيد لأكرمتك ، إذ تقديره : لولا زيد موجود ; لأنها جملة تعليقية ، أو شرطية عند من يطلق عليها ذلك ، فلا بد فيها من مسند ومسند إليه ، ولذلك نقلوا أن الخبر بعد لا ، إذا علم ، كثر حذفه عند الحجازيين ، ووجب حذفه عند التميميين . وإذا كان الخبر كونا مطلقا كان معلوما ; لأنه إذا دخل النفي المراد به نفي العموم ، فالمتبادر إلى الذهن هو نفي الوجود ; لأنه لا تنتفي الماهية إلا بانتفاء وجودها ، بخلاف الكون المقيد ، فإنه لا يتبادر الذهن إلى تعيينه ، فلذلك لا يجوز حذفه نحو : لا رجل يأمر بالمعروف إلا زيد ، إلا إن دل على ذلك قرينة من خارج فيعلم ، فيجوز حذفه .
( الرحمن الرحيم ) : ذكر هاتين الصفتين منبها بهما على استحقاق العبادة له ; لأن من ابتدأك بالرحمة إنشاء بشرا سويا عاقلا وتربية في دار الدنيا موعودا الوعد الصدق بحسن العاقبة في الآخرة ، جدير بعبادتك له والوقوف عند أمره ونهيه ، وأطمعك بهاتين الصفتين في سعة رحمته . وجاءت هذه الآية عقيب آية مختومة باللعنة والعذاب لمن مات غير موحد له تعالى ، إذ غالب القرآن أنه إذا ذكرت آية عذاب ، ذكرت آية رحمة ، وإذا ذكرت آية رحمة ، ذكرت آية عذاب . وتقدم شرح هاتين الصفتين ، فأغنى عن إعادته . ويجوز ارتفاع الرحمن على البدل من هو ، وعلى إضمار مبتدأ محذوف ، أي هو الرحمن الرحيم ، وعلى أن يكون خبرا بعد خبر لقوله : " وإلهكم " ، فيكون قد قضى هذا المبتدأ ثلاثة أخبار : إله واحد خبر ، ولا إله إلا هو خبر ثان ، والرحمن الرحيم خبر ثالث . ولا يجوز أن يكون خبرا لهو هذه المذكورة ; لأن المستثنى هنا ليس بجملة ، بخلاف قولك : ما مررت برجل إلا هو أفضل من زيد . قالوا : ولا يجوز أن يرتفع على الصفة لهو ; لأن المضمر لا يوصف . انتهى . وهو جائز على مذهب ، إذا كانت الصفة للمدح ، وكان الضمير للغائب . وأهمل الكسائي ابن مالك القيد الأول ، فأطلق عن أنه يجيز وصف الضمير الغائب . روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " الكسائي " . إن هاتين الآيتين اسم الله الأعظم ، وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم