في الصحيحين ، أنه - صلى الله عليه وسلم - لما تزوج ، دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون ، فأخذ كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا ، فلما رأى ذلك قام ، وقام من القوم من قام ، وقعد ثلاثة ، فجاء فدخل ، فإذا القوم جلوس ، فرجع وأنهم قاموا فانطلقوا ، وجئت فأخبرته أنهم قد انطلقوا ، فجاء حتى دخل ، وذهبت أدخل ، فألقى الحجاب بيني وبينه ، وأنزل عليه هذه الآية . قال زينب بنت جحش : كان ناس يتحينون طعامه ، عليه الصلاة والسلام ، فيدخلون عليه قبل الطعام إلى أن يدرك ، ثم يأكلون ولا يخرجون ، وكان يتأذى بهم ، فنزلت . وأما سبب الحجاب ، ابن عباس فعمر قال : يا رسول الله ، إن نساءك يدخل عليهن البار والفاجر ، فلو أمرتهن أن يحتجبن ، فنزلت . وقال مجاهد : طعم معه بعض أصحابه ، ومعهم عائشة ، فمست يد رجل منهم يد عائشة ، فكره ذلك عليه السلام ، فنزلت آية الحجاب .
ولما كان نزول الآية في شيء خاص وقع للصحابة ، لم يدل ذلك على أنه لا يجوز دخول بيوت النبي صلى الله عليه وسلم إلا إن كان عن إذن ( إلى طعام غير ناظرين إناه ) لا يجوز دخول بيوته ، عليه السلام ، إلا بإذن ، سواء كان لطعام أم لغيره . وأيضا فإذا كان النهي إلا بإذن إلى طعام ، وهو ما تمس الحاجة إليه لجهة الأولى . و ( بيوت ) جمع ، وإن كانت الواقعة في بيت واحد خاص يعم جميع بيوته . و ( إلا أن يؤذن ) قال : ( الزمخشري إلا أن يؤذن ) في معنى الظرف تقديره : وقت أن يؤذن لكم ، و ( غير ناظرين ) حال من ( لا تدخلوا ) أوقع الاستثناء على الوقت والحال معا ، كأنه قيل : لا تدخلوا بيوت النبي إلا وقت الإذن ، ولا تدخلوها إلا غير ناظرين إناه . انتهى . فقوله : ( إلا أن يؤذن ) في معنى الظرف وتقديره : وقت أن يؤذن لكم ، وأنه أوقع الاستثناء على الوقت فليس بصحيح ، وقد نصوا على أن " أن " المصدرية لا تكون في معنى الظرف . تقول : أجيئك صياح الديك وقدوم الحاج ، ولا يجوز : أجيئك أن يصيح الديك ولا أن يقدم الحاج . وإما أن الاستثناء وقع على الوقت والحال معا ، فلا يجوز على مذهب الجمهور ، ولا يقع بعد إلا في الاستثناء إلا المستثنى ، أو المستثنى منه ، أو صفة المستثنى منه : وأجاز الأخفش ذلك في الحال ، أجازا : ما ذهب القوم إلا يوم الجمعة راحلين عنا ، فيجوز ما قاله والكسائي في الحال . وأما قوله : ( الزمخشري إلا أن يؤذن لكم ) فلا يتعين أن يكون ظرفا ; لأنه يكون التقدير : إلا بأن يؤذن لكم ، فتكون الباء للسببية ، كقوله : ( فأخرجنا به من كل الثمرات ) أو للحال ، أي : مصحوبين بالإذن . وأما ( غير ناظرين ) كما قرر في قوله : ( بالبينات والزبر ) . أرسلناهم بالبينات والزبر ، دل عليه ( لا تدخلوا ) كما دل عليه أرسلناهم قوله : ( وما أرسلنا ) . ومعنى ( غير ناظرين ) فحال ، والعامل فيه محذوف تقديره : ادخلوا بالإذن غير ناظرين . كما قرر في قوله : ( بالبينات والزبر ) أي : غير منتظرين وقته ، أي : وقت استوائه وتهيئته . وقرأ الجمهور : ( غير ) بالنصب