وهذه الآية لا بد في فهم معناها من تقدير محذوف . واختلفوا ، فمنهم من قال : المثل مضروب بتشبيه الكافر بالناعق . ومنهم من قال : هو مضروب بتشبيه الكافر بالمنعوق به ، ومنهم من قال : هو مضروب بتشبيه داعي الكافر بالناعق ، ومنهم من قال : هو مضروب بتشبيه الداعي والكافر بالناعق والمنعوق به . فعلى أن المثل مضروب بتشبيه الكافر بالناعق ، قيل : يكون التقدير : ومثل الذين كفروا في قلة فهمهم وعقلهم ، كمثل الرعاة يكلمون البهم ، والبهم لا تعقل شيئا . وقيل : يكون التقدير : ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم التي لا تفقه دعاءهم ، كمثل الناعق بغنمه ، فلا ينتفع من نعيقه بشيء غير أنه في عناء ونداء ، وكذلك الكافر ليس له من دعائه الآلهة وعبادته الأوثان إلا العناء . قال : وقد ذكر هذا القول ، إلا أن قوله : ( الزمخشري إلا دعاء ونداء ) لا يساعد عليه ; لأن الأصنام لا تسمع شيئا . انتهى كلامه . ولحظ في هذا القول تمام التشبيه من كل جهة ، فكما [ ص: 482 ] أن المنعوق به لا يسمع إلا دعاء ونداء ، فكذلك مدعو الكافر من الصنم ، والصنم لا يسمع ، فضعف عنده هذا القول . ونحن نقول : التشبيه وقع في مطلق الدعاء ، لا في خصوصيات المدعو ، فشبه الكافر في دعائه الصنم بالناعق بالبهيمة ، لا في خصوصيات المنعوق به . وقيل في هذا القول ، أعني قول من قال التقدير : ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم وأصنامهم أن الناعق هنا ليس المراد به الناعق بالبهائم من الضأن أو غيرها ، وإنما المراد به الصائح في جوف الجبال ، فيجيبه منها صوت يقال له الصدا ، يجيبه ولا ينفعه . فالمعنى : بما لا يسمع منه الناعق إلا دعاءه ونداءه ، قاله الزمخشري ابن زيد . فعلى القولين السابقين يكون الفاعل بيسمع ضميرا يعود على ما ، وهو المنعوق به . وعلى هذا القول يكون الفاعل ضميرا عائدا على الذي ينعق ، ويكون الضمير العائد على ما الرابط للصلة بالموصول محذوفا لفهم المعنى تقديره : بما لا يسمع منه ، وليس فيه شروط جواز الحذف ; لأن الضمير مجرور بحرف جر الموصول بغيره . واختلف ما يتعلقان به ، فالحرف الأول باء تعلقت بينعق ، والثاني من تعلق بيسمع . وقد جاء في كلامهم مثل هذا ، قال : وقيل المراد ب " الذين كفروا " : المتبوعون لا التابعون ، ومعناه : مثل الذين كفروا في دعائهم أتباعهم ، وكون أتباعهم لا يحصل لهم منهم إلا الخيبة والخسران ، كمثل الناعق بالغنم . وأما القول على أن المثل مضروب بتشبيه الكافر بالمنعوق به ، وهو البهائم التي لا تعقل مثل : الإبل ، والبقر ، والغنم ، والحمير ، وهو قول ابن عباس وعكرمة وعطاء ومجاهد وقتادة والحسن والربيع والسدي . وأكثر المفسرين اختلفوا في تقدير مصحح هذا التشبيه ، فقيل التقدير : ومثل الذين كفروا في دعائهم إلى الله تعالى وعدم سماعهم إياه كمثل بهائم الذي ينعق ، فهو على حذف قيد في الأول ، وحذف مضاف من الثاني . وقيل التقدير : ومثل الذين كفروا في عدم فهمهم عن الله وعن رسوله ، كمثل المنعوق به من البهائم التي لا تفقه من الأمر والنهي غير الصوت . فيراد بالذي ينعق الذي ينعق به ، فيكون هذا من المقلوب عندهم . قالوا : كما تقول : دخل الخاتم في يدي والخف في رجلي . وكقولهم : عرض الحوض على الناقة ، وأوردوا مما ذكروا أنه مقلوب جملة . وذهب إلى هذا التفسير أبو عبيدة