الوالدان : الأب والأم ، وكل منهما يطلق عليه والد ، وظاهر الإطلاق الحقيقة ، قال :
وذي ولد لم يلده أبوان
ويقال للأم : والد ووالدة ، وقيل : الوالد للأب وحده ، وثنيا تغليبا للمذكر . الإحسان : النفع بكل حسن . ذو : بمعنى صاحب ، وهو من الأسماء الستة التي ترفع وفيها الواو ، وتنصب وفيها الألف ، وتجر وفيها الياء . وأصلها عند ذوي ، ووزنها عنده : فعل ، وعند سيبويه الخليل : ذوة ، من باب خوة ، وقوة ، ووزنها عنده فعل ، وهو لازم الإضافة ، وتنقاس إضافته إلى اسم جنس ، وفي إضافته إلى مضمر خلاف ، وقد يضاف إلى العلم وجوبا إذا اقترنا وضعا ، كقولهم : ذو جدن ، وذو يزن ، وذو رعين ، وذو الكلاع ، وإن لم يقترنا وضعا ، فقد يجوز ، كقولهم في عمرو ، وقطري : ذو عمرو ، وذو قطري ، ويعنون به صاحب هذا الاسم . وإضافته إلى العلم في وجهته مسموع ، وكذلك : أنا ذو بكة ، واللهم صل على محمد وعلى ذويه . ومما أضيف إلى العلم ، وأريد به معنى ذي مال ، ومما أضيف إلى ضمير العلم ، وأضيف أيضا إلى ضمير [ ص: 281 ] المخاطب ، قال الشاعر :
وإنا لنرجو عاجلا منك مثل ما رجوناه قدما من ذويك الأفاضل
وقد أتت ذو في لغة طيء موصولة ، ولها أحكام في النحو . القربى : مصدر كالرجعى ، والألف فيه للتأنيث ، وهي قرابة الرحم والصلب ، قال طرفة :
وقربت بالقربى وجدك أنه متى يك أمر للنكيثة أشهد
وقال أيضا :
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على الحر من وقع الحسام المهند
اليتامى : فعالى ، وهو جمع لا ينصرف ؛ لأن الألف فيه للتأنيث ، ومفرده : يتيم ، كنديم ، وهو جمع على غير قياس ، وكذا جمعه على أيتام . وقال : اليتم في بني الأصمعي آدم من قبل الأب ، وفي غيرهم من قبل الأم . وحكى الماوردي أن اليتم في بني آدم يقال : من فقد الأم ، والأول هو المعروف ، وأصله الانفراد . فمعنى صبي يتيم : أي منفرد عن أبيه ، وسميت الدرة التي لا مثيل لها يتيمة لانفرادها ، قاله ثعلب . وقيل : أصل اليتم : الغفلة ، وسمي الصبي يتيما لأنه يتغافل عن بره . وقيل : أصل اليتم : الإبطاء ، ومنه أخذ اليتيم ؛ لأن البر يبطئ عنه ، قاله أبو عمرو . المساكين : جمع مسكين ، وهو مشتق من السكون ، فالميم زائدة ، كمحضير من الحضر . وقد روي : تمسكن فلان ، والأصح في اللغة تسكن ، أي صار مسكينا ، وهو مرادف للفقير ، وهو الذي لا شيء له . وقيل : هو الذي له أدنى شيء . الحسن والحسن ، قيل : هما لغتان : كالبخل والبخل . والحسن : مصدر حسن ، كالقبح مصدر قبح ، مقابل حسن . القليل : اسم فاعل من قل ، كما أن كثيرا مقابله اسم فاعل من كثر . يقال ; قل يقل قلة وقلا وقلا ، الإعراض : التولي ، وقيل : التولي بالجسم ، والإعراض بالقلب . والعرض : الناحية ، فيمكن أن يكون قولك : أعرض زيد عن عمرو ، أي صار في ناحية منه ، فتكون الهمزة فيه للصيرورة . الدم : معروف ، وهو محذوف اللام ، وهي ياء ، لقوله :
جرى الدميان بالخير اليقين
أو : واو ، لقولهم : دموان ، ووزنه فعل . وقيل : فعل ، وقد سمع مقصورا ، قال :
غفلت ثم أتت تطلبه فإذا هي بعظام ودما
وقال :
ولكن على أعقابنا يقطر الدما
في رواية من رواه كذلك ، وقد سمع مشدد الميم ، قال الشاعر :
أهان دمك فرغا بعد عزته يا عمرو نعيك إصرارا على الحسد
