إني وجدت من المكارم حسبكم أن تلبسوا خز الثياب وتشبعوا
ثم بين تعالى أن هذه الكفاية بالتأييد الرباني ، وأن منه تسخير المؤمنين للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجعلهم أمة متحدة متآلفة متعاونة على نصره فقال : هو الذي أيدك بنصره [ ص: 61 ] بتسخير الأسباب ، وما هو وراء الأسباب من خوارق العادات كالملائكة التي ثبتت القلوب في يوم بدر ( وبالمؤمنين ) من المهاجرين والأنصار ، وروي أن المراد بهم الأنصار بدليل قوله : وألف بين قلوبهم أي : بعد التفرق والتعادي الذي رسخ بالحرب الطويلة والضغائن الموروثة ، وجمعهم على الإيمان بك ، وبذل النفس والنفيس في مناصرتك .قال أصحاب القول الثاني : كان هذا بين الأوس والخزرج من الأنصار ، ولم يكن منه شيء بين المهاجرين ، أي وفيهم نزلت : واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا ( 3 : 103 ) إلخ . ولكن هذا لا يمنع إرادة مجموع المهاجرين والأنصار ، فقد كانوا بنعمته إخوانا لم يقع بينهم تحاسد ولا تعاد كما هو شأن البشر في مثل هذا الشأن ، كما ألف بين الأوس والخزرج فكانوا بنعمته إخوانا بعد طول العداء والعدوان ، وقد المهاجرين والأنصار عند قسمة الغنائم في حنين فكفاهم الله شر ذلك بفضله وحكمة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد كان عدد كاد يقع التغاير بين المهاجرين في غزوة بدر ثمانين رجلا أو زيادة كما ذكر الحافظ في فتح الباري ، وكان الباقون من الأنصار وهم تتمة ثلاثمائة وبضعة عشر . والعمدة في إرادة الفريقين أن التأييد بالفعل والنصر حصل بكل منهما في جميع الوقائع ، المهاجرون في المرتبة الأولى في كل شيء لسبقهم إلى الإيمان والعلم ، ونصر الله ورسوله في زمن القلة والشدة والخوف ، وقد أسند إليهم هذا النصر في سورة الحشر التي نزلت في غزوة وكان بني النضير عند ذكر مراتب المؤمنين ، فقال في قسمة فيئهم : للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون ( 59 : 8 ) ثم قال في الأنصار : والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ( 59 : 9 ) إلى آخر الآية ، وهي دليل على أن النصر ينال بالأسباب ، وأن ذلك يتوقف على التآلف والاتحاد ، وكل ذلك بفضل مقدر الأسباب ورحمته بالعباد ، ولذلك قال : لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم يعني أنه لولا نعمة الله عليهم بالإيمان ، وأخوته التي هي أقوى عاطفة ومودة من أخوة الأنساب والأوطان ، لما أمكنك يا محمد أن تؤلف بين قلوبهم بالمنافع الدنيوية ، ولو أنفقت جميع ما في الأرض من الأموال والمنافع في سبيل هذا التأليف ، أما الأنصار فلأن الأضغان الموروثة ، وأوتار الدماء المسفوكة ، وحمية الجاهلية الراسخة ، لا تزول بالأعراض الدنيوية العارضة ، وإنما تزول بالإيمان الصادق الذي هو مناط سعادة الدنيا والآخرة ، وأما المهاجرون فلأن التأليف بين غنيهم وفقيرهم ، وسادتهم ومواليهم ، وأشرافهم ودهمائهم ، على ما كان فيهم من كبرياء الجاهلية ، وجمع [ ص: 62 ] كلمتهم على احتمال عداوة بيوتهم وعشائرهم وحلفائهم في سبيل الله ، لم يكن كله مما يمكن نيله بالمال وآمال الدنيا - ولم يكن في يد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ شيء منهما في أول الإسلام ، ولكن صار بيده في المدينة شيء عظيم منهما بنصر الله له في قتال المشركين واليهود جميعا - وأما مجموع المهاجرين والأنصار فقد كان اجتماعهما لولا فضل الله وعنايته مدعاة التحاسد والتنازع ، لما سبق لهما من عصبية الجاهلية ، وما كان لدى المهاجرين من مزية قرب الرسول والسبق إلى الإيمان به ، وما لدى الأنصار من المال والقوة وإنقاذ الرسول والمهاجرين جميعا من ظلم قومهم ، ومن المنة عليهم بإيوائهم ومشاركتهم في أموالهم ، وفي هذا وذاك من دواعي التغاير والتحاسد ما لا يمكن أن يزول بالأسباب الدنيوية ، فهو تعالى يقول للرسول : لست أنت المؤلف بينهم ، ولكن الله ألف بينهم بهدايتهم إلى هذا الإيمان بالفعل ، الذي دعوتهم إليه بالقول إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ( 28 : 56 ) وإنما عليك البلاغ ، وهداية الدعوة والبيان وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ( 42 : 52 ) بالدعاية ، وتدعو الله أنت ومن آمن معك بقوله : اهدنا الصراط المستقيم ( 1 : 6 ) أي بالفعل والتوفيق والعناية . وهذا ثناء من الله عز وجل على صحابة رسوله تفند مطاعن الرافضة الضالة الخاسرة فيهم .
لا يوجد سبب للتوحيد والتعاون بين البشر كالتآلف والتحاب ، . قال ولا يوجد سبب للتحاب والتآلف كأخوة الإيمان ـ رضي الله عنه ـ : قرابة الرحم تقطع ، ومنة النعمة تكفر ، ولم ير مثل تقارب القلوب ، وقرأ الآية . رواه ابن عباس البيهقي ، ورواه عبد الرزاق والحاكم عنه بلفظ : إن الرحم لتقطع ، وإن النعمة لتكفر ، وإن الله إذا قارب بين القلوب لم يزحزحها شيء . ثم قرأ : لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم الآية .
وقد ورد من الأحاديث في ما ينبئ بشأن هذه الفضيلة ، ويرغب فيها ، واتفق حكماء البشر غابرهم وحاضرهم على أن المحبة أعظم الروابط بين البشر ، وأقوى الأسباب لسعادة الاجتماع الإنساني وارتقائه . واتفقوا أيضا على أن المحبة إذا فقدت لا يحل محلها شيء في منع الشر ، والوقوف عند حدود الحق ، إلا فضيلة العدل . ولما كانت وهمية غير اختيارية ، وكان العدل من الأعمال الكسبية ، جعل الإسلام المحبة فضيلة والعدل فريضة ، وأوجبه لجميع الناس في الدولة الإسلامية ، وحكومتها الشرعية ، لا يختص به مسلم دون كافر ، ولا بر دون فاجر ، ولا قريب من التحاب في الله الحاكم دون بعيد ، ولا غني دون فقير ، وتقدم تفصيل هذا في تسفير الآيات المقررة له [ ص: 63 ] وقد ختم الله تعالى هذه الآية بقوله : إنه عزيز حكيم ؛ لأنه تعليل لكفاية الله لرسوله شر خداع الأعداء ، وتأييده بنصره وبالمؤمنين ، لا للتأليف بين المؤمنين ، فإن العمدة في الكلام هو الكفاية والتأييد ، وهو المناسب لكونه تعالى هو العزيز أي الغالب على أمره الذي لا يغلبه خداع الخادعين ، ولا كيد الماكرين ، الحكيم في أفعاله كنصره الحق على الباطل ، وفي أحكامه كتفضيله الجنوح للسلم إذا جنح إليها العدو على الحرب كما تقدم ، ولو كان تعليلا للتأليف بين المؤمنين وحده لكان الأنسب أن يعلل بقوله : " إنه رءوف رحيم " على أن هذا التأليف في هذا المقام ما كان إلا بعزة الله وحكمته في إقامة هذا الدين .