قلت لها قفي فقالت قاف .
أراد قالت وقفت ، وكقول القائل :
بالخير خيرات وإن شرفا ولا أريد الشر إلا أن تآ .
أراد وإن شرا فشر ، وأراد إلا أن تشاء ، والشواهد في هذا كثيرة ، فليس كونها في القرآن مما تنكره العرب في لغتها ، فينبغي إذا كان من معهود كلام العرب أن يطلب تأويله ويلتمس وجهه ، انتهى كلامه . وفرق بين ما أنشد وبين هذه الحروف . وقد أطال وغيره الكلام على هذه الحروف بما ليس يحصل منه كبير فائدة في علم التفسير ، ولا يقوم على كثير من دعاويه برهان . وقد تكلم المعربون على هذه الحروف فقالوا : لم تعرب حروف التهجي لأنها أسماء ما يلفظ ، فهي كالأصوات فلا تعرب إلا إذا أخبرت عنها أو عطفتها فإنك تعربها ، ويحتمل محلها الرفع على المبتدأ أو على إضمار المبتدأ ، والنصب بإضمار فعل ، والجر على إضمار حرف القسم ، هذا إذا جعلناها اسما للسور ، وأما إذا لم تكن اسما للسور فلا محل لها ; لأنها إذ ذاك كحروف المعجم أوردت مفردة من غير عامل فاقتضت أن تكون مستكنة كأسماء الأعداد ، أوردتها لمجرد العدد بغير عطف . وقد تكلم النحويون على هذه الحروف على أنها أسماء السور ، وتكلموا على ما يمكن إعرابه منها وما لا يمكن ، وعلى ما إذا أعرب فمنه ما يمنع الصرف ، ومنه ما لا يمنع الصرف ، وتفصيل ذلك في علم النحو . وقد نقل خلاف في كون هذه الحروف آية ، فقال الكوفيون : ( الزمخشري الم ) آية ، وكذلك هي آية في أول كل سورة ذكرت فيها ، وكذلك ( المص ) و ( طسم ) وأخواتها و ( طه ) و ( يس ) و ( حم ) وأخواتها إلا ( حم عسق ) فإنها آيتان و ( كهيعص ) آية ، وأما ( المر ) وأخواتها فليست بآية ، وكذلك ( طس ) و ( ص ) و ( ق ) و ( ن والقلم ) ، و ( ق ) و ( ص ) حروف دل كل حرف منها على كلمة ، وجعلوا الكلمة آية ، كما عدوا : ( الرحمن ) و ( مدهامتان ) آيتين . وقال البصريون وغيرهم : ليس شيء من ذلك آية . وذكر المفسرون الاقتصار على هذه الحروف في أوائل السور ، وأن ذلك الاقتصار كان لوجوه ذكروها لا يقوم على شيء منها برهان ، فتركت ذكرها . وذكروا أن التركيب من هذه الحروف انتهى إلى خمسة ، وهو : كهيعص ; لأنه أقصى ما يتركب منه الاسم المجرد . وقطع ابن القعقاع ( ألف لام ميم ) حرفا حرفا بوقفة وقفة ، وكذلك سائر حروف التهجي من الفواتح ، وبين النون من طسم ويس وعسق ونون إلا في طس تلك فإنه لم يظهر . وذلك اسم مشار بعيد ، ويصح أن يكون في قوله ( ذلك الكتاب ) على بابه فيحمل عليه ولا [ ص: 36 ] حاجة إلى إطلاقه بمعنى هذا ، كما ذهب إليه بعضهم فيكون للقريب ، فإذا حملناه على موضوعه فالمشار إليه ما نزل بمكة من القرآن ، قاله ابن كيسان وغيره ، أو التوراة والإنجيل ، قاله عكرمة ، أو ما في اللوح المحفوظ ، قاله ابن حبيب ، أو ما وعد به نبيه - صلى الله