الديار : جمع دار ، وهو قياس في فعل الاسم ، إذا لم يكن مضاعفا ، ولا معتل لام نحو طلل ، وفتى . والياء في هذا الجمع منقلبة عن واو ، إذ أصله دوار ، وهو قياس ، أعني هذا الإبدال إذا كان جمعا واحدا معتل العين ، كثوب وحوض ودار ، بشرط أن يكون فعالا صحيح اللام . فإن كان معتله ، لم يبدل نحو : روا ، وقالوا : في جمع طويل : طوال وطيال . أقر بالشيء : اعترف به . تظاهرون : تتعاونون ، كأن المتظاهرين يسند كل واحد منهم ظهره إلى صاحبه ، والظهر : المعين . الإثم : الذنب ، جمعه آثام . الأسرى : جمع أسير ، وفعلى مقيس في فعيل ، بمعنى ممات ، أو موجع ، كقتيل وجريح . وأما الأسارى فقيل : جمع أسير ، وسمع الأسارى بفتح الهمزة ، وليست بالعالية . وقيل : أسارى جمع أسرى ، فيكون جمع الجمع ، قاله المفضل . وقال : الأسرى : من في اليد ، والأسارى : من في الوثاق ، والأسير : هو المأخوذ على سبيل القهر والغلبة . أبو عمرو بن العلاء الفداء : يكسر أوله فيمد ، كما قال النابغة :
مهلا فداء لك الأقوام كلهم وما أثمر من مال ومن ولد
ويقصر ، قال :
فدا لك من رب طريفي وتالدي
وإذا فتح أوله قصر ، يقال : قم فدا لك أبي ، قاله الجوهري . ومعنى فدى فلان فلانا : أي أعطى عوضه . المحرم : اسم مفعول من حرم ، وهو راجع إلى [ ص: 282 ] معنى المنع . تقول : حرمه يحرمه ، إذا منعه . الجزاء : المقابلة ، ويطلق في الخير والشر . الخزي : الهوان . قال الجوهري : خزي ، بالكسر ، يخزى خزيا . وقال : معنى خزي : وقع في بلية ، وأخزاه الله أيضا ، وخزى الرجل في نفسه يخزى خزاية ، إذا استحيا ، وهو خزيان ، وقوم خزايا ، أو امرأة خزيا . الدنيا : تأنيث الأدنى ، ويرجع إلى الدنو ، بمعنى القرب . والألف فيه للتأنيث ، ولا تحذف منها الألف واللام إلا في شعر ، نحو قوله : ابن السكيت
في سعي دنيا طالما قد مدت
والدنيا تارة تستعمل صفة ، وتارة تستعمل استعمال الأسماء ، فإذا كانت صفة ، فالياء مبدلة من واو ، إذ هي مشتقة من الدنو ، وذلك نحو : العليا . ولذلك جرت صفة على الحياة في قوله : ( إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء ) ، فأما القصوى والحلوى فشاذ . وإذا استعملت استعمال الأسماء ، فكذلك . وقال : في المقصور والممدود له : الدنيا مؤنثة مقصورة ، تكتب بالألف هذه لغة أبو بكر بن السراج نجد وتميم خاصة ، إلا أن أهل الحجاز وبني أسد يلحقونها ونظائرها بالمصادر ذوات الواو ، فيقولون : دنوى ، مثل : شروى ، وكذلك يفعلون بكل فعلى موضع لامها واو ، يفتحون أولها ويقلبون الواو ياء ، لأنهم يستثقلون الضمة والواو .
( وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله ) الآية ، هذه الآية مناسبة للآيات الواردة قبلها في ذكر توبيخ بني إسرائيل وتقريعهم ، وتبيين ما أخذ عليهم من ميثاق العبادة لله ، وإفراده تعالى بالعبادة ، وما أمرهم به من مكارم الأخلاق ، من صلة الأرحام والإحسان إلى المساكين ، والمواظبة على ركني الإسلام البدني والمالي . ثم ذكر توليهم عن ذلك ، ونقضهم لذلك الميثاق ، على عادتهم السابقة وطريقتهم المألوفة لهم . وإذ : معطوف على الظروف السابقة قبل هذا . والميثاق : هو الذي أخذه تعالى عليهم ، وهم في صلب آبائهم كالذر ، قاله مكي ، وضعف بأن الخطاب قد خصص ب بني إسرائيل ، وميثاق الآية فيهم ، أو ميثاق أخذ عليهم وهم عقلاء في حياتهم على لسان موسى - عليه السلام - وغيره من أنبيائهم ، قاله ابن عطية . وقيل : هو ميثاق أخذ عليهم في التوراة ، بأن يعبدوه ، إلى آخر الآيات . وقرأ ابن كثير وحمزة : لا يعبدون ، بالياء . وقرأ الباقون : بالتاء من فوق . وقرأ والكسائي أبي ، : لا يعبدوا ، على النهي . فأما لا يعبدون فذكروا في إعرابه وجوها : وابن مسعود
