والذي ثبت في صحيح البخاري ومسلم أن رسول الله [ ص: 225 ] صلى الله عليه وسلم ، فسر ذلك بأنهم قالوا : حبة في شعرة ، فوجب المصير إلى هذا القول واطراح تلك الأقوال ، ولو صح شيء من الأقوال السابقة لحمل اختلاف الألفاظ على اختلاف القائلين ، فيكون بعضهم قال كذا ، وبعضهم قال كذا ، فلا يكون فيها تضاد . ومعنى الآية : أنهم وضعوا مكان ما أمروا به من التوبة والاستغفار قولا مغايرا له مشعرا باستهزائهم بما أمروا به ، والإعراض عما يكون عنه غفران خطيئاتهم . كل ذلك عدم مبالاة بأوامر الله ، فاستحقوا بذلك النكال .
( فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا ) : كرر الظاهر السابق زيادة في تقبيح حالهم وإشعارا بعلية نزول الرجز . وقد أضمر ذلك في الأعراف فقال : ( فأرسلنا عليهم ) لأن المضمر هو المظهر . وقرأ ابن محيصن : رجزا بضم الراء ، وقد تقدم أنها لغة في الرجز . واختلفوا في الرجز هنا ، فقال أبو العالية : هو غضب الله تعالى ، وقال ابن زيد : طاعون أهلك منهم في ساعة سبعين ألفا ، وقال وهب : طاعون عذبوا به أربعين ليلة ثم ماتوا بعد ذلك ، وقال ابن جبير : ثلج هلك به منهم سبعون ألفا ، وقال : ظلمة وموت مات منهم في ساعة أربعة وعشرون ألفا وهلك سبعون ألفا عقوبة . والذي يدل عليه القرآن أنه أنزل عليهم عذاب ولم يبين نوعه ، إذ لا كبير فائدة في تعليق النوع . ابن عباس
( من السماء ) : إن فسر الرجز بالثلج كان كونه من السماء ظاهرا ، وإن فسر بغيره فهو إشارة إلى الجهة التي يكون منها القضاء عليهم ، أو مبالغة في علوه بالقهر والاستيلاء .
( بما كانوا ) ، ما : مصدرية ، التقدير : بكونهم . ( يفسقون ) . وأجاز بعضهم أن تكون بمعنى الذي ، وهو بعيد . وقرأالنخعي وابن وثاب وغيرهما بكسر السين ، وهي لغة . قال أبو مسلم : هذا الفسق هو الظلم المذكور في قوله : ( على الذين ظلموا ) . وفائدة التكرار التأكيد ; لأن الوصف دال على العلية ، فالظاهر أن التبديل سببه الظلم ، وأن إنزال الرجز سببه الظلم أيضا . وقال غير أبي مسلم : ليس مكرر الوجهين ، أحدهما : أن الظلم قد يكون من الصغائر ، ( ربنا ظلمنا ) ومن الكبائر : ( إن الشرك لظلم عظيم ) والفسق لا يكون إلا من الكبائر . فلما وصفهم بالظلم أولا وصفهم بالفسق الذي هو لا بد أن يكون من الكبائر . والثاني : أنه يحتمل أنهم استحقوا اسم الظلم بسبب ذلك التبديل ونزول الرجز عليهم من السماء ، لا بسبب ذلك التبديل بل بالفسق الذي فعلوه قبل ذلك التبديل ، وعلى هذا يزول التكرار . انتهى .
وقد احتج بعض الناس بقوله تعالى : ( فبدل الذين ظلموا ) ، وترتيب العذاب على هذا التبديل على أن ما ورد به التوقيف من الأقوال لا يجوز تغييره ولا تبديله بلفظ آخر . وقال قوم : يجوز ذلك إذا كانت الكلمة تسد مسدها ، وعلى هذا جرى الخلاف في قراءة القرآن بالمعنى ، وفي تكبيرة الإحرام ، وفي تجويز ، وفي النكاح بلفظ الهبة والبيع والتمليك . نقل الحديث بالمعنى
وذكروا أن في الآية سؤالات ، الأول : قوله هنا ( وإذ قلنا ) ، وفي الأعراف : ( وإذ قيل ) . وأجيب بأنه صرح بالفاعل في البقرة لإزالة الإبهام ، وحذف في الأعراف للعلم به في سورة البقرة . الثاني : قال هنا : ادخلوا ، وهناك اسكنوا . وأجيب بأن الدخول مقدم على السكنى ، فذكر الدخول في السورة المتقدمة . والسكنى في المتأخرة . الثالث : هنا خطاياكم ، وهناك : خطيئاتكم . وأجيب بأن الخطايا جمع كثرة ، فناسب حيث قرن به ما يليق بجوده ، وهو غفران الكثير . والخطيئات جمع قلة ، لما لم يضف ذلك إلى نفسه . الرابع : ذكر هنا ( رغدا ) وهناك حذف . وأجيب بالجواب قبل . الخامس : هنا قدم دخول الباب على القول ، وهناك عكس . وأجيب بأن الواو للجمع والمخاطبون بهذا مذنبون ، فاشتغاله بحط الذنب مقدم على اشتغاله بالعبادة ، فكلفوا بقول حطة أولا ، ثم بالدخول .