على الحال ; : بالكسر ، صفة لطعام . قال وابن أبي عبلة : وليس بالوجه ; لأنه جرى على غير من هو له ، فمن حق ضمير ما هو له أن يبرز إلى اللفظ ، فيقال : غير ناظرين إناه أنتم ، كقوله : الزمخشري هند زيد ضاربته هي . انتهى . وحذف هذا الضمير جائز وعند الكوفيين إذا لم يلبس ، وأنى الطعام : إدراكه ، يقال : أنى الطعام أنى ، كقوله : قلاه قلى ، وقيل : وقته ، أي : غير ناظرين ساعة أكله . وقرأ الجمهور : ( إناه ) مفردا ; : " إنآه " ، بمدة بعد النون . ورتب تعالى الدخول على أن يدعوا ، فلا يقدمون عليه الدخول حين يدعوا ، [ ص: 247 ] ثم أمر بالاستثناء إذا طعموا . ( والأعمش ولا مستأنسين لحديث ) معطوف على ( ناظرين ) فهو مجرور أو معطوف على ( غير ) فهو منصوب ، أي : لا تدخلوها لا ناظرين ولا مستأنسين . وقيل : ثم حال محذوفة ، أي : لا تدخلوها أجمعين ولا مستأنسين ، فيعطف عليه . واللام في ( لحديث ) إما لام العلة ، نهوا أن يطيلوا الجلوس يستأنس بعضهم ببعض لأجل حديث يحدثه به ، أو اللام المقوية لطلب اسم الفاعل للمفعول ، فنهوا أن يستأنسوا حديث أهل البيت . واستئناسه : تسمعه وتوحشه .
( إن ذلكم ) أي : انتظاركم واستئناسكم ( يؤذي النبي فيستحيي منكم ) أي : من إنهاضكم من البيوت ، أو من إخراجكم منها بدليل قوله : ( والله لا يستحيي من الحق ) يعني أن إخراجكم حق ما ينبغي أن يستحيا منه . ولما كان الحياء مما يمنع الحيي من بعض الأفعال ، قيل : ( لا يستحيي من الحق ) بمعنى : لا يمتنع ، وجاء ذلك على سبيل المقابلة لقوله : ( فيستحيي منكم ) . وعن عائشة ، : حسبك في الثقلاء ، أن الله لم يحتملهم . وقرئت هذه الآية بين يدي وابن عباس إسماعيل بن أبي حكيم ، فقال : هنا أدب أدب الله به الثقلاء . وقرأت فرقة : فيستحي بكسر الحاء ، مضارع استحى ، وهي لغة بني تميم . واختلفوا ما المحذوف ، أعين الكلمة أم لامها ؟ فإن كان العين فوزنها يستفل ، وإن كان اللام فوزنها يستفع ، والترجيح مذكور في النحو . وقرأ الجمهور : بياءين وسكون الحاء ، والمتاع عام في ما يمكن أن يطلب على عرف السكنى والمجاورة من المواعين وسائر المرافق للدين والدنيا . ( ذلكم ) أي : السؤال من وراء الحجاب ( أطهر ) يريد من الخواطر التي تخطر للرجال في أمر النساء ، والنساء في أمر الرجال ، إذ الرؤية سبب التعلق والفتنة . ألا ترى إلى قول الشاعر :
والمرء ما دام ذا عين يقلبها في أعين العين موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ساء مهجته لا مرحبا بانتفاع جاء بالضرر
وذكر أن بعضهم قال : أننهى أن نكلم بنات عمنا إلا من وراء حجاب ؟ لئن مات محمد لأتزوجن فلانة . وقال وبعض الصحابة : وفلانة ابن عباس عائشة . وحكى عن مكي معمر أنه قال : هو . قال طلحة بن عبيد الله ابن عطية : وهذا عندي لا يصح على طلحة فإن الله عصمه منه . وفي التحرير أنه طلحة ، فنزلت : ( ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا ) فتاب وأعتق رقبة ، وحمل على عشرة أبعرة في سبيل الله ، وحج ماشيا .