أحدها : أنه جملة منفية في موضع نصب على الحال من بني إسرائيل ، أي غير عابدين إلا الله أي موحدين الله ومفرديه بالعبادة ، وهو حال من المضاف إليه ، وهو لا يجوز على الصحيح . لا يقال إن المضاف إليه يمكن أن يكون معمولا في المعنى لميثاق ، إذ يحتمل أن يكون مصدرا ، أو حكمه حكم المصدر . وإذا كان كذلك ، جاز أن يكون المجرور بعده فاعلا في المعنى ، أو مفعولا ؛ لأن الذي يقدر فيه العمل هو ما انحل إلى حرف مصدري والفعل ، وهنا ليس المعنى على أن ينحل ، لذلك فلا يجوز الحكم على موضعه برفع ولا نصب ، لأنك لو قدرت أخذنا أن نواثق بني إسرائيل ، أو أن يواثقنا بنو إسرائيل ، لم يصح ، بل لو فرضنا كونه مصدرا حقيقة : لم يجز فيه ذلك . ألا ترى أنك لو قلت : أخذت علم زيد ، لم ينحل لحرف مصدري والفعل : لا يقال : أخذت أن يعلم زيد . فإذا لم يتقدر المصدر بحرف مصدري والفعل ، ولا كان من : ضربا زيدا ، لم يعمل على خلاف في هذا الأخير ، ولذلك منع ابن الطراوة في ترجمة " هذا باب علم ما الكلم من العربية " ، أن يتقدر المصدر بحرف مصدري والفعل ، ورد ذلك على من أجازه . وممن أجازه أن تكون الجملة حالا سيبويه المبرد وقطرب ، قالوا : ويجوز أن يكون حالا مقارنة ، وحالا مقدرة . الوجه الثاني : أن تكون الجملة جوابا لقسم محذوف دل عليه قوله : ( أخذنا ميثاق بني إسرائيل ) ، أي استحلفناهم والله لا يعبدون ، ونسب هذا الوجه إلى ، وأجازه سيبويه الكسائي والفراء . الوجه الثالث : أن تكون أن محذوفة ، وتكون أن وما بعدها محمولا على إضمار حرف جر ، التقدير : بأن لا تعبدوا إلا الله [ ص: 283 ] فحذف حرف الجر ، إذ حذفه مع أن وأن جائز مطرد ، إذ لم يلبس ، ثم حذف بعد ذلك أن ، فارتفع الفعل ، فصار لا تعبدون ، قاله والمبرد الأخفش ، ونظيره من نثر العرب : مره بحفرها ، ومن نظمها قوله :
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى
أصله : مره بأن يحفرها . وعن أن أحضر الوغى ، فجرى فيه من العمل ما ذكرناه . وهذا النوع من إضمار أن في مثل هذا مختلف فيه ، فمن النحويين من منعه ، وعلى ذلك متأخرو أصحابنا . وذهب جماعة من النحويين إلى أنه يجوز حذفها في مثل هذا الموضع . ثم اختلفوا فقيل : يجب رفع الفعل إذ ذاك ، وهذا مذهب أبي الحسن . ومنهم من قال بنفي العمل ، وهو مذهب والكوفيين . والصحيح : قصر ما ورد من ذلك على السماع ، وما كان هكذا فلا ينبغي أن تخرج الآية عليه ؛ لأن فيه حذف حرف مصدري ، وإبقاء صلته في غير المواضع المنقاس ذلك فيها . الوجه الرابع : أن يكون التقدير : أن لا تعبدوا ، فحذف أن وارتفع الفعل ، ويكون ذلك في موضع نصب على البدل من قوله : ( المبرد ميثاق بني إسرائيل ) . وفي هذا الوجه ما في الذي قبله من أن الصحيح عدم اقتياس ذلك ، أعني حذف أن ورفع الفعل ونصبه . الوجه الخامس : أن تكون محكية بحال محذوفة ، أي قائلين لا تعبدون إلا الله ، ويكون إذ ذاك لفظه لفظ الخبر ، ومعناه النهي ، أي قائلين لهم لا تعبدوا إلا الله ، قاله الفراء ، ويؤيده قراءة أبي ، ، والعطف عليه قوله : ( وابن مسعود وقولوا للناس حسنا ) .
الوجه السادس : أن يكون المحذوف القول ، أي وقلنا لهم : ( لا تعبدون إلا الله ) ، وهو نفي في معنى النهي أيضا . قال : كما يقول تذهب إلى فلان ، تقول له كذا ، تريد الأمر ، وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي ؛ لأنه كان سورع إلى الامتثال والانتهاء ، فهو يخبر عنه . انتهى كلامه ، وهو حسن . الزمخشري
الوجه السابع : أن يكون التقدير أن لا تعبدون ، وتكون أن مفسرة لمضمون الجملة ؛ لأن في قوله : ( أخذنا ميثاق بني إسرائيل ) معنى القول ، فحذف أن المفسرة وأبقى المفسر . وفي جواز حذف أن المفسرة نظر .
الوجه الثامن : أن تكون الجملة تفسيرية ، فلا موضع لها من الإعراب ، وذلك أنه لما ذكر أنه أخذ ميثاقبني إسرائيل ، كان في ذلك إبهام للميثاق ما هو ، فأتى بهذه الجملة مفسرة للميثاق ، فمن قرأ بالياء ، فلأن بني إسرائيل لفظ غيبة ، ومن قرأ بالتاء ، فهو التفات ، وحكمته الإقبال عليهم بالخطاب ، ليكون أدعى للقبول ، وأقرب للامتثال ، إذ فيه الإقبال من الله على المخاطب بالخطاب . ومع جعل الجملة مفسرة ، لا تخرج عن أن يكون نفي أريد به نهي ، إذ تبعد حقيقة الخبر فيه .
