الفرع الأول : اعلم أنه ينبغي ، لما رواه للرجال رفع أصواتهم بالتلبية مالك في " الموطأ " ، ، والشافعي وأحمد ، وأصحاب السنن ، ، وابن حبان والحاكم . من حديث خلاد بن السائب الأنصاري ، عن أبيه السائب بن خلاد بن سويد - رضي الله عنه - : جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية " ، ا هـ . أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أتاني
ولفظ مالك في موطئه : " جبريل فأمرني أن آمر أصحابي ، أو من معي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية أو بالإهلال " يريد أحدهما . وقال أتاني الترمذي في هذا الحديث : حديث حسن صحيح ، وجمهور أهل العلم على أن هذا الأمر المذكور في الحديث للاستحباب ، وذهب الظاهرية إلى أنه للوجوب ، والقاعدة المقررة في الأصول مع الظاهرية ، وهي أن [ ص: 10 ] الأمر يقتضي الوجوب إلا لدليل صارف عنه ، وأما النساء فلا ينبغي لهن رفع الصوت بالتلبية كما عليه جماهير أهل العلم .
قال مالك في موطئه : إنه سمع أهل العلم يقولون : ليس على النساء رفع الصوت بالتلبية ، لتسمع المرأة نفسها ، وعلل بعض أهل العلم ، بخوف الافتتان بصوتها . خفض المرأة صوتها بالتلبية
وقال الرافعي في شرحه الكبير المسمى : " فتح العزيز في شرح الوجيز " : وإنما يستحب الرفع في حق الرجل ، ولا يرفع حيث يجهد ويقطع صوته ، والنساء تقتصرن على إسماع أنفسهن ، ولا يجهرن كما لا يجهرن بالقراءة في الصلاة .
قال القاضي الروياني : ولو رفعت صوتها بالتلبية لم يحرم ; لأن صوتها ليس بعورة خلافا لبعض أصحابنا ، ا هـ . وذكر نحوه النووي عن الروياني ثم قال : وكذا قال غيره : لا يحرم لكن يكره ، صرح به الدارمي ، والقاضي أبو الطيب والبندنيجي ، ويخفض الخنثى صوته كالمرأة ذكره صاحب البيان وهو ظاهر .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أما المرأة الشابة الرخيمة الصوت ، فلا شك أن صوتها من مفاتن النساء ولا يجوز لها رفعه بحال ، ومن المعلوم أن الصوت الرخيم من محاسن النساء ومفاتنها ، ولأجل ذلك يكثر ذكره في التشبيب بالنساء ، كقول غيلان ذي الرمة :
لها بشر مثل الحرير ومنطق رخيم الحواشي لا هراء ولا نزر وعينان قال الله كونا فكانتا
فعولان بالألباب ما تفعل الخمر
فتراه جعل الصوت الرخيم من محاسن النساء ، كالبشرة الناعمة ، والعينين الحسنتين ، وكقول قعنب ابن أم صاحب :
وفي الخدود لو أن الدار جامعة بيض أوانس في أصواتها غنن
فتراه جعل الصوت الأغن من جملة المحاسن ، وهذا أمر معروف لا يمكن الخلاف فيه ، وقد قال جل وعلا مخاطبا لنساء النبي - صلى الله عليه وسلم - وهن خير أسوة لنساء المسلمين فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا لأن تليين الصوت وترخيمه يدل على الاهتمام بالريبة كإبداء غيره من محاسن المرأة للرجال كما قال الشاعر :
[ ص: 11 ]
يحسبن من الكلام زوانيا ويصدهن عن الخنا الإسلام
الفرع الثاني : اعلم أنه يستحب ، ويتأكد استحبابها في كل صعود وهبوط ، وحدوث أمر من ركوب ، أو نزول ، أو اجتماع رفاق ، أو فراغ من صلاة وعند إقبال الليل والنهار ، ووقت السحر ، وغير ذلك من تغاير الأحوال ، وعلى هذا أكثر أهل العلم . الإكثار من التلبية في دوام الإحرام
قال صاحب المهذب : يستحب أن يكثر من التلبية ، ويلبي عند اجتماع الرفاق ، وفي كل صعود وهبوط ، وفي أدبار الصلوات ، وإقبال الليل والنهار ، لما روى جابر - رضي الله عنه - قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبي إذا رأى ركبا أو صعد أكمة أو هبط واديا ، وفي أدبار المكتوبة وآخر الليل . انتهى محل الغرض منه . ولم يتكلم النووي في شرحه للمهذب على حديث جابر المذكور ، وقال ابن حجر في " التلخيص الحبير " في حديث جابر المذكور : هذا الحديث ذكره الشيخ في المهذب ، وبيض له النووي ، والمنذري ، وقد رواه في تخريجه لأحاديث المهذب من طريق ابن عسكر في فوائده بإسناد له إلى عبد الله بن محمد بن ناجية جابر قال : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبي إذا لقي ركبا " فذكره ، وفي إسناده من لا يعرف ، وروى ، عن الشافعي ، عن سعيد بن سالم عبد الله بن عمر ، عن نافع عن أنه كان يلبي راكبا ، ونازلا ، ومضطجعا . وروى ابن عمر من رواية ابن أبي شيبة ابن سابط قال : كان : في دبر الصلاة ، وإذا هبطوا واديا أو علوه ، وعند التقاء الرفاق ، وعند السلف يستحبون التلبية في أربعة مواضع خيثمة نحوه وزاد : وإذا استقلت بالرجل راحلته . انتهى من التلخيص .
