( كذلك يحيي الله الموتى ) : إن كان هذا خطابا للذين حضروا إحياء القتيل ، كان ثم إضمار قول ، أي وقلنا لهم : كذلك يحيي الله الموتى يوم القيامة . وقدره الماوردي خطابا من موسى ، على نبينا وعليه الصلاة والسلام ، وإن كان لمنكري البعث في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيكون من تلوين الخطاب . والمعنى : كما أحيي قتيل بني إسرائيل في الدنيا ، كذلك يحيي الله الموتى يوم القيامة ، وإلى هذا ذهب ، والظاهر هو الأول ، لانتظام الآي في نسق واحد ، ولئلا يختلف خطاب ( الطبري لعلكم تعقلون ) ، وخطاب ( ثم قست قلوبكم ) ؛ لأن ظاهر " قلوبكم " أنه خطاب لبني إسرائيل . والكاف من كذلك صفة لمصدر محذوف منصوب بقوله : ( يحيي الله الموتى ) ، أي إحياء مثل ذلك الإحياء يحيي الله الموتى ، والمماثلة إنما هي في مطلق الإحياء لا في كيفية الإحياء ، فيكون ذلك إشارة إلى إحياء القتيل . وجعل صاحب المنتخب ذلك إشارة إلى نفس القتيل ، ويحتاج في تصحيح ذلك إلى حذف مضاف ، أي مثل إحياء ذلك القتيل يحيي الله الموتى ، فجعله إشارة إلى المصدر أولى وأقل تكلفا . وإذا كان ذلك خطابا لبني إسرائيل الحاضرين إحياء القتيل ، فحكمة مشاهدة ذلك ، وإن كانوا مؤمنين بالبعث ، اطمئنان قلوبهم وانتفاء الشبهة عنهم ، إذ الذي كانوا مؤمنين به بالاستدلال آمنوا به مشاهدة .
( ويريكم آياته ) : ظاهر هذا الكلام الاستئناف ، ويجوز أن يكون معطوفا على يحيي ، والظاهر أن الآيات جمع في اللفظ والمعنى ، وهي ما أراهم من إحياء الميت ، والعصا ، والحجر ، والغمام ، والمن والسلوى ، والسحر ، والبحر ، والطور ، وغير ذلك . وكانوا مع ذلك أعمى الناس قلوبا ، وأشد قسوة وتكذيبا لنبيهم في تلك الأوقات التي شاهدوا فيها تلك العجائب والمعجزات . وقال صاحب المنتخب : ( ويريكم آياته ) ، وإن كانت آية واحدة ، لأنها تدل على [ ص: 261 ] وجود الصانع القادر على كل المقدورات ، العالم بكل المعلومات ، المختار في الإيجاد والإبداع ، وعلى صدق موسى عليه الصلاة والسلام ، وعلى براءة ساحة من لم يكن قاتلا ، وعلى تعين تلك التهمة على من باشر ذلك القتل . انتهى كلامه .
( لعلكم تعقلون ) : أي لعلكم تمتنعون من عصيانه ، وتعملون على قضية عقولكم ، من أن من قدر على إحياء نفس واحدة ، قدر على إحياء الأنفس كلها ، لعدم الاختصاص ، ( ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة ) ، أي كخلق نفس واحدة وبعثها . وقال : في الأسباب والشروط حكم وفوائد ، وإنما شرط ذلك لما في ذبح البقرة من التقرب ، وأداء التكليف ، واكتساب الثواب ، والإشعار بحسن تقديم القربة على الطلب ، وما في التشديد عليهم ، لتشديدهم ، من اللطف لهم ولآخرين في ترك التشديد ، والمسارعة إلى امتثال أوامر الله تعالى ، وارتسامها على الفور من غير تفتيش وتكثير سؤال ، ونفع اليتيم بالتجارة الرابحة ، والدلالة على بركة البر بالأبوين ، والشفقة على الأولاد ، وتجهيل الهازئ بما لا يعلم كنهه ، ولا يطلع على حقيقته من كلام الحكماء . وبيان أن من حق المتقرب إلى ربه أن يتنوق في اختيار ما يتقرب به ، وأن يختاره فتي السن غير فخم ولا ضرع ، حسن اللون بريئا من العيوب ، يونق من ينظر إليه ، وأن يغالي بثمنه ، كما روي عن الزمخشري عمر رضي الله تعالى عنه ، أنه ضحى بنجيبة بثلاثمائة دينار ، وأن الزيادة في الخطاب نسخ له ، وأن النسخ قبل الفعل جائز ، وإن لم يجز قبل وقت الفعل وإمكانه لأدائه إلى البدء ، وليعلم بما أمر من مس الميت بالميت ، وحصول الحياة عقيبه ، وأن المؤثر هو المسبب لا الأسباب ؛ لأن الموتين الحاصلين في الجسمين لا يعقل أن يتولد منهما حياة . انتهى كلامه ، وهو حسن .
