ابن : محذوف اللام ، وقيل : الياء . خلاف ، وفي وزنه على كلا التقديرين خلاف ، فقيل : فعل ، وقيل : فعل . فمن زعم أن أصله ياء جعله مشتقا من البناء ، وهو وضع الشيء على الشيء ، والابن فرع عن الأب ، فهو موضوع عليه ، وجعل قولهم البنوة شاذ كالفتوة ، ومن زعم أن أصله واو ، وإليه ذهب الأخفش ، جعل البنوة دليلا على ذلك ، ولكون اللام المحذوفة واوا أكثر منها ياء ، وجمع ابن جمع تكسير ، فقالوا : أبناء ، وجمع سلامة ، فقالوا : بنون ، وهو جمع شاذ ، إذ لم يسلم فيه بناء الواحد ، فلم يقولوا ابنون ، ولذلك عاملت العرب هذا الجمع في بعض كلامها معاملة جمع التكسير ، فألحقت التاء في فعله ، كما ألحقت في فعل جمع التكسير ، قال النابغة :
قالت بنو عامر خالو بني أسد يا بؤس للجهل ضرارا لأقوام
وقد سمع الجمع بالواو والنون فيه مصغرا ، قال يسدد :
أبينوها الأصاغر خلتي
وهو شاذ أيضا .
إسرائيل : اسم عجمي ممنوع الصرف للعلمية والعجمة ، وقد ذكروا أنه مركب من إسرا : وهو العبد ، وإيل : اسم من أسماء الله تعالى ، فكأنه عبد الله ، وذلك باللسان العبراني ، فيكون مثل : جبرائيل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وعزرائيل ، قاله ، وقيل : معنى إسرا : صفوة ، وإيل : الله تعالى ، فمعناه : صفوة الله ، روي ذلك عن ابن عباس وغيره ، وقال بعضهم : إسرا مشتق من الأسر ، وهو الشد ، فكأن إسرائيل معناه : الذي شده الله وأتقن خلقه . وقيل : أسرى بالليل مهاجرا إلى الله تعالى فسمي بذلك . وقيل : أسر جنيا كان يطفئ سرج ابن عباس بيت المقدس ، وكان اسم الجني : إيل ، فسمي إسرائيل ، وكان يخدم بيت المقدس ، وكان أول من يدخل ، وآخر من يخرج ، قاله كعب ، وقيل : أسرى بالليل هاربا من أخيه عيصو إلى خاله ، في حكاية طويلة ذكروها ، فأطلق ذلك عليه ، وهذه أقاويل ضعاف ، وفيه تصرفات للعرب بقولهم : إسرائيل بهمزة بعد الألف وياء بعدها ، وهي قراءة الجمهور ، وإسراييل بياءين بعد الألف ، وهي قراءة أبي جعفر والأعشى وعيسى بن عمر ، وإسرائل بهمزة بعد الألف ثم لام ، وهو مروي عن ، وإسراءل بهمزة مفتوحة بعد الراء ولام ، وإسرئل بهمزة مكسورة بعد الراء ، وإسرال بألف ممالة بعدها لام خفيفة ، وإسرال بألف غير ممالة ، قال ورش أمية :
[ ص: 172 ]
لا أرى من يعيشني في حياتي غير نفسي إلا بني إسرالا
وهي رواية خارجة عن نافع ، وقرأ الحسن والزهري وابن أبي إسحاق وغيرهم : وإسرائن بنون بدل اللام ، قال الشاعر :
يقول أهل السوء لما جينا هذا ورب البيت إسرائينا
كما قالوا : سجيل وسجين ، ورفل ورفن ، وجبريل وجبرين ، أبدلت بالنون كما أبدلت النون بها في أصيلان قالوا : أصيلال ، وإذا جمعته جمع تكسير قلت : أساريل ، وحكي : أسارلة وأسارل .