وقال مالك في " الموطأ " : سمعت بعض أهل العلم يستحب التلبية دبر كل صلاة ، وعلى كل شرف من الأرض . ويستأنس لحديث جابر المذكور بقول ، باب التلبية : إذا انحدر في الوادي ، ثم ساق بسنده الحديث عن البخاري وفيه قال : " ابن عباس موسى كأني أنظر إليه ، إذا انحدر في الوادي يلبي " وقال في " الفتح " في شرح هذا الحديث ، وفي الحديث : أما أن التلبية في بطون الأودية من سنن المرسلين ، وأنها تتأكد عند الهبوط كما تتأكد عند الصعود .
الفرع الثالث : اعلم أن العلماء اختلفوا في استحباب ، وممن قال إنه لا يلبي في طواف القدوم ، والسعي بعده : التلبية في حال طواف القدوم والسعي بعده مالك وأصحابه ، وهو الجديد الصحيح من قولي ، وقال الشافعي : ما رأيت أحدا يقتدى به يلبي [ ص: 12 ] حول البيت إلا ابن عيينة ، وممن أجاز التلبية في طواف القدوم : عطاء بن السائب أحمد ، وقال في " المغني " : وبه يقول ابن قدامة ، ابن عباس ، وعطاء بن السائب ، وربيعة بن أبي عبد الرحمن ، وابن أبي ليلى . وروي عن والشافعي أنه قال : لا يلبي حول البيت ، وقال سالم بن عبد الله : ما رأينا أحدا يقتدى به يلبي حول البيت ، إلا ابن عيينة ، وذكر عطاء بن السائب أبو الخطاب : أنه لا يلبي ، وهو قول ; لأنه مشتغل بذكر يخصه ، فكان أولى . انتهى محل الغرض من " المغني " ، وقد قدمنا لك أن القول الجديد الأصح في مذهب للشافعي : أنه لا يلبي خلافا لما يوهمه كلام صاحب المغني ، وروى الشافعي مالك في موطئه عن نافع : أن عبد الله بن عمر كان يقطع التلبية في الحج إذا انتهى إلى الحرم . حتى يطوف بالبيت . وبين الصفا والمروة . ثم يلبي حتى يغدو من منى إلى عرفة . فإذا غدا ترك التلبية . وكان يترك التلبية في العمرة ، إذا دخل الحرم . انتهى من " الموطأ " ، وروى مالك في " الموطأ " أيضا عن ، أنه كان يقول : كان ابن شهاب عبد الله بن عمر لا يلبي ، وهو يطوف بالبيت انتهى منه ، وقد روي عن أيضا خلاف هذا ، فقد ذكر ابن عمر ابن حجر في " التلخيص " : أن أخرج من طريق ابن أبي شيبة عن ابن سيرين أنه كان إذا طاف بالبيت لبى . ابن عمر
الفرع الرابع : اعلم أنه لا خلاف بين من يعتد به من أهل العلم في أن ومسجد الخيف بمنى ، ومسجد نمرة بقرب عرفات ; لأنها مواضع نسك . واختلفوا في التلبية فيما سوى ذلك من المساجد . المحرم يلبي في المسجد الحرام ،
وأظهر القولين عندي : أنه يلبي في كل مسجد ، إلا أنه لا يرفع صوته رفعا يشوش على المصلين ، والعلم عند الله تعالى .
الفرع الخامس : أظهر قولي أهل العلم عندي : أن المحرم يلبي في كل مكان في الأمصار وفي البراري ، ونقل النووي عن العبدري أنه قال به أكثر الفقهاء . خلافا لمن قال : التلبية مسنونة في الصحاري ، ولا يعجبني أن يلبي في المصر ، والعلم عند الله تعالى .