إلا الله : استثناء مفرغ ؛ لأن لا تعبدون لم يأخذ مفعوله ، وفيه التفات . إذ خرج من ضمير المتكلم إلى الاسم الغائب . ألا ترى أنه لو جرى على نسق واحد لكان نظم الكلام لا تعبدون إلا إيانا ؟ لكن في العدول إلى الاسم الظاهر من الفخامة والدلالة على سائر الصفات والتفرد بالتسمية به ما ليس في المضمر ، ولأن ما جاء بعده من الأسماء ، إنما هي أسماء ظاهرة ، فناسب مجاورة الظاهر الظاهر .
( وبالوالدين إحسانا ) ، المعنى : الأمر بالإحسان إلى الوالدين وبرهما وإكرامهما . وقد تضمنت آي من القرآن وأحاديث كثيرة ذلك ، حتى عد العقوق من الكبائر ، وناهيك احتفالا بهما كون الله قرن ذلك بعبادته تعالى ، ومن غريب الحكايات : أن عمر رأى امرأة تطوف بأبيها على ظهرها ، وقد جاءت به على ظهرها من اليمن ، فقال لها : جزاك الله خيرا ، لقد وفيت بحقه ، فقالت : ما وفيته ولا أنصفته ؛ لأنه كان يحملني ويود حياتي ، وأنا أحمله وأود موته . واختلفوا فيما تتعلق به الباء في قوله : ( وبالوالدين ) ، وفي انتصاب إحسانا على وجوه : أحدها : أن يكون معطوفا على لا تعبدون ، أعني على المصدر المنسبك من الحرف المصدري والفعل ، إذ التقدير عند هذا القائل بإفراد الله بالعبادة وبالوالدين ، أي وببر الوالدين ، أو بإحسان إلى الوالدين ، ويكون انتصاب إحسانا على المصدر من ذلك المضاف المحذوف ، فالعامل فيه الميثاق ؛ لأنه به يتعلق الجار والمجرور ، وروائح الأفعال تعمل في الظروف والمجرورات . الوجه الثاني : [ ص: 284 ] أن يكون متعلقا بإحسانا ، ويكون إحسانا مصدرا موضوعا موضع فعل الأمر ، كأنه قال : وأحسنوا بالوالدين . قالوا : والباء ترادف إلى في هذا الفعل ، تقول : أحسنت به وإليه بمعنى واحد ، وقد تكون على هذا التقدير على حذف مضاف ، أي وأحسنوا ببر الوالدين ، المعنى : وأحسنوا إلى الوالدين ببرهما . وعلى هذين الوجهين يكون العامل في الجار والمجرور ملفوظا به . قال ابن عطية : ويعترض هذا القول بأن المصدر قد تقدم عليه ما هو معمول له . انتهى كلامه . وهذا الاعتراض إنما يتم على مذهب أبي الحسن في منعه تقديم مفعول نحو : ضربا زيدا ، وليس بشيء ؛ لأنه لا يصح المنع إلا إذا كان المصدر موصولا بأن ينحل لحرف مصدري والفعل ، أما إذا كان غير موصول ، فلا يمتنع تقديمه عليه . فجائز أن تقول : ضربا زيدا ، وزيدا ضربا ، سواء كان العمل للفعل المحذوف العامل في المصدر ، أو للمصدر النائب عن الفعل ؛ لأن ذلك الفعل هو أمر ، والمصدر النائب عنه أيضا معناه الأمر . فعلى اختلاف المذهبين في العامل يجوز التقديم . الوجه الثالث : أن يكون العامل محذوفا ، ويقدر : وأحسنوا ، أو ويحسنون بالوالدين ، وينتصب إحسانا على أنه مصدر مؤكد لذلك الفعل المحذوف ، فتقديره : وأحسنوا ، مراعاة للمعنى ؛ لأن معنى لا تعبدون : لا تعبدوا ، أو تقديره ; ويحسنون ، مراعاة للفظ لا تعبدون ، وإن كان معناه الأمر . وبهذين قدر هذا المحذوف . الوجه الرابع : أن يكون العامل محذوفا ، وتقديره : واستوصوا بالوالدين ، وينتصب إحسانا على أنه مفعول ، قاله الزمخشري المهدوي . الوجه الخامس : أن يكون العامل محذوفا ، وتقديره : ووصيناهم بالوالدين ، وينتصب إحسانا على أنه مفعول من أجله ، أي ووصيناهم بالوالدين إحسانا منا ، أي لأجل إحساننا ، أي أن التوصية بهما سببها إحساننا ، إما لأن من شأننا الإحسان ، أو إحسانا منا للموصين ، إذ يترتب لهم على امتثال ذلك الثواب الجزيل والأجر العظيم ، أو إحسانا منا للموصى بهم . وقد جاء هذا الفعل مصرحا به في قوله تعالى : ( ووصينا الإنسان بوالديه حسنا ) . والمختار ، الوجه الثاني : لعدم الإضمار فيه ، ولاطراد مجيء المصدر في معنى فعل الأمر .