وقد ذكر المفسرون أحكاما فقهية ، انتزعوها واستدلوا عليها من قصة هذا القتيل ، ولا يظهر استنباطهم ذلك من هذه الآية . قالوا : هذه الآية دليل على حرمان القاتل ميراث المقتول ، وإن كان ممن يرثه . وأقول : لا تدل هذه الآية على ذلك ، وإنما القصة ، إن صحت ، تدل على ذلك ؛ لأن في آخرها : فما ورث قاتل بعدها ممن قتله . وروي عن عمر وعلي وابن عباس أنه لا ميراث له ، عمدا كان أو خطأ ، لا من ديته ، ولا من سائر ماله . وبه قال وابن المسيب أبو حنيفة والثوري والأوزاعي وأبو يوسف ، إلا أن أصحاب أبي حنيفة قالوا : إن كان صبيا أو مجنونا ، ورث . وقال عثمان الليثي : . وقال يرث قاتل الخطأ ابن وهب ، عن مالك : لا يرث قاتل العمد من ديته ، ولا من ماله . وإن قتله خطأ يرث من ماله دون ديته . ويروى مثله عن الحسن ومجاهد ، وهو قول والزهري . وقال الأوزاعي المزني ، عن : إذا قتل الباغي العادل ، أو العادل الباغي ، لا يتوارثان لأنهما قاتلان . وقالوا : استدل الشافعي مالك في رواية ابن القاسم وابن وهب بهذه القصة على صحة القول بالقسامة ، بقول المقتول : دمي عند فلان ، أو فلان قتلني ، وقال الجمهور خلافه . وقالوا في صفة البقرة استدلال لمن قال : إن ، وهو مذهب شرع من قبلنا شرع لنا مالك وجماعة من الفقهاء ، قالوا : في هذه الآيات أدل دليل على حصر الحيوان بصفاته ، أنه إذا حصر بصفة يعرف بها جاز السلم فيه ، وبه قال مالك والأوزاعي والليث ، وقال والشافعي أبو حنيفة : لا يجوز . ودلائل هذه المسائل مذكورة في كتب خلاف الفقهاء ، ولا يظهر استنباط شيء من هذا من هذه القصة . قال السلم في الحيوان القشيري : أراد الله أن يحيي ميتهم ليفصح بالشهادة على قاتله ، فأمر بقتل حيوان لهم ، فجعل سبب حياة مقتولهم بقتل حيوان لهم ، صارت الإشارة منه أن من أراد حياة قلبه لم يصل إليه إلا بذبح نفسه . فمن ذبح نفسه بالمجاهدات حيي قلبه بأنوار المشاهدات ، وكذلك من أراد حياة في الأبد أمات في الدنيا ذكره بالخمول .
( ثم قست قلوبكم من بعد ذلك ) ، قال ، معنى ثم قست : استبعاد القسوة بعدما ذكر ما يوجب لين القلوب ورقتها ونحوه ، ثم أنتم تمترون . انتهى . وهو يذكر [ ص: 262 ] عنه أن العطف بثم يقتضي الاستبعاد ، ولذلك قيل عنه في قوله : ( الزمخشري ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ) . وهذا الاستبعاد لا يستفاد من العطف بثم ، وإنما يستفاد من مجيء هذه الجمل ووقوعها بعدما تقدم مما لا يقتضي وقوعها ، ولأن صدور هذا الخارق العظيم الخارج عن مقدار البشر فيه من الاعتبار والعظات ما يقتضي لين القلوب والإنابة إلى الله تعالى ، والتسليم لأقضيته ، فصدر منهم غير ذلك من غلظ القلوب وعدم انتفاعها بما شاهدت ، والتعنت والتكذيب ، حتى نقل أنهم بعدما حيي القتيل ، وأخبر بمن قتله قالوا : كذب . والضمير في " قلوبكم " ضمير ورثة القتيل ، قاله ، وهم الذين قتلوه ، وأنكروا قتله . وقيل : قلوب ابن عباس بني إسرائيل جميعا قست بمعاصيهم وما ارتكبوه ، قاله أبو العالية وغيره . وكنى بالقسوة عن نبو القلب عن الاعتبار ، وأن المواعظ لا تجول فيها . وأتى بمن في قوله : ( من بعد ذلك ) إشعارا بأن القسوة كان ابتداؤها عقيب مشاهدة ذلك الخارق ، ولكن العطف بثم يقتضي المهلة ، فيتدافع معنى ثم ، ومعنى من ، فلا بد من تجوز في أحدهما . والتجوز في ثم أولى ؛ لأن سجاياهم تقتضي المبادرة إلى المعاصي بحيث يشاهدون الآية العظيمة ، فينحرفون إثرها إلى المعصية عنادا وتكذيبا ، والإشارة بذلك قيل : إلى إحياء القتيل ، وقيل : إلى كلام القتيل ، وقيل : إشارة إلى ما سبق من الآيات من مسخهم قردة وخنازير ، ورفع الجبل ، وانبجاس الماء ، وإحياء القتيل ، قاله . الزجاج
( فهي كالحجارة ) : يريد في القسوة . وهذه جملة ابتدائية حكم فيها بتشبيه قلوبهم بالحجارة ، إذ الحجر لا يتأثر بموعظة ، ويعني أن قلوبهم صلبة ، لا تخلخلها الخوارق ، كما أن الحجر خلق صلبا . وفي ذلك إشارة إلى أن اعتياص قلوبهم ليس لعارض ، بل خلق ذلك فيها خلقا أوليا ، كما أن صلابة الحجر كذلك . والكاف المفيدة معنى التشبيه : حرف وفاقا وجمهور النحويين ، خلافا لمن ادعى أنها تكون اسما في الكلام ، وهو عن لسيبويه الأخفش . فتعلقه هنا بمحذوف ، التقدير : فهي كائنة كالحجارة ، خلافا لابن عصفور ، إذ زعم أن كاف التشبيه لا تتعلق بشيء ، ودلائل ذلك مذكورة في كتب النحو . والألف واللام في الحجارة لتعريف الجنس . وجمعت الحجارة ولم تفرد ، فيقال كالحجر ، فيكون أخصر ، إذ دلالة المفرد على الجنس كدلالة الجمع ؛ لأنه قوبل الجمع بالجمع ؛ لأن قلوبهم جمع ، فناسب مقابلته بالجمع ، ولأن قلوبهم متفاوتة في القسوة ، كما أن الحجارة متفاوتة في الصلابة . فلو قيل : كالحجر ، لأفهم ذلك عدم التفاوت ، إذ يتوهم فيه من حيث الإفراد ذلك .