والفراء وجماعة ، وينبغي أن ينزه القرآن عنه ; لأن الصحيح أن القلب لا يكون إلا في الشعر ، أو إن جاء في الكلام فهو من القلة بحيث لا يقاس عليه . وأما القول على أن المثل مضروب بتشبيه داعي الكافر بالناعق ، فيكون قوله تعالى : ( ومثل الذين كفروا ) هو على تقدير : ومثل داعي الذين كفروا . فهو على حذف مضاف ، فلا يكون من تشبيه الكافر بالناعق ، ولا بالمنعوق ، وإنما يكون من باب تشبيه داعي الكافر في دعائه إياه بالناعق بالبهائم ، في كون الكافر لا يفهم مما يخاطبه به داعيه إلا دوي الصوت دون إلقاء ذهن ولا فكر ، فهو شبيه بالناعق بالبهيمة التي لا تسمع من الناعق بها إلا دعاءه ونداءه ، ولا تفهم شيئا آخر . قال : ويجوز أن يراد بما لا يسمع الأصم الأصلخ ، الذي لا يسمع من كلام الرافع صوته بكلامه إلا النداء والصوت لا غير ، من غير فهم للحروف . وأما على القول بأن المثل مضروب بتشبيه الداعي والكافر بالناعق والمنعوق به ، فهو الذي اختاره الزمخشري في الآية . أن المعنى : مثلك يا سيبويه محمد ومثل الذين كفروا ، كمثل الناعق والمنعوق به . وقد اختلف في كلام فقيل : هو تفسير معنى لا تفسير إعراب ، وقيل : هو تفسير إعراب ، وهو أن في الكلام حذفين : حذف من الأول ، وهو حذف داعيهم ، وقد أثبت نظيره في الثاني ، وحذف من الثاني ، وهو حذف المنعوق به ، وقد أثبت نظيره في الأول ; فشبه داعي الكفار براعي الغنم في مخاطبته من لا يفهم عنه ، وشبه الكفار بالغنم في كونهم لا يسمعون مما دعوا إليه إلا أصواتا ، ولا يعرفون ما وراءها . وفي هذا الوجه حذف [ ص: 483 ] كثير ، إذ فيه حذف معطوفين ، إذ التقدير الصناعي : ومثل الذين كفروا وداعيهم كمثل الذي ينعق والمنعوق به . وذهب إلى تقرير هذا الوجه جماعة من أصحابنا ، منهم الأستاذ سيبويه أبو بكر بن طاهر وتلميذه ، والأستاذ أبو الحسن بن خروف أبو علي الشنلوبين وقالوا : إن العرب تستحسنه ، وإنه من بديع كلامها ، ومثاله قوله تعالى : ( وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء ) التقدير : وأدخل يدك في جيبك تدخل ، وأخرجها تخرج بيضاء ، فحذف تدخل لدلالة " تخرج " ، وحذف وأخرجها لدلالة " وأدخل " ، قالوا : ومثل ذلك قول الشاعر :
وإني لتعروني لذكراك فترة كما انتفض العصفور بلله القطر
لم يرد أن يشبه فترته بانتفاض العصفور حين يبله القطر ، لكونهما حركة وسكونا ، فهما ضدان ، ولكن تقديره : إني إذا ذكرتك عراني انتفاض ثم أفتر ، كما أن العصفور إذا بلله القطر عراه فترة ثم ينتفض ، غير أن وجيب قلبه واضطرابه قبل الفترة ، وفترة العصفور قبل انتفاضه . وهذه الأقوال كلها في التشبيه ، إنما هي على مراعاة تشبيه مفرد بمفرد ، ومقابلة جزء من الكلام السابق بجزء من الكلام المشبه به . وأما إذا كان التشبيه من باب تشبيه الجملة بالجملة ، فلا يراعى في ذلك مقابلة الألفاظ المفردة ، بل ينظر فيه إلى المعنى . وعلى هذا الضرب من التشبيه حمل الآية أبو القاسم الراغب ، قال الراغب : فلما شبه قصة الكافرين في إعراضهم عن الداعي لهم إلى الحق بقصة الناعق ، قدم ذكر الناعق ليبني عليه ما يكون منه ومن المنعوق به . وعلى هذا ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ) ، وقوله تعالى : ( مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا ) . فهذه تسعة أقوال في تفسير هذه الآية .