( وذي القربى واليتامى والمساكين ) : معطوف على قوله : وبالوالدين . وكان تقديم الوالدين لأنهما آكد في البر والإحسان ، وتقديم المجرور على العامل اعتناء بمتعلق الحرف ، وهما الوالدان ، واهتماما بأمرهما . وجاء هذا الترتيب اعتناء بالأوكد . فبدأ بالوالدين ، إذ لا يخفى تقدمهما على كل أحد في الإحسان إليهما ، ثم بذي القربى ؛ لأن صلة الأرحام مؤكدة أيضا ، ولمشاركته الوالدين في القرابة ، ثم باليتامى ، لأنهم لا قدرة لهم تامة على الاكتساب ، وقد جاء : " أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة " وغير ذلك من الآثار ، ثم بالمساكين لما في الإحسان إليهم من الثواب . وتأخرت درجة المساكين ؛ لأنه يمكنه أن يتعهد نفسه بالاستخدام ، ويصلح معيشته ، بخلاف اليتامى ، فإنهم لصغرهم لا ينتفع بهم ، وهم محتاجون إلى من ينفعهم . وأول هذه التكاليف هو إفراد الله بالعبادة ، ثم الإحسان إلى الوالدين ، ثم إلى ذي القربى ، ثم إلى اليتامى ، ثم إلى المساكين . فهذه خمسة تكاليف تجمع عبادة الله ، والحض على الإحسان للوالدين ، والمواساة لذي القربى واليتامى والمساكين ، وأفرد ذا القربى ؛ لأنه أراد به الجنس ، ولأن إضافته إلى المصدر يندرج فيه كل ذي قرابة .
( وقولوا للناس حسنا ) : لما ذكر بعد عبادة الله الإحسان لمن ذكر ، وكان أكثر المطلوب فيه الفعل من الصلة والإطعام والافتقاد ، أعقب بالقول الحسن ، ليجمع المأخوذ عليه الميثاق امتثال أمر الله تعالى في الأفعال والأقوال ، فقال تعالى : ( وقولوا للناس حسنا ) . ولما كان القول سهل المرام ، إذ هو بدل لفظ لا مال ، كان متعلقه بالناس عموما إذ لا ضرر على الإنسان في الإحسان إلى الناس بالقول الطيب . وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب : حسنا بفتح الحاء والسين . وقرأ عطاء بن أبي رباح وعيسى بن عمر : [ ص: 285 ] حسنا بضمهما . وقرأ أبي : حسنى ، على وزن فعلى . وقرأ وطلحة بن مصرف الجحدري : إحسانا . فأما قراءة الجمهور حسنا ، فظاهره أنه مصدر ، وأنه كان في الأصل قولا حسنا ، إما على حذف مضاف ، أي ذا حسن ، وإما على الوصف بالمصدر لإفراط حسنه ، وقيل : يكون أيضا صفة ، لا أن أصله مصدر ، بل يكون كالحلو والمر ، فيكون الحسن والحسن لغتين ، كالحزن والحزن ، والعرب والعرب . وقيل : انتصب على المصدر من المعنى ؛ لأن المعنى : وليحسن قولكم حسنا . وأما من قرأ : حسنا بفتحتين ، فهو صفة لمصدر محذوف ، أي وقولوا للناس قولا حسنا . وأما من قرأ بضمتين ، فضمة السين إتباع لضمة الحاء . وأما من قرأ : حسنى ، فقال ابن عطية : رده ؛ لأن أفعل وفعلى لا يجيء إلا معرفة ، إلا أن يزال عنها معنى التفضيل ويبقى مصدرا ، كالعقبى ، فذلك جائز ، وهو وجه القراءة بها . انتهى كلامه . وفي كلامه ارتباك ؛ لأنه قال : لأن أفعل وفعلى لا يجيء إلا معرفة ، وليس على ما ذكر . أما أفعل فله استعمالات : أحدها : أن يكون بمن ظاهرة ، أو مقدرة ، أو مضافا إلى نكرة ، فهذا لا يتعرف بحال ، بل يبقى نكرة . والاستعمال الثاني : أن يكون بالألف واللام ، فإذ ذاك يكون معرفة بهما . الثالث : أن يضاف إلى معرفة ، وفي التعريف بتلك الإضافة خلاف ، وذلك نحو : أفضل القوم . وأما فعلى فلها استعمالان : أحدهما : بالألف واللام ، ويكون معرفة بهما . والثاني : بالإضافة إلى معرفة نحو : فضلى النساء . وفي التعريف بهذه الإضافة الخلاف الذي في أفعل ، فقول سيبويه ابن عطية : لأن أفعل وفعلى لا يجيء إلا معرفة ، ليس بصحيح . وقوله : إلا أن يزال عنها معنى التفضيل ، ويبقى مصدرا ، فيكون فعلى الذي هو مؤنث أفعل ، إذا أزلت منه معنى التفضيل يبقى مصدرا ، وليس كذلك ، بل لا ينقاس مجيء فعلى مصدرا إنما جاءت منه ألفاظ يسيرة . فلا يجوز أن يعتقد في فعلى ، التي مذكرها أفعل ، أنها تصير مصدرا إذا زال منها معنى التفضيل . ألا ترى أن كبرى وصغرى وجلى وفضلى ، وما أشبه ذلك ، لا ينقاس جعل شيء منها مصدرا بعد إزالة معنى التفضيل ؟ [ ص: 286 ] بل الذي ينقاس على رأي أنك إذا أزلت منها معنى التفضيل صارت بمعنى كبيرة وصغيرة وجليلة وفاضلة . كما أنك إذا أزلت من مذكرها معنى التفضيل ، كان أكبر بمعنى كبير ، وأفضل بمعنى فاضل ، وأطول بمعنى طويل . ويحتمل أن يكون الضمير في عنها عائدا إلى حسنى ، لا إلى فعلى ، ويكون استثناء منقطعا ، كأنه قال : إلا أن يزال عن حسنى ، وهي اللفظة التي قرأها أبي وطلحة ، معنى التفضيل ، ويبقى مصدرا ، ويكون معنى الكلام إلا إن كانت مصدرا ، كالعقبى . ومعنى قوله : وهو وجه القراءة بها ، أي والمصدر وجه القراءة بها . وتخريج هذه القراءة على وجهين : أحدهما : المصدر ، كالبشرى ، ويحتاج ذلك إلى نقل أن العرب تقول : حسن حسنى ، كما تقول : رجع رجعى ، وبشر بشرى ، إذ مجيء فعلى كما ذكرنا مصدرا ينقاس . والوجه الثاني : أن يكون صفة لموصوف محذوف ، أي وقولوا للناس كلمة حسنى ، أو مقالة حسنى . وفي الوصف بها وجهان : أحدهما : أن تكون باقية على أنها للتفضيل ، واستعمالها بغير ألف ولام ولا إضافة لمعرفة نادر ، وقد جاء ذلك في الشعر ، قال الشاعر :
وإن دعوت إلى جلى ومكرمة يوما كرام سراة الناس فادعينا
فيمكن أن تكون هذه القراءة من هذا لأنها قراءة شاذة . والوجه الثاني : أن تكون ليست للتفضيل ، فيكون معنى حسنى حسنة ، أي وقولوا للناس مقالة حسنة ، كما خرجوا يوسف أحسن إخوته في معنى : حسن إخوته . وأما من قرأ : إحسانا فيكون نعتا لمصدر محذوف ، أي قولا إحسانا ، وإحسانا مصدر من أحسن الذي همزته للصيرورة ، أي قولا ذا حسن ، كما تقول : أعشبت الأرض إعشابا ، أي صارت ذات عشب . واختلف المفسرون في معنى قوله : ( وقولوا للناس حسنا ) ، فقال : قولوا لهم لا إله إلا الله ، ومروهم بها . وقال ابن عباس : قولوا لهم حسنا في الإعلام بما في كتابكم من صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم . وقال ابن جريج أبو العالية : قولوا لهم القول الطيب ، وجاوبوهم بأحسن ما تحبون أن تجاوبوا به . وقال : مروهم بالمعروف ، وانهوهم عن المنكر . وقال سفيان الثوري أيضا صدقا في أمر ابن عباس محمد - صلى الله عليه وسلم . واختلفوا في المخاطب بقوله : وقولوا للناس حسنا ، من هو ؟ .
فالظاهر أنه من جملة الميثاق المأخوذ على بني إسرائيل : أن لا تعبدوا إلا الله ، وأن تقولوا للناس حسنا . وعلى قراءة من قرأ : لا يعبدون بالياء ، يكون التفاتا ، إذ خرج من الغيبة إلى الخطاب . وقيل : المخاطب الأمة ، والأول أقرب لتكون القصة واحدة مشتملة على مكارم الأخلاق ، ولتناسب الخطاب الذي بعد ذلك من قوله : ( ثم توليتم ) ، إلى آخر الآيات فإنه ، لا يمكن أن يكون في بني إسرائيل . وظاهر الآية يدل على أن الإحسان للوالدين ومن عطف عليه ، والقول الحسن للناس ، كان واجبا على بني إسرائيل في دينهم ؛ لأن أخذ الميثاق يدل على الوجوب ، وكذا ظاهر الأمر ، وكأنه ذمهم على التولي عن ذلك . وروي عن قتادة أن قوله : ( وقولوا للناس حسنا ) منسوخ بآية السيف ، وهذا لا يتأتى إلا إذا قلنا : إن المخاطب بها هذه الأمة ، ومن الناس من خصص هذا العموم بالمؤمنين ، أو بالدعاء إلى الله تعالى بما في الأمر بالمعروف ، فيكون تخصيصا بحسب المخاطب ، أو بحسب الخطاب . وزعم أن هذا العموم باق على ظاهره ، وأنه لا حاجة إلى التخصيص . قيل : وهذا هو الأقوى . والدليل عليه ، أن أبو جعفر محمد بن علي الباقر هارون وموسى ، على نبينا وعليهما الصلاة والسلام ، أمرا بالرفق مع فرعون ، وكذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قيل له : ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ) ، وقال تعالى : ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله ) ، ( وإذا مروا باللغو مروا كراما ) ، ( وأعرض عن الجاهلين ) . ومن قال : لا يكون القول الحسن مع الكفار والفساق ، استدل بأنا أمرنا بلعنهم وذمهم ومحاربتهم ، وبقوله تعالى : [ ص: 287 ] ( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم ) .
( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ) : إن كان هذا الخطاب للمؤمنين ، فيكون من تلوين الخطاب . وقد تقدم الكلام على تفسير هاتين الجملتين . وإن كان هذا الخطاب لبني إسرائيل ، وهو الظاهر ؛ لأن ما قبله وما بعده يدل عليه ، فالصلاة هي التي أمروا بها في التوراة ، وهم إلى الآن مستمرون عليها . وروي عن : أن زكاة أموالهم كانت قربانا تهبط إليهم نار فتحملها ، فكان ذلك تقبله ، وما لا تفعل النار ذلك به ، كان غير متقبل . وقيل : الصلاة هي هذه المفروضة علينا ، والخطاب لمن بحضرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أبناء اليهود ، ويحتمل ذلك وجهين : أحدهما : أن يكون أمرهم بالصلاة والزكاة أمرا بالإسلام . والثاني : على قول من يقول : إن الكفار مخاطبون بفروع الإيمان ، والزكاة هي هذه المفروضة ، وقيل : الصلاة والزكاة هنا الطاعة لله وحده . ومعنى هذا القول أنه كني عن الطاعة لله تعالى بالصلاة والزكاة اللتين هما أعظم أركان الإسلام . ابن عباس
( ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون ) : ظاهره أنه خطاب لبني إسرائيل الذين أخذ الله عليهم الميثاق . وقيل : هو خطاب لمعاصري رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بني إسرائيل ، أسند إليهم تولي أسلافهم ، إذ هم كلهم بتلك السبيل ، قال نحوه وغيره . والمعنى : ثم توليتم عما أخذ عليكم من الميثاق ، والمعني بالقليل القليل في عدد الأشخاص . فقيل : هذا القليل هو ابن عباس وأصحابه . وقيل : من آمن قديما من أسلافهم ، وحديثا عبد الله بن سلام وغيره . قال كعبد الله بن سلام ابن عطية : ويحتمل أن تكون القلة في الإيمان ، أي لم يبق حين عصوا وكفر آخرهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - إلا إيمان قليل ، إذ لا ينفعهم ، والأول أقوى . انتهى كلامه ، وهو احتمال بعيد من اللفظ ، إذ الذي يتبادر إليه الفهم إنما هو استثناء أشخاص قليلين من الفاعل الذي هو الضمير في توليتم ، ونصب : قليلا ، على الاستثناء ، وهو الأفصح ؛ لأن قبله موجب . وروي عن أبي عمرو أنه قرأ : إلا قليل بالرفع . وقرأ بذلك أيضا قوم ، قال ابن عطية : وهذا على بدل قليل من الضمير في توليتم ، وجاز ذلك ، يعني البدل ، مع أن الكلام لم يتقدم فيه نفي ؛ لأن توليتم معناه النفي ، كأنه قال : لم يفوا بالميثاق إلا قليل ، انتهى كلامه . والذي ذكر النحويون أن البدل من الموجب لا يجوز ، لو قلت : قام القوم إلا زيد ، بالرفع على البدل ، لم يجز ، قالوا : لأن البدل يحل محل المبدل منه ، فلو قلت : قام إلا زيد ، لم يجز لأن إلا لا تدخل في الموجب . وأما ما اعتل به من تسويغ ذلك ؛ لأن معنى توليتم النفي ، كأنه قيل : لم يفوا إلا قليل ، فليس بشيء ؛ لأن كل موجب ، إذا أخذت في نفي نقيضه أو ضده ، كان كذلك ، فليجز : قام القوم إلا زيد ؛ لأنه يؤول بقولك : لم تجلسوا إلا زيد . ومع ذلك لم تعتبر العرب هذا التأويل ، فتبني عليه كلامها ، وإنما أجاز النحويون : قام القوم إلا زيد بالرفع ، على الصفة . وقد عقد في ذلك بابا في كتابه فقال : هذا باب ما يكون فيه إلا وما بعده وصفا بمنزلة غير [ ص: 288 ] ومثل . وذكر من أمثلة هذا الباب : لو كان معنا رجل إلا سيبويه زيد لغلبنا ، ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) .