( أو أشد قسوة ) ، أو : بمعنى الواو ، أو بمعنى أو للإبهام ، أو للإباحة ، أو للشك ، أو للتخيير ، أو للتنويع ، أقوال : وذكر المفسرون مثلا لهذه المعاني ، والأحسن القول الأخير . وكأن قلوبهم على قسمين : قلوب كالحجارة قسوة ، وقلوب أشد قسوة من الحجارة ، فأجمل ذلك في قوله : ( ثم قست قلوبكم ) ، ثم فصل ونوع إلى مشبه بالحجارة ، وإلى أشد منها ، إذ ما كان أشد ، كان مشاركا في مطلق القسوة ، ثم امتاز بالأشدية . وانتصاب " قسوة " على التمييز ، وهو من حيث المعنى تقتضيه الكاف ويقتضيه أفعل التفضيل ؛ لأن كلا منهما ينتصب عنه التمييز . تقول : زيد كعمرو حلما ، وهذا التمييز منتصب بعد أفعل التفضيل ، منقول من المبتدأ ، وهو نقل غريب ، فتؤخر هذا التمييز وتقيم ما كان مضافا إليه مقامه . تقول : زيد أحسن وجها من عمرو ، وتقديره : وجه زيد أحسن من وجه عمرو ، فأخرت وجها وأقمت ما كان مضافا مقامه ، فارتفع بالابتداء ، كما كان وجه مبتدأ ، ولما تأخر أدى إلى حذف وجه من قولك : من وجه عمرو ، وإقامة عمرو مقامه ، فقلت : من عمرو ، وإنما كان الأصل ذلك ؛ لأن المتصف بزيادة الحسن حقيقة ليس الرجل إنما هو الوجه ، ونظير هذا : مررت بالرجل الحسن الوجه ، أو الوجه أصل هذا الرفع ؛ لأن المتصف بالحسن حقيقة ليس هو الرجل إنما هو الوجه ، وإنما أوضحنا هذا ؛ لأن ذكر مجيء التمييز منقولا من [ ص: 263 ] المبتدأ غريب ، وأفرد " أشد " ، وإن كانت خبرا عن جمع ؛ لأن استعمالها هنا هو بمن ، لكنها حذفت ، وهو مكان حسن حذفها ، إذ وقع أفعل التفضيل خبرا عن المبتدأ ، وعطف أو أشد على قوله : كالحجارة ، فهو عطف خبر على خبر من قبيل عطف المفرد ، كما تقول : زيد على سفر ، أو مقيم ، فالضمير الذي في " أشد " عائد على القلوب ، ولا حاجة إلى ما أجازه من أن ارتفاعه يحتمل وجهين آخرين : أحدهما : أن يكون التقدير : أو هي أشد قسوة ، فيصير من عطف الجمل . والثاني : أن يكون التقدير : أو مثل أشد ، فحذف مثل وأقيم أشد مقامه ، ويكون الضمير في " أشد " إذ ذاك غير عائد على القلوب ، إذ كان الأصل أو مثل شيء أشد قسوة من الحجارة ، فالضمير في " أشد " عائد على ذلك الموصوف بـ " أشد " المحذوف . ويعضد هذا الاحتمال الثاني قراءة الزمخشري ، بنصب الدال عطفا على كالحجارة ، قاله الأعمش . وينبغي أن لا يصار إلى هذا إلا في هذه القراءة خاصة . وأما على قراءة الرفع ، فلها التوجيه السابق الذي ذكرناه ، ولا إضمار فيه ، فكان أرجح . الزمخشري
وقد رد أبو عبد الله بن أبي الفضل في منتخبه على قوله : إنه معطوف على الكاف ، فقال : هو على مذهب الزمخشري الأخفش ، لا على مذهب ؛ لأنه لا يجيز أن يكون اسما إلا في الشعر ، ولا يجيز ذلك في الكلام ، فكيف في القرآن ؟ فأولى أن يكون أشد خبر مبتدأ مضمر ، أي وهي أشد . انتهى كلامه . وما ذهب إليه سيبويه صحيح ، ولا يريد بقوله : معطوف على الكاف ، أن الكاف اسم ، إنما يريد معطوفا على الجار والمجرور ؛ لأنه في موضع مرفوع ، فاكتفى بذكر الكاف عن الجار والمجرور . وقوله : فالأولى أن يكون أشد خبر مبتدأ مضمر ، أي هي أشد ، قد بينا أن الأولى غير هذا ؛ لأنه تقدير لا حاجة إليه . قال الزمخشري : فإن قلت : لم قال أشد قسوة ؟ وفعل القسوة مما يخرج منه أفعل التفضيل وفعل التعجب ، قلت : لكونه أبين وأدل على فرط القسوة . ووجه آخر ، وهو أن لا يقصد معنى الأقسى ، ولكن قصد وصف القسوة بالشدة ، كأنه قيل : اشتدت قسوة الحجارة ، وقلوبهم أشد قسوة . انتهى كلامه . ومعنى قوله : وفعل القسوة مما يخرج منه أفعل التفضيل وفعل التعجب أن قسا يجوز أن يبنى منه أفعل التفضيل ، وفعل التعجب بجواز اجتماع الشرائط المجوزة لبناء ذلك ، وهي كونه من فعل ثلاثي مجرد متصرف تام قابل للزيادة والنقص مثبت . وفي كونه من أفعل ، أو من كون ، أو من مبني للمفعول خلاف . وقرأ الزمخشري أبو حيوة : أو أشد قساوة ، وهو مصدر لقسا أيضا .
( وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار ) : لما شبه تعالى قلوبهم بالحجارة في القسوة ، ثم ذكر أنها أشد قسوة على اختلاف الناس [ ص: 264 ] في مفهوم " أو " ، بين أن هذا التشبيه إنما هو بالنسبة لما علمه المخاطب من صلابة الأحجار ، وأخذ يذكر جهة كون قلوبهم أشد قسوة : والمعنى أن قلوب هؤلاء جاسية صلبة لا تلينها المواعظ ، ولا تتأثر للزواجر ، وإن من الحجارة ما يقبل التخلخل ، وأنها متفاوتة في قبول ذلك ، على حسب التقسيم الذي أشار إليه تعالى ونتكلم عليه . فقد فضلت الأحجار على قلوبهم في أن منها ما يقبل التخلخل ، وأن قلوب هؤلاء في شدة القساوة .
واختلف المفسرون في هذه الآية ، فقال قوم : إن قوله : ( وإن من الحجارة ) إلى آخره ، هو على سبيل المثل ، بمعنى أنه لو كان الحجر ممن يعقل لسقط من خشية الله تعالى ، وتشقق من هيبته ، وأنتم قد جعل الله فيكم العقل الذي به إدراك الأمور ، والنظر في عواقب الأشياء ، ومع ذلك فقلوبكم أشد قسوة ، وأبعد عن الخير . وقال قوم : ليس ذلك على جهة المثل : بل أخبر عن الحجارة بعينها ، وقسمها لهذه الأقسام ، وتبين بهذا التقسيم كون قلوبهم أشد قسوة من الحجارة . وقرأ الجمهور : وإن مشددة ، وقرأ قتادة : وإن مخففة ، وكذا في الموضعين بعد ذلك ، وهي المخففة من الثقيلة ، ويحتمل وجهين : أحدهما : أن تكون معملة ، ويكون من الحجارة في موضع خبرها ، و " ما " في موضع نصب بها ، وهو اسمها ، واللام لام الابتداء ، أدخلت على الاسم المتأخر ، والاسم إذا تأخر جاز دخول اللام عليه ، نحو قوله : ( وإن لك لأجرا ) ، وإعمالها مخففة لا يجيزه الكوفيون ، وهم محجوجون بالسماع الثابت من العرب ، وهو قولهم : إن عمرا لمنطلق ، بسكون النون ، إلا أنها إذا خففت لا تعمل في ضمير لا ، تقول : إنك منطلق ، إلا إن ورد في الشعر .
والوجه الثاني : أن لا تكون معملة ، بل تكون ملغاة ، و " ما " في موضع رفع بالابتداء ، والخبر في الجار والمجرور قبله . واللام في " لما " مختلف فيها ، فمنهم من ذهب إلى أنها لام الابتداء لزمت للفرق بين إن المؤكدة وإن النافية ، وهو مذهب الصغير . وأكثر نحاة أبي الحسن علي بن سليمان الأخفش بغداد ، وبه قال من نحاة بلادنا أبو الحسن بن الأخضر ، ومنهم من ذهب إلى أنها لام اختلست للفرق ، وليست لام الابتداء ، وبه قال أبو علي الفارسي . ومن كبراء بلادنا ابن أبي العالية ، والكلام على ذلك مذكور في علم النحو .
ولم يذكر المفسرون والمعربون في إن المخففة هنا إلا هذا الوجه الثاني ، وهو أنها الملغاة ، وأن اللام في " لما " لزمت للفرق . قال المهدوي : من خفف إن ، فهي المخففة من الثقيلة ، واللام لازمة للفرق بينها وبين إن التي بمعنى ما . وقال ابن عطية : فرق بينها وبين النافية لام التوكيد في لما . وقال : وقرئ : وإن بالتخفيف ، وهي إن المخففة من الثقيلة التي يلزمها اللام الفارقة ، ومنه قوله تعالى : ( الزمخشري وإن كل لما جميع ) ، وجعلهم إن هي المخففة من الثقيلة ، هو مذهب البصريين . وأما الفراء فزعم فيما ورد من ذلك أن إن هي النافية ، واللام بمعنى إلا ، فإذا قلت : إن زيد لقائم ، فمعناه عنده : ما زيد إلا قائم . وأما فزعم أنها إن وليها فعل كانت إن نافية ، واللام بمعنى إلا ، وإن وليها اسم كانت المخففة من الثقيلة . وذهب الكسائي قطرب إلى أنها إذا وليها فعل كانت بمعنى قد ، والكلام على هذا المذهب في كتب النحو .