وروي أن بعض المنافقين قال حين تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده ، أي : بعد أم سلمة سلمة ، بعد وحفصة خنيس بن حذافة : ما بال محمد يتزوج نساءنا ؟ والله لو قد مات لأجلنا السهام على نسائه . ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وارتدت العرب ثم رجعت ، تزوج عكرمة بن أبي جهل قتيلة بنت الأشعث بن قيس ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قد تزوجها ولم يبن بها . فصعب ذلك على أبي بكر وقلق ، فقال له عمر : مهلا يا خليفة رسول الله ، إنها ليست من نسائه ، إنه لم يبن بها ، ولا أرخى عليها حجابا ، وقد أبانتها منه ردتها مع قومها . فسكن أبو بكر ، وذهب عمر إلى أن لا يشهد جنازة زينب إلا ذو محرم عنها ، مراعاة للحجاب ، فدلته على سترها في النعش في القبة ، وأعلمته أنها رأت ذلك في بلاد أسماء بنت عميس الحبشة ، ومنعه عمر . وروي أنه صنع ذلك في جنازة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم .
( وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ) عام في كل ما يتأذى به ( ولا أن تنكحوا ) خاص بعد عام ; لأن ذلك يكون أعظم الأذى ، فحرم الله نكاح أزواجه بعد وفاته . ( إن ذلكم ) أي : إذايته ونكاح أزواجه ( كان عند الله عظيما ) وهذا من إعلام تعظيم الله لرسوله ، وإيجابه حرمته حيا وميتا ، وإعلامه بذلك مما طيب به نفسه ، فإن نحو هذا مما يحدث به المرء نفسه . ومن الناس من تفرط غيرته على حرمته حتى يتمنى لها الموت ، لئلا تنكح من بعده ، وخصوصا العرب ، فإنهم أشد الناس [ ص: 248 ] غيرة . وحكى أن بعض الفتيان قتل جارية كان يحبها في حكاية قال : تصورا لما عسى أن يتفق من بقائها بعده ، وحصولها تحت يد غيره . انتهى . فقال : " لما عسى " ، فجعل " عسى " صلة للموصول ، وقد كثر منه هذا وهو لا يجوز . وعن بعض الفقهاء ، أن الزوج الثاني في هدير الثلث يجري مجرى العقوبة ، فعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عملا يلاحظ ذلك . ( الزمخشري إن تبدوا شيئا أو تخفوه ) وعيد لما تقدم التعرض به في الآية ممن أشير إليه بقوله : ( ذلكم أطهر ) ومن أشير إليه : ( وما كان لكم أن تؤذوا ) فقيل : ( إن تبدوا شيئا ) على ألسنتكم ( أو تخفوه ) في صدوركم ، مما يقع عليه العقاب ، فالله يعلمه ، فيجازي عليه . وقال : ( شيئا ) ليدخل فيه ما يؤذيه ، عليه السلام ، من نكاحهن وغيره ، وهو صالح لكل باد وخاف .
وروي أنه لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب : أونحن يا رسول الله أيضا ، نكلمهن من وراء حجاب ، فنزلت : ( لا جناح عليهن ) أي : لا إثم عليهن . قال قتادة : في ترك الحجاب . وقال مجاهد : في وضع الجلباب وإبداء الزينة . وقال : لم يذكر العم والخال ، وإن كانا من المحارم ، لئلا يصفا للأبناء ، وليسوا من المحارم . وقد كره الشعبي الشعبي وعكرمة أن تضع المرأة خمارها عند عمها أو خالها ، وقيل : لأنهما يجريان مجرى الوالدين ، وقد جاءت تسمية العم أبا . وذكر هنا بعض المحارم ، والجميع في سورة النور . ودخل في : ( ولا نسائهن ) الأمهات والأخوات وسائر القربات ، ومن يتصل بهن من المتطرفات لهن . وقال ابن زيد وغيره : أراد جميع النساء المؤمنات ، وتخصيص الإضافة إنما هي في الأيمان . وقال مجاهد : من أهل دينهن ، وهو كقول ابن زيد . والظاهر من قوله : ( أو ما ملكت أيمانهن ) دخول العبيد والإماء دون ما ملك غيرهن . وقيل : مخصوص بالإماء ، وقيل : جميع العبيد ممن في ملكهن أو ملك غيرهن . وقال النخعي : يباح لعبدها النظر إلى ما يواريه الدرع من ظاهر بدنها ، وإذا كان للعبد المكاتب ما يؤدي ، فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب الحجاب دونه ، وفعلته مع مكاتبها نبهان . أم سلمة