الذكر : بكسر الذال وضمها لغتان بمعنى واحد ، وقال : يكون باللسان ، والذكر بالقلب فبالكسر ضده : الصمت ، وبالضم ضده : النسيان ، وهو بمعنى التيقظ والتنبه ، ويقال : اجعله منك على ذكر ، النعمة : اسم للشيء المنعم به ، وكثيرا ما يجيء فعل بمعنى المفعول : كالذبح ، والنقص ، والرعي ، والطحن ، ومع ذلك لا ينقاس . أوفى ، ووفى ، ووفى لغى ثلاث في معنى واحد ، وتأتي أوفى بمعنى : ارتفع ، قال : الكسائي
ربما أوفيت في علم ترفعن ثوبي شمالات
والميفات : مكان مرتفع ، وقال الفراء : أهل الحجاز يقولون : أوفيت ، وأهل نجد يقولون : وفيت بغير ألف ، وقال : وفى بالعهد ، وأوفى به ، قال الشاعر : الزجاج
أما ابن طوق فقد أوفى بذمته كما وفى بقلاص النجم حاديها
الرهب والرهب والرهب والرهبة : الخوف ، مأخوذ من الرهابة ، وهو عظم الصدر يؤثر فيه الخوف ، والرهب : النصل ; لأنه يرهب منه ، والرهبة والخشية والمخافة نظائر .
التصديق : اعتقاد حقيقة الشيء ومطابقته للمخبر به ، والتكذيب يقابله .
أول عند : أفعل ، وفاؤه وعينه واوان ، ولم يستعمل منه فعل لاستثقال اجتماع الواوين ، فهو مما فاؤه وعينه من جنس واحد ، لم يحفظ منه إلا : ددن ، وققس ، وببن ، وبابوس . وقيل : إن بابوسا أعجمي . سيبويه
وعند الكوفيين أفعل من وأل : إذا لجأ ، فأصله أوأل ، ثم خفف بإبدال الهمزة واوا ، ثم بالإدغام ، وهذا تخفيف غير قياسي ، إذ تخفيف مثل هذا إنما هو بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الساكن قبلها ، وقال بعض الناس : هو أفعل من آل يأول ، فأصله أأول ، ثم قلب فصار أوأل أعفل ، ثم خفف بإبدال الهمزة واوا ، ثم بالإدغام . وهذان القولان ضعيفان .
ويستعمل أول استعمالين ، أحدهما : أن يجرى مجرى الأسماء فيكون مصروفا ، وتليه العوامل نحو : أفكل ، وإن كان معناه معنى قديم ، وعلى هذا قول العرب : مما تركت له أولا ولا آخرا ، أي ما تركت له قديما ولا حديثا ، والاستعمال الثاني : أن يجرى مجرى أفعل التفضيل ، فيستعمل على ثلاثة أنحائه من كونه بمن ملفوظا بها ، أو مقدرة ، وبالألف واللام ، وبالإضافة ، وقالت العرب : ابدأ بهذا أول ، فهذا مبني على الضم باتفاق ، والخلاف في علة بنائه ذلك لقطعه عن الإضافة ، والتقدير : أول الأشياء ، أم لشبه القطع عن الإضافة ، والتقدير : أول من كذا ، والأولى أن تكون العلة القطع عن الإضافة ، والخلاف إذا بني ، أهو ظرف أو اسم غير ظرف ؟ وهو خلاف مبني على أن الذي يبنى للقطع شرطه أن يكون ظرفا ، أو لا يشترط ذلك فيه ، وكل هذا مستوفى في علم النحو ، الثمن : العوض المبذول في مقابلة العين المبيعة ، وقال :
إن كنت حاولت دنيا أو ظفرت بها فما أصبت بترك الحج من ثمن
أي من عوض .
القليل : يقابله الكثير ، واتفقا في زنة اسم الفاعل ، واختلفا في زنة الفعل ، فماضي [ ص: 173 ] القليل فعل ، وماضي الكثير فعل ، وكان القياس أن يكون اسم الفاعل من قل على فاعل نحو : شذ يشذ فهو شاذ ، لكن حمل على مقابله ، ومثل قل فهو قليل : صح فهو صحيح .
اللبس : الخلط ، تقول العرب : لبست الشيء بالشيء : خلطته ، والتبس به : اختلط ، وقال العجاج :
لما لبسن الحق بالتجني
وجاء ألبس بمعنى لبس ، وقال آخر :
وكتيبة ألبستها بكتيبة حتى إذا التبست نفضت لها يدي
الكتم ، والكتمان : الإخفاء ، وضده : الإظهار ، ومنه الكتم : ورق يصبغ به الشيب .