وقرأ الجمهور : لما بميم مخففة وهي موصولة . وقرأ : " لما " بالتشديد ، قاله في الموضعين ، ولعله سقطت واو أي وفي الموضعين . قال طلحة بن مصرف محمد بن عطية : وهي قراءة غير متجهة ، وما قاله ابن عطية من أنها غير متجهة لا يتمشى إلا إذا نقل عنه أنه يقرأ وإن بالتشديد ، فحينئذ يعسر توجيه هذه القراءة . أما إذا قرأ بتخفيف إن ، وهو المظنون به ذلك ، فيظهر توجيهها بعض ظهور ، إذ تكون إن نافية ، وتكون لما بمنزلة إلا ، كقوله تعالى : ( إن كل نفس لما عليها حافظ ) ، ( وإن كل لما جميع لدينا محضرون ) ، ( وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا ) ، في قراءة من قرأ لما بالتشديد ، ويكون مما حذف منه المبتدأ لدلالة المعنى عليه ، التقدير : وما من الحجارة حجر إلا يتفجر منه الأنهار ، وكذلك " ما " فيها ، كقوله تعالى : [ ص: 265 ] ( وما منا إلا له مقام معلوم ) ، أي وما منا أحد إلا له مقام معلوم ، ( وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ) ، أي وما من أهل الكتاب أحد ، وحذف هذا المبتدأ أحسن ، لدلالة المعنى عليه ، إلا أنه يشكل معنى الحصر ، إذ يظهر بهذا التفضيل أن الأحجار متعددة ، فمنها ما يتفجر منه الأنهار ، ومنها ما يشقق فيخرج منه الماء ، ومنها ما يهبط من خشية الله . وإذا حصرت ، أفهم المفهوم قبله أن كل فرد فرد من الأحجار فيه هذه الأوصاف كلها ، أي تتفجر منه الأنهار ، ويتشقق منه الماء ، ويهبط من خشية الله . ولا يبعد ذلك إذا حمل اللفظ على القابلية ، إذ كل حجر يقبل ذلك ، ولا يمتنع فيه ، إذا أراد الله ذلك . فإذا تلخص هذا كله كانت القراءة متوجهة على تقدير : أن يقرأ طلحة وإن بالتخفيف . وأما إن صح عنه أنه يقرأ وإن بالتشديد ، فيعسر توجيه ذلك . وأما من زعم أن إن المشددة هي بمعنى ما النافية ، فلا يصح قوله ، ولا يثبت ذلك في لسان العرب . ويمكن أن توجه قراءة طلحة لما بالتشديد ، مع قراءة إن بالتشديد ، بأن يكون اسم إن محذوفا لفهم المعنى ، كما حذف في قوله :
ولكن زنجي عظيم المشافر
وفي قوله :
فليت دفعت الهم عني ساعة
وتكون لما بمعنى حين على مذهب الفارسي ، أو حرف وجوب لوجوب على مذهب . والتقدير : وإن منها منقادا ، أو لينا ، وما أشبه هذا . فإذا كانوا قد حذفوا الاسم والخبر على ما تأوله بعضهم في لعن الله ناقة حملتني إليك ، فقال : إن وصاحبها ، فحذف الاسم وحده أسهل . وقرأ الجمهور : يتفجر بالياء ، مضارع تفجر . وقرأ سيبويه : ينفجر بالياء ، مضارع انفجر ، وكلاهما مطاوع . أما يتفجر فمطاوع تفجر ، وأما ينفجر فمطاوع فجر مخففا . والتفجر : التفتح بالسعة والكثرة ، والانفجار دونه ، والمعنى : إن من الحجارة ما فيه خروق واسعة يندفق منها الماء الكثير الغمر . وقرأ مالك بن دينار أبي والضحاك : منها الأنهار . وقرأ الجمهور منه . فالقراءة الأولى حمل على المعنى ، وقراءة الجمهور على اللفظ ؛ لأن ما لها هنا لفظ ومعنى ؛ لأن المراد به الحجارة ، ولا يمكن أن يراد به مفردا لمعنى ، فيكون لفظه ومعناه واحدا ، إذ ليس المعنى ( وإن من الحجارة ) للحجر الذي يتفجر منه الماء ، إنما المعنى للأحجار التي يتفجر منها الأنهار . وقد سبق الكلام على الأنهار في قوله تعالى : ( وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) الآية . وقد ذهب بعضهم إلى أن الحجر الذي يتفجر منه الأنهار ، هو الحجر الذي ضربه موسى بعصاه ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا .
( وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء ) ، التشقق : التصدع بطول أو بعرض ، فينبع منه الماء بقلة حتى لا يكون نهرا . وقرأ الجمهور : يشقق ، بتشديد الشين ، وأصله يتشقق ، فأدغم التاء في الشين . وقرأ : تشقق ، بالتاء والشين المخففة على الأصل ، ورأيتها معزوة الأعمش لابن مصرف . وفي النسخة التي وقفت عليها من تفسير ابن عطية . ما نصه : وقرأ ابن مصرف : ينشقق ، بالنون وقافين ، والذي يقتضيه اللسان أن يكون بقاف واحدة مشددة ، وقد يجيء الفك في شعر ، فإن كان المضارع مجزوما ، جاز الفك فصيحا ، وهو هنا مرفوع ، فلا يجوز الفك ، إلا أنها قراءة شاذة ، فيمكن أن يكون ذلك فيها ، وأما أن يكون المضارع بالنون مع القافين وتشديد الأولى منهما ، فلا يجوز . قال أبو حاتم : لما تتفجر بالتاء ، ولا يجوز تتشقق بالتاء ؛ لأنه إذا قال : تتفجر فأنثه لتأنيث الأنهار ، ولا يكون في تشقق . وقال أبو جعفر النحاس : يجوز ما أنكره أبو حاتم حملا على المعنى ؛ لأن المعنى : وإن منها للحجارة التي تشقق ، وأما يشقق بالياء ، فمحمول على اللفظ . انتهى ، وهو كلام صحيح . ولم ينقل هنا أن أحدا قرأ : " منها الماء " ، فيعيد على المعنى ، إنما نقل ذلك في قوله : لما يتفجر منه الأنهار ، فناسب الجمع الجمع ، ولأن الأنهار من حيث هي جمع يبعد في العادة أن تخرج من حجر واحد ، وإنما تخرج الأنهار من أحجار ، فلذلك ناسب مراعاة المعنى هنا . وأما فيخرج منه الماء ، فالماء [ ص: 266 ] ليس جمعا ، فلا يناسب في حمل منه على المعنى ، بل أجرى " يشقق " ، و " منه " على اللفظ .
