( ورفعنا فوقكم الطور ) : سبب رفعه امتناعهم من دخول الأرض المقدسة ، أو من السجود ، أو من أخذ التوراة والتزامها ، أقوال ثلاثة ، روي أن موسى لما جاء إلى بني إسرائيل من عند الله بالألواح فيها التوراة قال لهم : خذوها والتزموها ، فقالوا : لا ، إلا أن يكلمنا الله بها ، كما كلمك ، فصعقوا ثم أحيوا ، فقال لهم : خذوها ، فقالوا : لا . فأمر الله تعالى الملائكة فاقتلعت جبلا من جبال فلسطين طوله فرسخ في مثله ، وكذلك كان عسكرهم ، فجعل عليهم مثل الظلة ، وأخرج الله تعالى البحر من ورائهم ، وأضرم نارا بين أيديهم ، فاحتاط بهم غضبه ، فقيل لهم : خذوها وعليكم الميثاق أن لا تضيعوها ، وإلا سقط عليكم الجبل ، وغرقكم البحر ، وأحرقتكم النار ، فسجدوا توبة لله ، وأخذوا التوراة بالميثاق ، وسجدوا على شق لأنهم كانوا يرقبون الجبل خوفا . فلما رحمهم الله قالوا : لا سجدة أفضل من سجدة تقبلها الله ورحم بها ، فأمروا سجودهم على شق واحد . وذكر الثعلبي أن ارتفاع الجبل فوق رءوسهم كان مقدار قامة الرجل ، ولم تدل الآية على هذا السجود الذي ذكر في هذه القصة . والواو في قوله : ( ورفعنا ) واو العطف على تفسير ; لأن أخذ الميثاق كان متقدما ، فلما نقضوه بالامتناع من قبول الكتاب رفع عليهم الطور . وأما على تفسير ابن عباس أبي مسلم : فإنها واو الحال ، أي إن أخذ الميثاق كان في حال رفع الطور فوقهم ، نحو قوله تعالى : ( ونادى نوح ابنه وكان في معزل ) ، أي وقد كان في معزل .
( خذوا ما آتيناكم ) : هو على إضمار القول ، أي : وقلنا لكم خذوا ما آتيناكم . وقال بعض الكوفيين : لا يحتاج إلى إضمار قول ; لأن أخذ الميثاق هو قول ، والمعنى : وإذ أخذنا ميثاقكم بأن خذوا ما آتيناكم ، و ( ما ) موصول ، والعائد عليه محذوف ، أي : ما آتيناكموه ، ويعني به الكتاب . يدل على ذلك قوله : ( واذكروا ما فيه ) ، وقرئ : ما آتيتكم ، وهو شبه التفات ; لأنه خرج من ضمير المعظم نفسه إلى غيره . ومعنى قوله : ( بقوة ) بجد واجتهاد ، قاله ابن عباس وقتادة والسدي ، أو بعمل ، قاله مجاهد ; أو بصدق وحق ، قاله ابن زيد ; أو بقبول ، قاله ابن بحر ; أو بطاعة ، قاله أبو العالية والربيع ; أو بنية وإخلاص ، أو بكثرة درس ودراية ; أو بجد وعزيمة ورغبة وعمل ; أو بقدرة . والقوة : القدرة والاستطاعة . وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى . والباء للحال أو الاستعانة .
( واذكروا ما فيه ) . قرأ الجمهور به أمرا من ذكر ، وقرأ أبي : ( واذكروا ما فيه ) أمرا من اذكر ، وأصله : واذتكروا ، ثم أبدل من التاء دال ، ثم أدغم الذال في الدال ، إذ أكثر الإدغام يستحيل فيه الأول إلى الثاني ، ويجوز في هذا أن يستحيل الثاني إلى الأول ، ويدغم فيه الأول فيقال : اذكر ، ويجوز الإظهار فتقول : اذذكر . وقرأ : تذكروا ، على أنه مضارع انجزم على جواب الأمر الذي هو خذوا . فعلى القراءتين قيل : هذا يكون أمرا بالإذكار ، وعلى هذه القراءة يكون الذكر مترتبا على حصول الأخذ بقوة ، أي إن تأخذوا بقوة تذكروا ما فيه . وذكر ابن مسعود أنه قرئ : وتذكروا أمرا من التذكر ، ولا يبعد عندي أن تكون هذه القراءة هي قراءة الزمخشري ، ووهم الذي نقلناه من كتابه ( تذكروا ) في إسقاط الواو ، والذي فيه هو ما تضمنه من الثواب ، قاله ابن مسعود ; أو احفظوا ما فيه ولا تنسوه وادرسوه ، قاله ابن عباس ; أو ما فيه من أمر الله ونهيه وصفة الزجاج محمد ، صلى الله عليه وسلم ، أو اتعظوا به لتنجوا من الهلاك في الدنيا والعذاب في العقبى . والذكر : قد يكون باللسان ، وقد يكون بالقلب على ما سبق ، وقد يكون [ ص: 244 ] بهما . فباللسان معناه : ادرسوا ، وبالقلب معناه : تدبروا ، وبهما معناه : ادرسوا ألفاظه وتدبروا معانيه . أو أريد بالذكر ثمرته ، وهو العمل ، فمعناه : اعملوا بما فيه من الأحكام والشرائع . والضمير في ( فيه ) يعود على ( ما ) . وقال في المنتخب : لا يحمل على نفس الذكر ; لأن الذكر الذي هو ضد النسيان من فعل الله تعالى ، فكيف يجوز الأمر به ؟ انتهى .
( لعلكم تتقون ) : أي رجاء أن يحصل لكم التقوى بذكر ما فيه . وقيل : معناه لعلكم تنزعون عما أنتم فيه ، والذي يفهم من سياق الكلام أنهم امتثلوا الأمر وفعلوا مقتضاه ، يدل على ذلك : ( ثم توليتم من بعد ذلك ) . فهذا يدل على القبول والالتزام لما أمروا به ، وفي بعض القصص أنهم قالوا ، لما زال الجبل : يا موسى سمعنا وأطعنا ، ولولا الجبل ما أطعناك . وفي بعض القصص : فآمنوا كرها ، وظاهر هذا الإلجاء . والمختار عند أهل العلم أن الله تعالى خلق لهم الإيمان والطاعة في قلوبهم وقت السجود ، حتى كان إيمانهم طوعا لا كرها .