الفرع الخامس : جمهور العلماء على أن دية المرأة الحرة المسلمة  نصف دية الرجل الحر المسلم على ما بينا . 
قال ابن المنذر  ،  وابن عبد البر    : أجمع أهل العلم على أن دية المرأة نصف دية الرجل ، وحكى غيرهما عن  ابن علية  والأصم  ، أنهما قالا : ديتها كدية الرجل . وهذا قول شاذ ، مخالف لإجماع الصحابة ، كما قاله صاحب المغني . 
وجراح المرأة تساوي جراح الرجل إلى ثلث الدية  ، فإن بلغت الثلث فعلى النصف . قال  ابن قدامة  في " المغني " : وروي هذا عن عمر  ،  وابن عمر  ،  وزيد بن ثابت  ، وبه قال  سعيد بن المسيب  ،  وعمر بن عبد العزيز  ،  وعروة بن الزبير  ،  والزهري  ، وقتادة  ،  والأعرج  ، وربيعة  ، ومالك    . 
قال  ابن عبد البر    : وهو قول فقهاء المدينة  السبعة ، وجمهور أهل المدينة  ، وحكي عن  الشافعي  في القديم . 
وقال الحسن    : يستويان إلى النصف ، وروي عن علي  رضي الله عنه : أنها على النصف فيما قل أو كثر ، وروي ذلك عن  ابن سيرين  ، وبه قال  الثوري  ، والليث  ،  وابن أبي ليلى  ،  وابن شبرمة  ، وأبو حنيفة  وأصحابه .  وأبو ثور  ،  والشافعي  في ظاهر مذهبه ، واختاره ابن المنذر    ; لأنهما شخصان تختلف دية نفسهما فاختلف أرش جراحهما . اه وهذا القول أقيس . 
قال مقيده عفا الله عنه : كلام  ابن قدامة  والخرقي  صريح في أن ما بلغ ثلث الدية يستويان فيه ، وأن تفضيله عليها بنصف الدية إنما هو فيما زاد على الثلث ، فمقتضى كلامهما أن دية جائفة المرأة ومأمومتها  كدية جائفة الرجل ومأمومته ; لأن في كل من الجائفة والمأمومة ثلث الدية ، وأن عقلها لا يكون على النصف من عقله إلا فيما زاد على الثلث ، كدية أربعة أصابع من اليد ، فإن فيها أربعين من الإبل ، إذ في كل إصبع عشر ، والأربعون أكثر من ثلث المائة . وكلام مالك  في الموطأ وغيره صريح في أن ما بلغ الثلث كالجائفة والمأمومة تكون دية المرأة فيه على النصف من دية الرجل ، وأن محل استوائها   [ ص: 114 ] إنما هو فيما دون الثلث خاصة كالموضحة والمنقلة ، والإصبع والإصبعين والثلاثة ، وهما قولان معروفان لأهل العلم ، وأصحهما هو ما ذكرناه عن مالك  ، ورجحه  ابن قدامة  في آخر كلامه بالحديث الآتي إن شاء الله تعالى . 
قال مقيده عفا الله عنه : وهذا القول مشكل جدا لأنه يقتضي أن المرأة إن قطعت من يدها ثلاثة أصابع كانت ديتها ثلاثين من الإبل كأصابع الرجل ، لأنها دون الثلث ، وإن قطعت من يدها أربعة أصابع كانت ديتها عشرين من الإبل ، لأنها زادت على الثلث فصارت على النصف من دية الرجل ، وكون دية الأصابع  الثلاثة ثلاثين من الإبل ، ودية الأصابع الأربعة عشرين في غاية الإشكال كما ترى . 
وقد استشكل هذا  ربيعة بن أبي عبد الرحمن  على  سعيد بن المسيب  ، فأجابه بأن هذا هو السنة ، ففي موطأ مالك  رحمه الله عن مالك  ، عن  ربيعة بن أبي عبد الرحمن  أنه قال : سألت  سعيد بن المسيب  كم في إصبع المرأة ؟ قال : عشر من الإبل . فقلت : كم في إصبعين ؟ قال : عشرون من الإبل . فقلت : كم في ثلاث ؟ فقال : ثلاثون من الإبل . فقلت : كم في أربع ؟ قال : عشرون من الإبل . فقلت : حين عظم جرحها ، واشتدت مصيبتها نقص عقلها ؟ فقال سعيد    : أعراقي أنت ؟ فقلت . بل عالم متثبت ، أو جاهل متعلم . فقال سعيد    : هي السنة يابن أخي   . 