( وإن منها لما يهبط من خشية الله ) ، الهبوط هنا : التردي من علو إلى أسفل . وقرأ : يهبط ، بضم الباء ، وقد تقدم أنها لغة . وخشية الله : خوفه . واختلف المفسرون في تفسير هذا ، فذهب قوم إلى أن الخشية هنا حقيقة . واختلف هؤلاء ، فقال قوم معناه : من خشية الحجارة لله تعالى ، فهي مصدر مضاف للمفعول ، وأن الله تعالى جعل لهذه الأحجار التي تهبط من خشية الله تعالى تمييزا قام لها مقام الفعل المودع فيمن يعقل ، واستدل على ذلك بأن الله تعالى وصف بعض الحجارة بالخشية ، وبعضها بالإرادة ، ووصف جميعها بالنطق والتحميد والتقديس والتأويب والتصدع ، وكل هذه صفات لا تصدر إلا عن أهل التمييز والمعرفة . قال تعالى : ( الأعمش لو أنزلنا هذا القرآن على جبل ) الآية ، ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ) ، ( ياجبال أوبي معه والطير ) ، وفي الحديث الصحيح : " ، وفي الحجر الأسود إنه يشهد لمن يستلمه " . وفي حديث الحجر الذي فر بثوب إني لأعرف حجرا كان يسلم علي قبل أن أبعث ، وأنه بعد مبعثه ما مر بحجر ولا مدر إلا سلم عليه موسى - عليه السلام - وصار يعدو خلفه ويقول : " " . وفي الحديث عن ثوبي حجر ثوبي حجر أحد : " " . وفي حديث إن هذا جبل يحبنا ونحبه حراء لما اهتز : " حراء " وفي حديث تسبيح صغار الحصى بكف رسول الله - صلى الله عليه وسلم " وقد دلت هذه الجملة وأحاديث أخر على اسكن ، وانقياد الشجر وغير ذلك . فلولا أنه تعالى أودع فيها قوة مميزة ، وصفة ناطقة ، وحركة اختيارية ، لما صدر عنها شيء من ذلك ، ولا حسن وصفها به . وإلى هذا ذهب نطق الحيوانات والجمادات مجاهد وجماعة . وقال قوم : الخشية هنا حقيقة ، وهو مصدر أضيف إلى فاعل . والمراد بالحجر الذي يهبط من خشية الله هو البرد ، والمراد بخشية الله : إخافته عباده ، فأطلق الخشية وهو يريد الإخشاء ، أي نزول البرد به يخوف الله عباده ، ويزجرهم عن الكفر والمعاصي . وهذا قول متكلف ، وهو مخالف للظاهر . والبرد ليس بحجارة ، وإن كان قد اشتد عند النزول ، فهو ماء في الحقيقة . وقال قوم : الخشية هنا حقيقة ، وهو مصدر مضاف للمفعول ، وفاعله محذوف ، وهو العباد . والمعنى : أن من الحجارة ما ينزل بعضه عن بعض عند الزلزلة من خشية عباد الله إياه . وابن جريج
وتحقيقه : إنه لما كان المقصود منها خشية الله تعالى ، صارت تلك الخشية كالعلة المؤثرة في ذلك الهبوط ، فكان المعنى : لما يهبط من أجل أن يحصل لعباد الله تعالى . وذهب أبو مسلم إلى أن الخشية حقيقة ، وأن الضمير في قوله : ( وإن منها لما يهبط من خشية الله ) عائد على القلوب ، والمعنى : إن من القلوب قلوبا تطمئن وتسكن ، وترجع إلى الله تعالى ، فكنى بالهبوط عن هذا المعنى ، ويريد بذلك قلوب المخلصين . وهذا تأويل بعيد جدا ؛ لأنه بدأ بقوله : ( وإن من الحجارة ) ، ثم قال : ( وإن منها ) ، فظاهر الكلام التقسيم للحجارة ، ولا يعدل عن الظاهر إلا بدليل واضح ، والهبوط لا يليق بالقلوب ، إنما يليق بالحجارة . وليس تأويل الهبوط بأولى من تأويل الخشية إن تأولناها . وقد أمكن في الوجوه التي تضمنت حملها على الحقيقة ، وإن كان بعض تلك الأقوال أقوى من بعض . وذهب بعضهم إلى أن الذي يهبط من خشية الله هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى - عليه السلام - إذ جعله دكا . وذهب قوم إلى أن الخشية هنا مجاز من مجاز الاستعارة ، كما استعيرت الإرادة للجدار في قوله تعالى : ( يريد أن ينقض ) ، وكما قال زيد الخيل :
بجمع تضل البلق في حجراته ترى الأكم منه سجدا للحوافر
وكما قال الآخر :
لما أتى خبر الزبير تضعضعت سور المدينة والجبال الخشع