وقد بقي شيء من الكلام عليها ، فنقول : و " مثل الذين " مبتدأ ، خبره " كمثل " ، والكاف للتشبيه . شبه الصفة بالصفة ، أي صفتهم كصفة الذي ينعق . ومن ذهب إلى أن الكاف زائدة ، فقوله ليس بشيء ; لأن الصفة ليست عين الصفة ، فلا بد من الكاف التي تعطي التشبيه . بل لو جاء دون الكاف لكنا نعتقد حذفها ; لأن به تصحيح المعنى . والذي ينعق ، لا يراد به مفرد ، بل المراد الجنس . وتقدم أن المراد : كالناعق بالبهائم ، أو كالمصوت في الجبال الذي لا يجيبه منها إلا الصدا ، أو كالمصوت بالأصم الأصلخ ، أو كالمنعوق به ، فيكون من باب القلب . وقيل : كالمصوت بشيء بعيد منه ، فهو لا يسمع من أجل البعد ، فليس للمصوت من ذلك إلا النداء الذي ينصبه ويتعبه . وقيل : وقع التشبيه بالراعي للضأن ; لأنها من أبله الحيوان ، فهي تحمق راعيها . وفي المثل : أحمق من راعي ضأن ثمانين . وقال دريد بن الصمة لمالك بن عوف يوم هوازن : راعي ضأن والله ; لأنه لما جاء إلى قتال النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر هوازن ومن كان معهم أن يحملوا معهم المال والنساء ، فلما لقيه دريد قال : أراك سقت المال والنساء ؟ فقال : يقاتلون عن أموالهم وحريمهم . فقال له دريد : أمنت أن تكون عليك راعي ضأن والله لا أصحبتك ، وقال الشاعر :
أصبحت هزءا لراعي الضأن يهزأ بي ماذا يريبك مني راعي الضأن
" إلا دعاء ونداء " : هذا استثناء مفرغ ; لأن قبله فعل مبني متعد لم يأخذ مفعوله . وذهب بعضهم إلى أنه ليس استثناء مفرغا وأن " إلا " زائدة ، والدعاء والنداء منفي سماعهما ، والتقدير : بما لا يسمع دعاء ولا نداء ، وهذا ضعيف ; لأن القول بزيادة " إلا " قول بلا دليل . وقد ذهب - رحمه الله - إلى ذلك في قوله : الأصمعي
حراجيج ما تنفك إلا مناخة على الخسف أو نرمي بها بلدا قفرا
وضعف قوله في ذلك ، ولم يثبت زيادة إلا في مكان مقطوع به ، فنثبت لها الزيادة ، وأورد بعضهم هنا سؤالا فقال : فإن قيل قوله : " لا يسمع إلا دعاء ونداء " ، ليس المسموع إلا الدعاء والنداء ، فكيف ذمهم بأنهم [ ص: 484 ] لا يسمعون إلا الدعاء ؟ وكأنه قيل : لا يسمعون إلا المسموع ، وهذا لا يجوز . فالجواب : أن في الكلام إيجازا ، وإنما المعنى : لا يفهمون معاني ما يقال لهم ، كما لا يميز البهائم بين معاني الألفاظ التي لا تصوت بها ، وإنما يفهم شيئا يسيرا ، وقد أدركته بطول الممارسة وكثرة المعاودة ، فكأنه قيل : ليس لهم إلا سماع النداء دون إدراك المعاني والأعراض . انتهى كلامه . وقال علي بن عيسى : إنما ثنى فقال : " إلا دعاء ونداء " ; لأن الدعاء طلب الفعل والنداء إجابة الصوت . ( صم بكم عمي ) : تقدم الكلام على هذه الكلم . ( فهم لا يعقلون ) : لما تقرر فقدهم لمعاني هذه الحواس ، قضى بأنهم لا يعقلون . كما قال أبو المعالي وغيره : العقل علوم ضرورية يعطيها هذه الحواس ، إذ لا بد في كسبها من الحواس . انتهى . قيل : والمراد العقل الاكتسابي ; لأن العقل المطبوع كان حاصلا لهم ، والعقل عقلان : مطبوع ومكسوب . ولما كان الطريق لاكتساب العقل المكتسب هو الاستعانة بهذه القوى الثلاث ، كان إعراضهم عنها فقدا للعقل المكتسب ، ولهذا قيل : من فقد حسا فقد فقد عقلا .