( واتقين الله ) أمر بالتقوى وخروج من الغيبة إلى الخطاب ، أي : واتقين الله فيما أمرتن به من الاحتجاب ، وأنزل الله فيه الوحي من الاستتار ، وكأن في الكلام جملة حذفت تقديره : اقتصرن على هذا ، واتقين الله فيه أن تتعدينه إلى غيره . ثم توعد بقوله : ( إن الله كان على كل شيء شهيدا ) من السر والعلن ، وظاهر الحجاب وباطنه ، وغير ذلك . ( شهيدا ) لا تتفاوت الأحوال في علمه . وقرأ الجمهور : ( وملائكته ) نصبا ; ، وابن عباس وعبد الوارث عن أبي عمرو : رفعا . فعند الكوفيين غير الفراء هو عطف على موضع اسم إن ، يشترط خفاء إعراب اسم إن . وعند والفراء البصريين هو على حذف الخبر ، أي : يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ، وملائكته يصلون ، وتقدم الكلام على كيفية اجتماع الصلاتين في قوله : ( هو الذي يصلي عليكم وملائكته ) . فالضمير في ( يصلون ) عائد على ( الله وملائكته ) وقيل : في الكلام حذف ، أي : يصلي وملائكته يصلون ، فرارا من اشتراك الضمير ، والظاهر وجوب الصلاة والسلام عليه ، وقيل : سنة . إذا كانت الصلاة واجبة فقيل : كلما جرى ذكره قيل في كل مجلس مرة . وقد ورد في الحديث في الصلاة عليه ، فضائل كثيرة .
وروي أنه لما نزلت هذه الآية قال قوم من الصحابة : السلام عليك يا رسول الله عرفناه ، فكيف نصلي عليك ؟ قال : " محمد ، وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم ، وارحم محمدا وآل محمد ، كما رحمت وباركت على إبراهيم ، في العالمين إنك حميد مجيد " . وفي بعض الروايات زيادة ونقص . ( قولوا : اللهم صل على إن الذين يؤذون الله ورسوله ) قال : نزلت في الذين طعنوا عليه حين اتخذ ابن عباس زوجا . انتهى . والطعن في تأمير صفية بنت حيي : أن إيذاءه عليه السلام ، وإيذاء الله والرسول فعل ما نهى الله ورسوله عنه من الكفر والمعاصي ، وإنكار النبوة ومخالفة [ ص: 249 ] الشرع ، وما يصيبون به الرسول صلى الله عليه وسلم من أنواع الأذى . ولا يتصور الأذى حقيقة في حق الله ، فقيل : هو على حذف مضاف ، أي : يؤذون أولياء الله ، وقيل : المراد يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقيل : في أذى الله ، هو قول أسامة بن زيد اليهود والنصارى والمشركين : ( يد الله مغلولة ) و ( ثالث ثلاثة ) و ( المسيح ابن الله ) و : الملائكة بنات الله ، والأصنام شركاؤه . وعن عكرمة : فعل أصحاب التصاوير الذين يزورون خلقا مثل خلق الله ، وقيل : في أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم قولهم : ساحر شاعر كاهن مجنون ، وقيل : كسر رباعيته وشج وجهه يوم أحد .
وأطلق إيذاء الله ورسوله على إيذاء المؤمنين بقوله : ( بغير ما اكتسبوا ) لأن إيذاءهما لا يكون إلا بغير حق ، بخلاف إيذاء المؤمن ، فقد يكون بحق . ومعنى ( بغير ما اكتسبوا ) بغير جناية واستحقاق أذى . وقال مقاتل : نزلت في ناس من المنافقين يؤذون عليا ، كرم الله وجهه ، ويسمعونه ; وقيل : في الذين أفكوا على عائشة . وقال الضحاك ، والسدي ، والكلبي : في زناة كانوا يتبعون النساء وهن كارهات ; وقيل : في عمر ، رأى من الريبة على جارية من جواري الأنصار ما كره ، فضربها ، فأوذي أهل عمر باللسان ، فنزلت . قال : وروي أن ابن عباس عمر قال يوما لأبي : قرأت البارحة ( والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات ) ففزعت منها ، وإني لأضربهم وأنهرهم ، فقال له : لست منهم ، إنما أنت معلم ومقوم .