أي من رأى الحجر مترديا من علو إلى أسفل ، تخيل فيه الخشية ، فاستعار الخشية ، كناية عن الانقياد [ ص: 267 ] لأمر الله ، وأنها لا تمتنع على ما يريد الله تعالى فيها . فمن يراها يظن أن ذلك الانفعال السريع هو مخافة خشية الله تعالى . وهذا قول من ذهب إلى أن الحياة والنطق لا يحلان في الجمادات ، وذلك ممتنع عندهم . وتأولوا ما ورد في القرآن والحديث ، مما يدل على ذلك على أن الله تعالى قرن بها ملائكة ، هي التي تسلم وتتكلم ، كما ورد أن الرحم معلقة بالعرش ، تنادي : اللهم صل من وصلني ، واقطع من قطعني . والأرحام ليست بجسم ، ولا لها إدراك ، ويستحيل أن تسجد المعاني ، أو تتكلم ، وإنما قرن الله تعالى بها ملكا يقول ذلك القول . وتأولوا : ، أي يحبنا أهله ونحب أهله ، كقوله تعالى : واسأل القرية . واختيار هذا جبل يحبنا ونحبه ابن عطية ، رحمه الله تعالى ، أن الله يخلق للحجارة قدرا ما من الإدراك ، تقع به الخشية والحركة . واختيار أن الخشية مجاز عن الانقياد لأمر الله تعالى وعدم امتناعها ، وترتيب تقسيم هذه الحجارة ترتيب حسن جدا ، وهو على حسب الترقي . فبدأ أولا بالذي تتفجر منه الأنهار ، أي خلق ذا خروق متسعة ، فلم ينسب إليه في نفسه تفعل ولا فعل ، أي أنها خلقت ذات خروق بحيث لا يحتاج أن يضاف إليها صدور فعل منها . ثم ترقى من هذا الحجر إلى الحجر الذي ينفعل انفعالا يسيرا ، وهو أن يصدر منه تشقق بحيث ينبع منه الماء . ثم ترقى من هذا الحجر إلى الحجر الذي ينفعل انفعالا عظيما ، بحيث يتحرك ويتدهده من علو إلى أسفل ، ثم رسخ هذا الانفعال التام بأن ذلك هو من خشية الله تعالى ، من طواعيته وانقياده لما أراد الله تعالى منه ، فكنى بالخشية عن الطواعية والانقياد ؛ لأن من خشي أطاع وانقاد . الزمخشري
( وما الله بغافل عما تعملون ) : هذا فيه وعيد ، وذلك أنه لما قال : ( ثم قست قلوبكم من بعد ذلك ) ، أفهم أنه ينشأ عن قسوة القلوب أفعال فاسدة وأعمال قبيحة ، من مخالفة الله تعالى ، ومعاندة رسله ، فأعقب ذلك بتهديدهم بأن الله تعالى ليس بغافل عن أعمالهم ، بل هو تعالى يحصيها عليهم ، وإذا لم يغفل عنها كان مجازيا عليها . والغفلة إن أريد بها السهو ، فالسهو لا يجوز على الله تعالى ، وإن أريد بها الترك عن عمد ، فذكروا أنه مما يجوز أن يوصف الله تعالى به . وعلى كلا التقديرين ، فنفى الله تعالى الغفلة عنه . وانتفاء الشيء عن الشيء قد يكون لكونه لا يمكن منه عقلا ، ولكونه لا يقع منه مع إمكانه . وقد ذهب القاضي إلى أنه لا يصح أن يوصف الله تعالى بأنه ليس بغافل ، قال : لأنه يوهم جواز الغفلة عليه ، وليس الأمر كما ذهب إليه ؛ لأن نفي الشيء عن الشيء لا يستلزم إمكانه . ألا ترى إلى قوله تعالى : ( لا تأخذه سنة ولا نوم ) ؟ وقوله : ( وهو يطعم ولا يطعم ) ، فقد نفى عنه تعالى ما لا يستلزم إمكانه له . وبغافل : في موضع نصب ، على أن تكون ما حجازية . ويجوز أن تكون في موضع رفع ، على أن تكون ما تميمية ، فدخلت الباء في خبر المبتدأ ، وسوغ ذلك النفي . ألا ترى أنها لا تدخل في الموجب ؟ لا تقول : زيد بقائم ، ولا : ما زيد إلا بقائم . قال ابن عطية : وبغافل في موضع نصب خبر ما ، لأنها الحجازية ، يقوي ذلك دخول الباء في الخبر ، وإن كانت الباء قد تجيء شاذة مع التميمية . انتهى كلامه . وهذا الذي ذهب إليه أبو محمد بن عطية ، من أن الباء مع التميمية قد تجيء شاذة ، لم يذهب إليه نحوي فيما علمناه ، بل القائلون قائلان ، قائل : بأن التميمية لا تدخل الباء في خبر المبتدأ بعدها ، وهو مذهب أبي علي الفارسي في أحد قوليه ، وتبعه . وقائل : بأنه يجوز أن يجر بالباء ، وهو الصحيح . وقال الزمخشري : الفرزدق
لعمــرك مــا معـن بتــارك حقــه