الركوع له معنيان في اللغة ، أحدهما : التطامن والانحناء ، وهذا قول الخليل وأبي زيد ، ومنه قول لبيد :
أخبر أخبار القرون التي مضت أدب كأني كلما قمت راكع
والثاني : الذلة والخضوع ، وهو قول المفضل ، قال والأصمعي الأضبط السعدي :
لا تهين الضعيف علك أن تركع يوما والدهر قد رفعه
( يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ) هذا افتتاح الكلام مع اليهود والنصارى ، ومناسبة الكلام معهم هنا ظاهرة ، وذلك أن هذه السورة افتتحت بذكر الكتاب ، وأن فيه هدى للمؤمنين ، ثم أعقب ذلك بذكر الكفار المختوم عليهم بالشقاوة ، ثم بذكر المنافقين وذكر جمل من أحوالهم ، ثم أمر الناس قاطبة بعبادة الله تعالى ، ثم ذكر إعجاز القرآن ، إلى غير ذلك مما ذكره ، ثم نبههم بذكر أصلهم آدم ، وما جرى له من أكله من الشجرة بعد النهي عنه ، وأن الحامل له على ذلك إبليس ، وكانت هاتان الطائفتان ، أعني اليهود والنصارى ، أهل كتاب ، مظهرين اتباع الرسل والاقتداء بما جاء عن الله تعالى ، وقد اندرج ذكرهم عموما في قوله : ( ياأيها الناس اعبدوا ) ، فجرد ذكرهم هنا خصوصا ، إذ قد سبق الكلام مع المشركين والمنافقين ، وبقي الكلام مع اليهود والنصارى ، فتكلم معهم هنا ، وذكروا ما يقتضي لهم الإيمان بهذا الكتاب ، كما آمنوا بكتبهم السابقة ، إلى آخر الكلام معهم على ما سيأتي جملة مفصلة ، وناسب الكلام معهم قصة آدم ، على نبينا وعليه الصلاة والسلام ; لأنهم بعدما أوتوا من البيان الواضح والدليل اللائح المذكور ذلك في التوراة والإنجيل ، من الإيفاء بالعهد والإيمان بالقرآن ، ظهر منهم ضد ذلك بكفرهم بالقرآن ومن جاء به ، وأقبل عليهم بالنداء ليحركهم لسماع ما يرد عليهم من الأوامر والنواهي ، نحو قوله : ( يا أيها الناس اعبدوا ويا آدم اسكن ) .
وقد تقدم الإشارة إلى ذلك ، وأضافهم إلى لفظ إسرائيل ، وهو يعقوب ، ولم يقل : يا بني يعقوب ، لما في لفظ إسرائيل من أن معناه عبد الله أو صفوة الله ، وذلك على أحسن تفاسيره ، فهزهم بالإضافة إليه ، فكأنه قيل : يا بني عبد الله ، أو يا بني صفوة الله ، فكان في ذلك تنبيه على أن يكونوا مثل أبيهم في الخير ، كما تقول : يا ابن الرجل الصالح أطع الله ، فتضيفه إلى ما يحركه لطاعة الله ; لأن الإنسان يحب أن يقتفي أثر آبائه ، وإن لم يكن بذلك محمودا ، فكيف إذا كان محمودا ؟ ألا ترى : ( إنا وجدنا آباءنا على أمة ) ، ( بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ) ، وفي قوله : ( يا بني إسرائيل ) دليل على أن من انتمى إلى شخص ، ولو بوسائط كثيرة ، يطلق عليه أنه ابنه ، وعليه ( يا بني آدم ) ويسمى ذلك أبا ، قال تعالى : ( ملة أبيكم إبراهيم ) وفي إضافتهم إلى إسرائيل تشريف لهم بذكر نسبتهم لهذا الأصل الطيب ، وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن ، ونقل عن : أنه ليس لأحد من الأنبياء غير نبينا أبي الفرج بن الجوزي محمد ، صلى الله عليه وسلم ، اسمان إلا يعقوب ، فإنه يعقوب ، وهو إسرائيل ، ونقل الجوهري في صحاحه : أن المسيح اسم علم لعيسى ، لا اشتقاق له . وذكر البيهقي عن خمسة من الأنبياء ذووا اسمين : الخليل بن أحمد محمد وأحمد نبينا ، صلى الله عليه وسلم ، وعيسى [ ص: 174 ] والمسيح ، وإسرائيل ويعقوب ، ويونس وذو النون ، وإلياس وذو الكفل .