عليه وسلم - من أنه ينزل إليه كتابا لا يمحوه الماء ولا يخلق على كثرة الرد ، قاله ، أو الكتاب الذي وعد به يوم الميثاق ، قاله ابن عباس ، أو الكتاب الذي ذكرته في التوراة والإنجيل ، قاله عطاء بن السائب ابن رئاب ، أو الذي لم ينزل من القرآن ، أو البعد بالنسبة إلى الغاية التي بين المنزل والمنزل إليه ، أو ذلك إشارة إلى حروف المعجم التي تحديتكم بالنظم منها . وسمعت الأستاذ أبا جعفر بن إبراهيم بن الزبير شيخنا يقول : ذلك إشارة إلى الصراط في قوله : ( اهدنا الصراط ) ، كأنهم لما سألوا الهداية إلى الصراط المستقيم قيل لهم : ذلك الصراط الذي سألتم الهداية إليه هو الكتاب . وبهذا الذي ذكره الأستاذ تبين وجه ارتباط سورة البقرة بسورة الحمد ، وهذا القول أولى لأنه إشارة إلى شيء سبق ذكره ، لا إلى شيء لم يجر له ذكر ، وقد ركبوا وجوها من الإعراب في قوله : ( ذلك الكتاب لا ريب فيه ) . والذي نختاره منها أن قوله : ( ذلك الكتاب ) جملة مستقلة من مبتدأ وخبر ; لأنه متى أمكن حمل الكلام على غير إضمار ولا افتقار ، كان أولى أن يسلك به الإضمار والافتقار ، وهكذا تكون عادتنا في إعراب القرآن ، لا نسلك فيه إلا الحمل على أحسن الوجوه ، وأبعدها من التكلف ، وأسوغها في لسان العرب . ولسنا كمن جعل كلام الله - تعالى - كشعر امرئ القيس ، وشعر الأعشى ، يحمله جميع ما يحتمله اللفظ من وجوه الاحتمالات . فكما أن كلام الله من أفصح كلام ، فكذلك ينبغي إعرابه أن يحمل على أفصح الوجوه ، هذا على أنا إنما نذكر كثيرا مما ذكروه لينظر فيه ، فربما يظهر لبعض المتأملين ترجيح شيء منه ، فقالوا : يجوز أن يكون ذلك خبرا لمبتدأ محذوف تقديره هو ذلك الكتاب ، والكتاب صفة أو بدل أو عطف بيان ، ويحتمل أن يكون مبتدأ وما بعده خبرا . وفي موضع خبر ( الم ) و ( لا ريب ) جملة تحتمل الاستئناف ، فلا يكون لها موضع من الإعراب ، وأن تكون في موضع خبر لـ ( ذلك ) ، والكتاب صفة أو بدل أو عطف أو خبر بعد خبر ، إذا كان الكتاب خبرا ، وقلت بتعدد الأخبار التي ليست في معنى خبر واحد ، وهذا أولى بالبعد لتباين أحد الخبرين ; لأن الأول مفرد والثاني جملة ، وأن يكون في موضع نصب أي مبرأ من الريب ، وبناء ريب مع لا يدل على أنها العاملة عمل إن ، فهو في موضع نصب ولا وهو في موضع رفع بالابتداء ، فالمرفوع بعده على طريق الإسناد خبر لذلك المبتدأ فلم تعمل حالة البناء إلا النصب في الاسم فقط ، هذا مذهب . وأما سيبويه الأخفش فذلك المرفوع خبر للا ، فعملت عنده النصب والرفع ، وتقرير هذا في كتب النحو . وإذا عملت عمل إن أفادت الاستغراق فنفت هنا كل ريب ، والفتح هو قراءة الجمهور . وقرأ أبو الشعثاء : ( لا ريب فيه ) بالرفع ، وكذا قراءة حيث رفع ، والمراد أيضا هنا الاستغراق ، لا من اللفظ بل من دلالة المعنى ; لأنه لا يريد نفي ريب واحد عنه ، وصار نظير من قرأ : ( زيد بن علي فلا رفث ولا فسوق ) بالبناء والرفع ، لكن البناء يدل بلفظه على قضية العموم ، والرفع لا يدل لأنه يحتمل العموم ، ويحتمل نفي الوحدة ، لكن سياق الكلام يبين أن المراد العموم ، ورفعه على أن يكون ريب مبتدأ وفيه الخبر ، وهذا ضعيف لعدم تكرار لا ، أو يكون عملها إعمال ليس ، فيكون فيه في موضع نصب على قول الجمهور من أن لا إذا عملت عمل ليس رفعت الاسم ونصبت الخبر ، أو على مذهب من ينسب العمل لها في رفع الاسم خاصة ، وأما الخبر فمرفوع لأنها وما عملت فيه في موضع رفع بالابتداء كحالها إذا نصبت وبني الاسم معها ، وذلك في مذهب ، وسيأتي الكلام مشبعا في ذلك عند قوله تعالى : ( سيبويه فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ) ، وحمل لا في قراءة لا ريب على أنها تعمل عمل ليس ضعيف لقلة إعمال لا عمل ليس ، فلهذا كانت هذه القراءة [ ص: 37 ] ضعيفة . وقرأ الزهري وابن محيصن ومسلم بن جندب : فيه ، بضم الهاء ، وكذلك إليه وعليه وبه ونصله ونوله وما أشبه ذلك ، حيث وقع على الأصل . وقرأ وعبيد بن عمير ابن أبي إسحاق : فهو ، بضم الهاء ووصلها بواو ، وجوزوا في قوله أن يكون خبرا للا على مذهب الأخفش ، وخبرا لها مع اسمها على مذهب ، أن يكون صفة والخبر محذوف ، وأن يكون من صلة ( ريب ) بمعنى أنه يضمر عامل من لفظ ( ريب ) فيتعلق به ، إلا أنه يكون متعلقا بنفس لا ريب ، إذ يلزم إذ ذاك إعرابه ; لأنه يصير اسم لا مطولا بمعموله نحو لا ضاربا سيبويه زيدا عندنا ، والذي نختاره أن الخبر محذوف لأن الخبر في باب لا العاملة عمل إن إذا علم لم تلفظ به بنو تميم ، وكثر حذفه عند أهل الحجاز ، وهو هنا معلوم ، فأحمله على أحسن الوجوه في الإعراب ، وإدغام الباء من لا ريب في فاء فيه مروي عن أبي عمرو ، والمشهور عنه الإظهار ، وهي رواية اليزيدي عنه . وقد قرأته بالوجهين على الأستاذ أبي جعفر بن الطباع بالأندلس ، ونفي الريب يدل على نفي الماهية ، أي ليس مما يحله الريب ولا يكون فيه ، ولا يدل ذلك على نفي الارتياب لأنه قد وقع ارتياب من ناس كثيرين . فعلى ما قلناه لا يحتاج إلى حمله على نفي التعليق والمظنة ، كما حمله ، ولا يرد علينا قوله تعالى : ( الزمخشري وإن كنتم في ريب ) لاختلاف الحال والمحل ، فالحال هناك المخاطبون ، والريب هو المحل ، والحال هنا منفي ، والمحل الكتاب ، فلا تنافي بين كونهم في ريب من القرآن وكون الريب منفيا عن القرآن . وقد قيد بعضهم الريب فقال : لا ريب فيه عند المتكلم به ، وقيل : هو عموم يراد به الخصوص ، أي عند المؤمنين ، وبعضهم جعله على حذف مضاف ، أي لا سبب فيه لوضوح آياته وإحكام معانيه وصدق أخباره .