وظاهر كلام سعيد  هذا : أن هذا من سنة النبي صلى الله عليه وسلم . ولو قلنا : إن هذا له حكم الرفع فإنه مرسل ; لأن سعيدا  لم يدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، ومراسيل  سعيد بن المسيب  قد قدمنا الكلام عليها مستوفى في سورة " الأنعام " مع أن بعض أهل العلم قال : إن مراده بالسنة هنا سنة أهل المدينة    . 
وقال  النسائي  رحمه الله في سننه : أخبرنا  عيسى بن يونس  قال : حدثنا حمزة  ، عن  إسماعيل بن عياش  ، عن  ابن جريج  ، عن  عمرو بن شعيب  ، عن أبيه ، عن جده ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديتها   " اه وهذا يعضد قول سعيد    : إن هذا هو السنة . 
قال مقيده عفا الله عنه : إسناد  النسائي  هذا ضعيف فيما يظهر من جهتين . 
إحداهما : أن  إسماعيل بن عياش  رواه عن  ابن جريج  ، ورواية إسماعيل  المذكور عن غير الشاميين ضعيفة كما قدمنا إيضاحه ،  وابن جريج  ليس بشامي ، بل هو حجازي مكي . 
 [ ص: 115 ] الثانية : أن  ابن جريج  عنعنه عن  عمرو بن شعيب  ،  وابن جريج  رحمه الله مدلس ، وعنعنة المدلس لا يحتج بها ما لم يثبت السماع من طريق أخرى كما تقرر في علوم الحديث ، ويؤيد هذا الإعلال ما قاله الترمذي  رحمه الله : من أن  محمد بن إسماعيل - يعني البخاري    - قال : إن  ابن جريج  لم يسمع من  عمرو بن شعيب  ، كما نقله عنه ابن حجر  في " تهذيب التهذيب " في ترجمة  ابن جريج  المذكور . 
وبما ذكرنا تعلم أن تصحيح  ابن خزيمة  لهذا الحديث غير صحيح ، وإن نقله عنه ابن حجر  في " بلوغ المرام " وسكت عليه ، والله أعلم . وهذا مع ما تقدم من كون ما تضمنه هذا الحديث يلزمه أن يكون في ثلاثة أصابع من أصابع المرأة ثلاثون ، وفي أربعة أصابع عشرون ، وهذا مخالف لما عهد من حكمة هذا الشرع الكريم كما ترى ، اللهم إلا أن يقال : إن جعل المرأة على النصف من الرجل فيما بلغ الثالث فصاعدا أنه في الزائد فقط ، فيكون في أربعة أصابع من أصابعها خمس وثلاثون ، فيكون النقص في العشرة الرابعة فقط ، وهذا معقول وظاهر ، والحديث محتمل له ، والله أعلم . 
ومن الأدلة على أن دية المرأة على النصف من دية الرجل    : ما رواه البيهقي  في السنن الكبرى من وجهين عن  عبادة بن نسي  ، عن ابن غنم  ، عن  معاذ بن جبل  قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : " دية المرأة على النصف من دية الرجل   " ، ثم قال البيهقي  رحمه الله : وروي من وجه آخر عن  عبادة بن نسي  وفيه ضعف ، ومعلوم أن  عبادة بن نسي  ثقة فاضل ، فالضعف الذي يعنيه البيهقي  من غيره ، وأخرج البيهقي  أيضا عن علي  مرفوعا : " دية المرأة على النصف من دية الرجل في الكل   " . وهو من رواية  إبراهيم النخعي  عنه وفيه انقطاع ، وأخرجه  ابن أبي شيبة  من طريق  الشعبي  عنه ، وأخرجه أيضا من وجه آخر عنه وعن عمر  ، قاله الشوكاني  رحمه الله . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					