والمراد بقوله : ( يا بني إسرائيل اذكروا ) من كان بحضرة رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، بالمدينة ، وما والاها من بني إسرائيل ، أو من أسلم من اليهود وآمن بالنبي ، صلى الله عليه وسلم ، أو أسلاف بني إسرائيل وقدماؤهم ، أقوال ثلاثة ، والأقرب الأول ; لأن من مات من أسلافهم لا يقال له : ( وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ) ، إلا على ضرب بعيد من التأويل ، ولأن من آمن منهم لا يقال له : ( وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ) ، إلا بمجاز بعيد . ويحتمل قوله : اذكروا الذكر باللسان والذكر بالقلب ، فعلى الأول يكون المعنى : أمروا النعم على ألسنتكم ولا تغفلوا عنها ، فإن إمرارها على اللسان ومدارستها سبب في أن لا تنسى ، وعلى الثاني يكون المعنى : تنبهوا للنعم ولا تغفلوا عن شكرها ، وفي النعمة المأمور بشكرها أو بحفظها أقوال : ما استودعوا من التوراة التي فيها صفة رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، أو ما أنعم به على أسلافهم من إنجائهم من آل فرعون وإهلاك عدوهم وإيتائهم التوراة ونحو ذلك ، قاله الحسن ، أو إدراكهم مدة النبي ، صلى الله عليه وسلم ، أو علم التوراة ، أو جميع النعم على جميع خلقه وعلى سلفهم وخلفهم في جميع الأوقات على تصاريف الأحوال ، وأظهر هذه الأقوال ما اختص به والزجاج بنو إسرائيل من النعم لظاهر قوله : ( التي أنعمت عليكم ) بني إسرائيل كثيرة ، استنقذهم من بلاء فرعون وقومه ، وجعلهم أنبياء وملوكا ، وأنزل عليهم الكتب المعظمة ، وظلل عليهم في التيه الغمام ، وأنزل عليهم المن والسلوى ، قال ونعم الله على : أعطاهم عمودا من النور ليضيء لهم بالليل ، وكانت رءوسهم لا تتشعث ، وثيابهم لا تبلى ، وإنما ذكروا بهذه النعم ; لأن في جملتها ما شهد بنبوة ابن عباس محمد ، صلى الله عليه وسلم ، وهو : التوراة والإنجيل والزبور ، ولأن يحذروا مخالفة ما دعوا إليه من الإيمان برسول الله والقرآن ، ولأن تذكير النعم السالفة يطمع في النعم الخالفة ، وذلك الطمع يمنع من إظهار المخالفة ، وهذه النعم ، وإن كانت على آبائهم ، فهي أيضا نعم عليهم ; لأن هذه النعم حصل بها النسل ، ولأن الانتساب إلى آباء شرفوا بنعم تعظيم في حق الأولاد ، قال بعض العارفين : عبيد النعم كثيرون ، وعبيد المنعم قليلون ، فالله تعالى ذكر بني إسرائيل نعمه عليهم ، ولما آل الأمر إلى أمة محمد ، صلى الله عليه وسلم ، ذكر المنعم فقال : ( اذكروني أذكركم ) فدل ذلك على محمد ، صلى الله عليه وسلم ، على سائر الأمم ، وفي قوله : ( نعمتي ) نوع التفات ; لأنه خروج من ضمير المتكلم المعظم نفسه في قوله : ( آياتنا ) إلى ضمير المتكلم الذي لا يشعر بذلك ، وفي إضافة النعمة إليه إشارة إلى عظم قدرها وسعة برها وحسن موقعها ، ويجوز في الياء من ( نعمتي ) الإسكان والفتح ، والقراء السبعة متفقون على الفتح . وأنعمت : صلة التي ، والعائد محذوف ، التقدير : أنعمتها عليكم . فضل أمة
( وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم ) العهد : تقدم تفسيره لغة في قوله : ( الذين ينقضون عهد الله ) ويحتمل العهد أن يكون مضافا إلى المعاهد وإلى المعاهد ، وفي تفسير هذين العهدين أقوال ، أحدها : الميثاق الذي أخذه عليهم من الإيمان به والتصديق برسله ، وعهدهم ما وعدهم به من الجنة . الثاني : ما أمرهم به ، وعهدهم ما وعدهم به ، قاله . الثالث : ما ذكر لهم في التوراة من صفة رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وعهدهم ما وعدهم به من الجنة ، رواه ابن عباس أبو صالح عن . الرابع : أداء الفرائض ، وعهدهم قبولها والمجازاة عليها . الخامس : ترك الكبائر ، وعهدهم غفران الصغائر . السادس : إصلاح الدين ، وعهدهم إصلاح آخرتهم . السابع : مجاهدة النفوس ، وعهدهم المعونة على ذلك . الثامن : إصلاح السرائر وعهدهم إصلاح الظواهر . التاسع : ( ابن عباس خذوا ما آتيناكم بقوة ) ، قاله الحسن . العاشر : ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه ) . [ ص: 175 ] الحادي عشر : الإخلاص في العبادات وعهدهم إيصالهم إلى منازل الرعايات . الثاني عشر : الإيمان به وطاعته ، وعهدهم ما وعدهم عليه من حسن الثواب على الحسنات . الثالث عشر : حفظ آداب الظواهر ، وعهدهم في السرائر . الرابع عشر : عهد الله على لسان موسى عليه السلام لبني إسرائيل : إني باعث من بني إسرائيل نبيا فمن اتبعه وصدق بالنور الذي يأتي به غفرت له وأدخلته الجنة وجعلت له أجرين اثنين ، قاله الكلبي . الخامس عشر : شرط العبودية ، وعهدهم شرط الربوبية . السادس عشر : أوفوا في دار محنتي على بساط خدمتي بحفظ حرمتي ، أوف بعهدكم في دار نعمتي على بساط كرامتي بقربي ورؤيتي ، قاله . السابع عشر : لا تفروا من الزحف أدخلكم الجنة ، قاله الثوري إسماعيل بن زياد . الثامن عشر : ( ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا ) الآية ، قاله ، وعهدهم إدخالهم الجنة . التاسع عشر : أوامره ونواهيه ووصاياه ، فيدخل في ذلك ذكر ابن جريج محمد ، صلى الله عليه وسلم ، الذي في التوراة ، قاله الجمهور . العشرون : أوفوا بعهدي في التوكل أوف بعهدكم في كفاية المهمات ، قاله أبو عثمان . الحادي والعشرون : أوفوا بعهدي في حفظ حدودي ظاهرا وباطنا أوف بعهدكم بحفظ أسراركم عن مشاهدة غيري . الثاني والعشرون : عهده حفظ المعرفة وعهدنا إيصال المعرفة ، قاله ا لقشيري . الثالث والعشرون : أوفوا بعهدي الذي قبلتم يوم أخذ الميثاق أوف بعهدكم الذي ضمنت لكم يوم التلاق . الرابع والعشرون : أوفوا بعهدي اكتفوا مني بي أوف بعهدكم أرض عنكم بكم ، فهذه أقوال السلف في تفسير هذين العهدين .
والذي يظهر ، والله أعلم ، أن المعنى طلب الإيفاء بما التزموه لله تعالى ، وترتيب إنجاز ما وعدهم به عهدا على سبيل المقابلة ، أو إبرازا لما تفضل به تعالى في صورة المشروط الملتزم به فتتوفر الدواعي على الإيفاء بعهد الله ، كما قال تعالى : ( ومن أوفى بعهده من الله ، إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا ) وقال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، : " " . فإن له عهدا عند الله أن يدخله الجنة
وقرأ : ( أوف بعهدكم ) مشددا . ويحتمل أن يراد به التكثير ، وأن يكون موافقا للمجرد . فإن أريد به التكثير فيكون في ذلك مبالغة على لفظ أوف ، وكأنه قيل : أبالغ في إيفائكم ، فضمن تعالى إعطاء الكثير على القليل ، كما قال تعالى : ( الزهري من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) . وانجزام المضارع بعد الأمر نحو : اضرب زيدا يغضب ، يدل على معنى شرط سابق ، وإلا فنفس الأمر وهو طلب إيجاد الفعل لا يقتضي شيئا آخر ، ولذلك يجوز الاقتصار عليه فتقول : اضرب زيدا ، فلا يترتب على الطلب بما هو طلب شيء أصلا ، لكن إذا لوحظ معنى شرط سابق ترتب عليه مقتضاه .