وقليل بها الأصوات إلا بغامها
وسوى بين هذا ، وبين قراءة من قرأ : ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر ) ، برفع غير ، وجوز في نحو : ما قام القوم إلا زيد ، بالرفع البدل والصفة ، وخرج على ذلك قول عمرو بن معدي كرب :
وكل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان
قال : كأنه قال : وكل أخ غير الفرقدين مفارقه أخوه ، كما قال الشماخ :
وكل خليل غير هاضم نفسه لوصل خليل صارم أو معارز
ومما أنشده النحويون :
لدم ضائع نأت أقربوه عنه إلا الصبا وإلا الجنوب
وأنشدوا أيضا :
وبالصريمة منهم منزل خلق عاف تغير إلا النؤي والوتد
قال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور : ويخالف الوصف بإلا الوصف بغيره ، من حيث إنها يوصف بها النكرة والمعرفة والظاهر والمضمر . وقال أيضا : وإنما يعني النحويون بالوصف بإلا عطف البيان . وقال غيره : لا يوصف بإلا إلا إذا كان الموصوف نكرة أو معرفة بلام الجنس . وقال : لا يوصف بإلا إلا إذا كان الوصف في موضع يصلح فيه البدل ، وتحرير ذلك نتكلم عليه في علم النحو ، وإنما نبهنا على أن ما ذهب إليه المبرد ابن عطية في تخريج هذه القراءة لم يذهب إليه نحوي . ومن تخليط بعض المعربين أنه أجاز رفعه بفعل محذوف ، كأنه قال : امتنع قليل أن يكون توكيدا للمضمر المرفوع المستثنى منه . ولولا أن هذين القولين مسطران في الكتب ما ذكرتهما . وأجاز بعضهم أن يكون رفعه على الابتداء ، والخبر محذوف ، كأنه قال : إلا قليل منكم لم يتول ، كما قالوا : ما مررت بأحد إلا رجل من بني تميم خير منه . وهذه أعاريب من لم يمعن في النحو .
وأنتم معرضون : جملة حالية ، قالوا : مؤكدة . وهذا قول من جعل التولي هو الإعراض بعينه ، ومن خالف بينهما تكون الحال مبينة ، وكذلك تكون مبينة إذا اختلف متعلق التولي والإعراض ، كما قال بعضهم إن معناه : ثم توليتم عن عهد ميثاقكم وأنتم معرضون عن هذا النبي - صلى الله عليه وسلم - وجاءت الجملة الحالية اسمية مصدرة بأنتم ، لأنها آكد . وكان الخبر اسما ؛ لأنه أدل على الثبوت ، فكأنه قيل : وأنتم عادتكم الإعراض عن الحق والتولية عنه . وفي المواجهة بأنتم تقبيح لفعلهم وكونهم ارتكبوا ذلك الفعل القبيح الذي من شأنه أن لا يقع ، كقولك : يحسن إليك زيد وأنت مسيء إليه ، فكأن المعنى : أن من واثقه الله وأخذ عليه العهد في أشياء بها انتظام دينه ودنياه ، جدير أن يثبت على العهد ، وأن لا ينقضه ، ولا يعرض عنه . وقيل : التولي والإعراض مأخوذ من سلوك الطريق ، ومن ترك سلوك الطريق فله حالتان : إحداهما : أن يرجع عوده على بدئه ، وذلك هو التولي ، والثانية : أن يأخذ في عرض الطريق ، وذلك هو الإعراض . وعلى هذا التفسير في التولي والإعراض لا يكون في الآية دليل على الاختلاف ، إلا إن قصد أن ناسا تولوا وناسا أعرضوا ، وجمع ذلك لهم ، أو يتولون في وقت ، ويعرضون في وقت .
وقال القشيري : التعبد بهذه الخصال حاصل لنا في شرعنا ، وأولها التوحيد ، وهو إفراد الله بالعبادة والطاعة ، ثم ردك إلى مراعاة حق مثلك ، إظهارا أن من لا يصلح لصحبة شخص مثله ، كيف يقوم بحق معبود ليس كمثله شيء ؟ فإذا كانت التربية المتضمنة حقوق الوالدين توجب عظيم هذا الحق ، فما حق تربية سيدك لك ؟ كيف تؤدي شكره ؟ ثم ذكر عموم رحمته لذي القربى ، [ ص: 289 ] واليتامى والمساكين ، وأن يقول للناس حسنا . وحقيقة العبودية الصدق مع الحق ، والرفق مع الخلق . انتهى ، وبعضه مختصر .
وقال بعض أهل الإشارات : الأسباب المتقرب بها إلى الله تعالى : اعتقاد وقول وعمل ونية . فنبه بقوله : ( لا تعبدون إلا الله ) ، على مقام التوحيد ، واعتقاد ما يجب له على عباده من الطاعات والخضوع منفردا بذلك ، ومالية محضة وهي : الزكاة ، وبدنية محضة وهي : الصلاة ، وبدنية ومالية وهو : بر الوالدين والإحسان إلى اليتيم والمسكين .