وأشعار بني تميم تتضمن جر الخبر بالباء كثيرا . وقرأ الجمهور : تعملون بالتاء ، وهو الجاري على نسق قوله : ( ثم قست قلوبكم ) . وقرأ ابن كثير بالياء ، فيحتمل أن يكون الخطاب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويحتمل أن يكون الخطاب مع بني إسرائيل ، ويكون ذلك التفاتا ، إذ خرج من الخطاب في قوله تعالى : ( ثم قست قلوبكم ) إلى الغيبة في قوله : ( يعملون ) . وحكمة هذا الالتفات أنه أعرض عن مخاطبتهم ، وأبرزهم في صورة من لا يقبل عليهم [ ص: 268 ] بالخطاب ، وجعلهم كالغائبين عنه ؛ لأن مخاطبة الشخص ومواجهته بالكلام إقبال من المخاطب عليه ، وتأنيس له ، فقطع عنهم مواجهته لهم بالخطاب ، لكثرة ما صدر عنهم من المخالفات . وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة فصولا عظيمة ، ومحاورات كثيرة ، وذلك أن موسى - على نبينا وعليه الصلاة والسلام - شافههم بأن الله تعالى يأمرهم بذبح البقرة ، وذلك امتحان من الله تعالى لهم ، فلم يبادروا لامتثال أمر الله تعالى ، وأخرجوا ذلك مخرج الهزؤ ، إذ لم يفهموا سر الأمر . وكان ينبغي أن يبادروا بالامتثال ، فأجابهم موسى باستعاذته بالله الذي أمره أن يكون ممن جهل ، فيخبر عن الله بما لم يأمره به ، فرد عليهم بأن استعمال الهزؤ في التبليغ عن الله تعالى ، وفي غيره ، هو يستعيذ منه ، فرجعوا إلى قوله ، وتعنتوا في البقرة ، وفي أوصافها ، وكان يجزئهم أن يذبحوا بقرة ، إذ المأمور به بقرة مطلقة ، فسألوا ما هي ؟ وسألوا موسى أن يدعو الله تعالى أن يبينها لهم ، إذ كان دعاؤه أقرب للإجابة من دعائهم ، فأخبر عن الله تعالى بسنها . ثم خاف من كثرة سؤالهم ، ومن تعنتهم ، كما جاء : " بني إسرائيل كثرة سؤالهم ، واختلافهم على أنبيائهم " فبادر إلى أمرهم بأن يفعلوا ما يؤمرون ، حتى قطع سؤالهم ، فلم يلتفتوا إلى أمره ، وسألوا أن يسأل الله تعالى ثانيا عن لونها ، إذ قد أخبروا بسنها ، فأخبرهم عن الله تعالى بلونها ، ولم يأمرهم ثانيا أن يفعلوا ما يؤمرون به ، إذ علم منهم تعنتهم ، لأنهم خالفوا أمر الله أولا في قوله : ( إنما أهلك إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ) ، وخالفوا أمر موسى ثانيا في قوله : ( فافعلوا ما تؤمرون ) . فلم يكن إلا أن أبقاهم على طبيعتهم من كثرة السؤال . فسألوا ثالثا أن يسأل الله عنها ، فأخبرهم عن الله تعالى بحالها بالنسبة إلى العمل وباقي الأوصاف التي ذكرها ، فحينئذ صرحوا بأن موسى جاء بالحق الواضح الذي بين أمر هذه البقرة ، فالتمسوها حتى حصلوها وذبحوها امتثالا لأمر الله تعالى ، وذلك بعد ترديد كثير وبطء عظيم ، وقبل ذلك ما قاربوا ذبحها ، بل بقوا متطلبين أشياء ليتأخر عنهم تحصيلها وذبحها .
ثم أخبر تعالى عنهم بقتل النفس ، وتدافعهم فيمن قتلها ، واختلافهم في ذلك ، فأمروا بأن يضربوا ذلك القتيل ببعض هذه البقرة المذبوحة ، فضربوه فحيـي بإذن الله ، وانكشف لهم سر أمر الله بذبح البقرة ، وأنه ترتب على ذلك من الأمر المعجز الخارق ما يحصل به العلم الضروري الدال على صدق موسى - عليه السلام ، وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام .
ثم بين تعالى أن مثل هذا الإحياء يحيـي الموتى ، إذ لا فرق بين الإحياءين في مطلق الإحياء . ثم أخبر تعالى بأنه يريهم آياته ، لينتج عن تلك الإراءة كونهم يصيرون من أولي العقل ، الناظرين في عواقب الأمور ، المفكرين في المعاد . ثم أخبر تعالى بعد ذلك أنهم على مشاهدتهم هذا الخارق العظيم ، ورؤيتهم الآيات قبل ذلك ، لم يتأثروا لذلك ، بل ترتب على ذلك عكس مقتضاه من القسوة الشديدة ، حتى شبه قلوبهم بالحجارة ، أو هي أشد من الحجارة . ثم استطرد لذكر الحجارة بالتقسيم الذي ذكره ، على أن الحجارة تفضل قلوبهم في كون بعضها يتأثر تأثيرا عظيما ، بحيث يتحرك ويتدهده ، وكون بعضها يتشقق فيتأثر تأثيرا قليلا ، فينبع منه الماء ، وكون بعضها خلق منفرجا تجري منه الأنهار ، وقلوبهم على سجية واحدة ، لا تقبل موعظة ، ولا تتأثر لذكرى ، ولا تنبعث لطاعة . ثم ختم ذلك بأنه تعالى لا يغفل عما اجترحوه في دار الدنيا ، بل يجازيهم بذلك في الدار الأخرى . وكان افتتاح هذه الآيات بأن الله تعالى يأمر ، واختتامها بأن الله لا يغفل . فهو العالم بمن امتثل ، وبمن أهمل ، فيجازي ممتثل أمره بجزيل ثوابه ، ومهمل أمره بشديد عقابه .