وقد اختلف النحويون في ذلك ، فذهب بعضهم إلى أن جملة الأمر ضمنت معنى الشرط ، فإذا قلت : اضرب زيدا يغضب ، ضمن ( اضرب ) معنى : إن تضرب ، وإلى هذا ذهب الأستاذ . وذهب بعضهم إلى أن جملة الأمر نابت مناب الشرط ، ومعنى النيابة أنه كان التقدير : اضرب زيدا ، إن تضرب زيدا يغضب ، ثم حذفت جملة الشرط وأنيبت جملة الأمر منابها . وعلى القول الأول ليس ثم جملة محذوفة ، بل عملت الجملة الأولى الجزم لتضمن الشرط ، كما عملت ( من ) الشرطية الجزم لتضمنها معنى ( إن ) . وعلى القول الثاني عملت الجزم لنيابتها مناب الجملة الشرطية ، وفي الحقيقة العمل إنما هو للشرط المقدر ، وهو اختيار الفارسي أبو الحسن بن خروف والسيرافي ، وهو الذي نص عليه عن سيبويه الخليل . والترجيح بين القولين يذكر في علم النحو .
( وإياي فارهبون ) . إياي : منصوب بفعل محذوف مقدرا بعده ; لانفصال الضمير ، وإياي ارهبوا ، وحذف لدلالة ما بعده عليه وتقديره قبله ، وهم من السجاوندي ، إذ قدره وارهبوا إياي ، وفي مجيئه ضمير نصب مناسبة لما قبله ; لأن قبله أمر ، ولأن فيه تأكيدا ، إذ الكلام [ ص: 176 ] مفروغ في قالب جملتين ، ولو كان ضمير رفع لجاز ، لكن يفوت هذان المعنيان ، وحذفت الياء ضمير النصب من ( فارهبون ) لأنها فاصلة ، وقرأ ابن أبي إسحاق بالياء على الأصل ، قال : وهو أوكد في إفادة الاختصاص من ( إياك نعبد ) . ومعنى ذلك أن الكلام جملتان في التقدير ، وإياك نعبد جملة واحدة ، والاختصاص مستفاد عنده من تقديم المعمول على العامل . وقد تقدم الكلام معه في ذلك وأنا لا نذهب إلى ما ذهب إليه من ذلك . الزمخشري
والفاء في قوله : ( فارهبون ) ، دخلت في جواب أمر مقدر ، والتقدير : تنبهوا فارهبون ، وقد ذكر في كتابه ما نصه : تقول : كل رجل يأتيك فاضرب ; لأن ( يأتيك ) صفة ههنا ، كأنك قلت : كل رجل صالح فاضرب . انتهى . قال سيبويه : قوله كل رجل يأتيك فاضرب ، بمنزلة : زيدا فاضرب ، إلا أن هنا معنى الشرط لأجل النكرة الموصوفة بالفعل ، فانتصب ( كل ) وهو أحسن من : زيدا فاضرب . انتهى . ولا يظهر لي وجه الأحسنية التي أشار إليها ابن خروف ، والذي يدل على أن هذا التركيب ، أعني : زيدا فاضرب ، تركيب عربي صحيح ، قوله تعالى : ( بل الله فاعبد ) ، وقال الشاعر : ابن خروف
ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا
قال بعض أصحابنا : الذي ظهر فيها بعد البحث أن الأصل في : ( زيدا فاضرب ) تنبه فاضرب زيدا ، ثم حذف ( تنبه ) فصار : فاضرب زيدا . فلما وقعت الفاء صدرا قدموا الاسم إصلاحا للفظ ، وإنما دخلت الفاء هنا لتربط هاتين الجملتين . انتهى ما لخص من كلامه . وإذا تقرر هذا فتحتمل الآية وجهين ، أحدهما : أن يكون التقدير وإياي ارهبوا ، تنبهوا فارهبون ، فتكون الفاء دخلت في جواب الأمر ، وليست مؤخرة من تقديم . والوجه الثاني : أن يكون التقدير وتنبهوا فارهبون ، ثم قدم المفعول فانفصل ، وأخرت الفاء حين قدم المفعول وفعل الأمر الذي هو تنبهوا محذوف ، فالتقى بعد حذفه حرفان : الواو العاطفة والفاء ، التي هي جواب أمر ، فتصدرت