وغير مذنبين ، فاشتغاله أولا بالعبادة ثم بذكر التوبة ثانيا على سبيل هضم النفس وإزالة العجب ، فلما احتمل [ ص: 226 ] الانقسام ذكر حكم كل واحد منهما في سورة بأيهما بدأ . السادس : إثبات الواو في ( وسنزيد ) هنا ، وحذفها هناك . وأجيب بأنه لما تقدم أمران كان المجيء بالواو مؤذنا بأن مجموع الغفران والزيادة جزاء واحد لمجموع الأمرين ، وحيث تركت أفاد توزع كل واحد على كل واحد من الأمرين ، فالغفران في مقابلة القول ، والزيادة في مقابلة ادخلوا .
السابع : لم يذكر هاهنا ( منهم ) وذكر هناك . وأجيب بأن أول القصة في الأعراف مبني على التخصيص بلفظ ( من ) قال : ( ومن قوم موسى أمة ) ، فذكر لفظ ( من ) آخرا ليطابق آخره أوله ، وهنا لم تبن القصة على التخصيص . الثامن : هنا ( فأنزلنا ) وهناك : ( فأرسلنا ) وأجيب بأن الإنزال يفيد حدوثه في أول الأمر ، والإرسال يفيد تسلطه عليهم واستئصالهم بالكلية ، وهذا إنما يحدث بالآخر . التاسع : هنا : يفسقون ، وهناك : يظلمون . وأجيب بأنه لما بين هنا كون ذلك الظلم فسقا اكتفى بذكر الظلم في سورة الأعراف لأجل ما تقدم من البيان هنا . قال بعض الناس : بنو إسرائيل خالفوا الله في قول وفعل ، وأخبر تعالى بالمجازاة على المخالفة بالقول دون الفعل ، وهو امتناعهم عن الدخول بصفة السجود . وأجاب بأن الفعل لا يجب إلا بأمر ، والأمر قول فحصل بالمجازاة عن القول المجازاة بالأمرين جميعا ، والجزاء هنا إن كان قد وقع على هذه المخالفة الخاصة ، فيفسقون يحتمل الحال ، وإن كان قد وقع على ما مضى من المخالفات التي فسقوا بها ، فهو مضارع وقع موضع الماضي ، وهو كثير في القرآن وفصيح الكلام .
( وإذ استسقى موسى لقومه ) : هذا هو الإنعام التاسع ، وهو جامع لنعم الدنيا والدين . أما في الدنيا فلأنه أزال عنهم الحاجة الشديدة إلى الماء ، ولولا هو لهلكوا في التيه ، وهذا أبلغ من الماء المعتاد في الأنعام لأنهم في مفازة منقطعة . وأما في الدين فلأنه من أظهر الدلائل على وجود الصانع وقدرته وعلمه ، وعلى صدق موسى عليه السلام ، والاستسقاء طلب الماء عند عدمه وقلته . وقيل : مفعول استسقى محذوف ، أي استسقى موسى ربه ، فيكون المستسقى منه هو المحذوف ، وقد تعدى إليه الفعل كما تعدى إليه في قوله : ( إذ استسقاه قومه ) ، أي طلبوا منه السقيا . وقال بعض الناس : وحذف المفعول تقديره استسقى ماء ، فعلى هذا القول يكون المحذوف هو المستسقى ، ويكون الفعل قد تعدى إليه كما تعدى إليه في قوله :
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه
ويحتاج إثبات تعديه إلى اثنين إلى شاهد من كلام العرب ، كان يسمع من كلامهم : استسقى زيد وبه الماء ، وقد ثبت تعديه مرة إلى المستسقى منه ومرة إلى المستسقى ، فيحتاج تعديه إليهما إلى ثبت من لسان العرب . وذكر الله هذه النعمة من الاستسقاء غير مقيدة بمكان . وقد اختلف في ذلك ، فقال أبو مسلم : كان ذلك على عادة الناس إذا قحطوا ، وما فعله الله تعالى من تفجير الماء من الحجر فوق الإجابة بالسقياء وإنزال الغيث . وقال أكثر المفسرين : كان هذا الاستسقاء في التيه حين قالوا : من لنا بكذا ، إلى أن قالوا : من لنا بالماء ، فأمر الله موسى بضرب الحجر . وقيل ذلك عند خروجهم من البحر الذي انفلق ، وقعوا في أرض بيضاء ليس فيها ظل ولا ماء ، فسألوا أن يستسقي لهم ، واللام قي ( لقومه ) لام السبب ، أي لأجل قومه وثم محذوف يتم به معنى الكلام ، أي لقومه إذ عطشوا ، أو ما كان بهذا المعنى ومحذوف آخر : أي فأجبناه .