وهذه التقادير لا يحتاج إليها . واختيار أن فيه خبر ، وبذلك بنى عليه سؤالا وهو أن قال : هلا قدم الظرف على الريب كما قدم على القول في قوله تعالى : ( الزمخشري لا فيها غول ) ؟ وأجاب بأن التقديم يشعر بما يبعد عن المراد ، وهو أن كتابا غيره فيه الريب ، كما قصد في قوله : ( لا فيها غول ) تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا بأنها لا تغتال العقول كما تغتالها هي ، كأنه قيل : ليس فيها ما في غيرها من هذا العيب والنقيصة . وقد انتقل من دعوى الاختصاص بتقديم المفعول إلى دعواه بتقديم الخبر ، ولا نعلم أحدا يفرق بين : ليس في الدار رجل ، وليس رجل في الدار ، وعلى ما ذكر من أن خمر الجنة لا يغتال ، وقد وصفت بذلك العرب خمر الدنيا ، قال الزمخشري علقمة بن عبدة :
تشفي الصداع ولا يؤذيك طالبها ولا يخالطها في الرأس تدويم .
وأبعد من ذهب إلى أن قوله : لا ريب صيغة خبر ومعناه النهي عن الريب . وجوزوا في قوله تعالى : ( هدى للمتقين ) أن يكون هدى في موضع رفع على أنه مبتدأ ، وفيه في موضع الخبر ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أي هو هدى ، أو على فيه مضمرة إذا جعلنا فيه من تمام لا ريب ، أو خبر بعد خبر فتكون قد أخبرت بالكتاب عن ذلك ، وبقوله لا ريب فيه ، ثم جاء هذا خبرا ثالثا ، أو كان الكتاب تابعا وهدى خبر ثان على ما مر في الإعراب ، أو في موضع نصب على الحال ، وبولغ بجعل المصدر حالا وصاحب الحال اسم الإشارة أو الكتاب ، والعامل فيها على هذين الوجهين معنى الإشارة أو الضمير في فيه ، والعامل ما في الظرف من الاستقرار ، وهو مشكل لأن الحال تقييد ، فيكون انتقال الريب مقيدا بالحال إذ لا ريب فيه يستقر فيه في حال كونه هدى للمتقين ، لكن يزيل الإشكال أنها حال لازمة . والأولى : جعل كل جملة مستقلة ، فذلك الكتاب جملة ، ولا ريب جملة ، وفيه هدى للمتقين جملة ، ولم يحتج إلى حرف عطف لأن بعضها آخذ بعنق بعض . فالأولى أخبرت بأن المشار إليه هو الكتاب الكامل ، كما تقول : زيد الرجل ، أي الكامل في الأوصاف ، والثانية نعت لا يكون شيء ما من ( ريب ) ، والثالثة أخبرت أن فيه الهدى للمتقين . والمجاز [ ص: 38 ] إما في " فيه هدى " ، أي استمرار هدى لأن المتقين مهتدون فصار نظير اهدنا الصراط ، وإما في المتقين أي المشارفين لاكتساب التقوى ، كقوله :
إذا ما مات ميت من تميم
والمتقي في الشريعة هو الذي يقي نفسه أن يتعاطى ما توعد عليه بعقوبة من فعل أو ترك ، وهل التقوى تتناول اجتناب الصغائر ؟ في ذلك خلاف . وجوز بعضهم أن يكون التقدير هدى للمتقين والكافرين ، فحذف لدلالة أحد الفريقين ، وخص المتقين بالذكر تشريفا لهم . ومضمون هذه الجملة على ما اخترناه من الإعراب ، الإخبار عن المشار إليه الذي هو الطريق الموصل إلى الله - تعالى - هو الكتاب أي الكامل في الكتب ، وهو المنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي قال فيه ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) ، فإذا كان جميع الأشياء فيه ، فلا كتاب أكمل منه ، وأنه نفى أن يكون فيه ريب وأنه فيه الهدى . ففي الآية الأولى الإتيان بالجملة كاملة الأجزاء حقيقة لا مجاز فيها ، وفي الثانية مجاز الحذف ; لأنا اخترنا حذف الخبر بعد لا ريب ، وفي الثانية تنزيل المعاني منزلة الأجسام ، إذ جعل القرآن ظرفا والهدى مظروفا ، فألحق المعنى بالعين ، وأتى بلفظة في التي تدل على الوعاء كأنه مشتمل على الهدى ومحتو عليه احتواء البيت على زيد في قولك : زيد في البيت .