الفاء ، فقدم المفعول وأخرت الفاء إصلاحا للفظ ، ثم أعيد المفعول على سبيل التأكيد ولتكميل الفاصلة ، وعلى هذا التقدير الأخير لا يكون ( إياي ) معمولا لفعل محذوف ، بل معمولا لهذا الفعل الملفوظ به ، ولا يبعد تأكيد الضمير المنفصل بالضمير المتصل ، كما أكد المتصل بالمنفصل في نحو : ضربتك إياك ، والمعنى : ارهبون أن أنزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات التي قد عرفتم من المسخ وغيره ، وهذا قول . وقيل معنى فارهبون : أن لا تنقضوا عهدي ، وفي الأمر بالرهبة وعيد بالغ ، وليس قول من زعم أن هذا الأمر معناه التهديد والتخويف والتهويل ، مثل قوله تعالى : ( ابن عباس اعملوا ما شئتم ) تشديد لأن هذا في الحقيقة مطلوب ، واعملوا ما شئتم غير مطلوب فافترقا . وقيل : الخوف خوفان ، خوف العقاب ، وهو نصيب أهل الظاهر ، ويزول ، وخوف جلال ، وهو نصيب أهل القلب ، ولا يزول . وقال السلمي : الرهبة خشية القلب من رديء خواطره . وقال سهل : ( وإياي فارهبون ) ، موضع اليقين بمعرفته ، ( وإياي فاتقون ) ، موضع العلم السابق وموضع المكر والاستدراج . وقال القشيري : أفردوني بالخشية لانفرادي بالقدرة على الإيجاد .
( وآمنوا بما أنزلت ) : ظاهره أنه أمر لبني إسرائيل ; لأن المأمورين قبل هم ، وهذا معطوف على ما قبله ، فظاهره اتحاد المأمور . وقيل : أنزلت في كعب بن الأشرف وأصحابه ، علماء اليهود ورؤسائهم ، والظاهر الأول ، ويندرج فيه كعب ومن معه ، و ( ما ) في قوله : ( بما أنزلت ) موصولة ، أي بالذي أنزلت ، والعائد محذوف تقديره : أنزلته ، وشروط جواز الحذف فيه موجودة ، والذي أنزل تعالى هو القرآن ، والذي معهم هو التوراة والإنجيل . وقال قتادة : المراد ( بما أنزلت ) من كتاب ورسول تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل ، وأبعد من جعل ( ما ) مصدرية ، وأن التقدير : وآمنوا بإنزالي لما معكم من التوراة ، فتكون اللام في لما من تمام المصدر لا من تمام ( مصدقا ) . وعلى القول الأول [ ص: 177 ] يكون ( لما معكم ) من تمام ( مصدقا ) ، واللام على كلا التقديرين في ( لما ) مقوية للتعدية ، كهي في قوله تعالى : ( فعال لما يريد ) . وإعراب ( مصدقا ) على قول من جعل ( ما ) مصدرية حال من ( ما ) في قوله : ( لما معكم ) . ولا نقول : يبعد ذلك لدخول حرف الجر على ذي الحال ; لأن حرف الجر كما ذكرناه هو مقو للتعدية ، فهو كالحرف الزائد ، وصار نظير : زيد ضارب مجردة لهند ، التقدير : ضارب هندا مجردة ، ثم تقدمت هذه الحال ، وهذا جائز عندنا ، ويبعد أن يكون حالا من المصدر المقدر لوجهين : أحدهما : الفصل بين المصدر ومعموله الحال المصدر . والوجه الثاني : أنه يبعد وصف الإنزال بالتصديق إلا أن يتجوز به ، ويراد به المنزل ، وعلى هذا التقدير لا يكون لما معكم من تمامه ; لأنه إذا أريد به المنزل لا يكون متعديا للمفعول . والظاهر أن ( مصدقا ) حال من الضمير العائد على الموصول المحذوف ، وهي حال مؤكدة ، والعامل فيها أنزلت . وقيل : حال من ما في قوله : بما أنزلت ، وهي حال مؤكدة أيضا .