ثم انتقل من بيان هذه الدركة من الإخلال بحقوق الإيمان ومقتضياته إلى الدركة التي من شأنها أن تكون سببا لها فقال : قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره وجه الله عز وجل الخطاب في النهي عن الجريمة الكبرى وهي إلى المؤمنين بعنوانهم مباشرة ، ثم أمر رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يخاطبهم في أمر الجريمة الثانية ، والوعيد عليها على فرض وقوعها منهم ، ولم يشأ أن يعطف هذا على ما قبله فيكون خطابا منه بعنوان صفة الإيمان المنافي لمضمونه ; ولذلك عبر عنه بأداة الشرط التي من شأن شرطها أن يكون مشكوكا في وقوعه أو من شأنه ألا يقع وهي ( إن ) ولم يرتب هذه المؤاخذة على أصل الحب ، لما ذكر في الآية من مجامع حظوظ الدنيا ولذاتها; لأنه غريزي ، بل رتبه على تفضيل هذه الحظوظ والشهوات الدنيوية في الحب على حب الله ورسوله ، والجهاد في سبيله الموعود عليه بما تقدم آنفا من أنواع السعادة الأبدية في الآخرة ، وكذا ما دونه كما يدل عليه تنكير كلمة " جهاد " هنا . وذكر الأبناء والأرواح هنا دون آية النهي عن الولاية; لأن من شأن الإنسان أن يتولى في الحرب من فوقه كالأب ومن هو مثله كالأخ [ ص: 203 ] دون من هو دونه ، ومن شأنه أن يكون تابعا له كابنه وزوجه ، ولكنهما في المرتبة الأولى في الحب ، وإننا نبين مراتب هذه الأصناف الثمانية في الحب ، ونقفي عليها بمعنى حب الله ورسوله ، وكون المؤمن الصادق لا يؤثر عليهما شيئان منها ، ولا يعلو حبهما عنده حب شيء سواهما : ( 1 ) حب الأبناء للآباء له مناشئ من غرائز النفس وشعورها وعواطفها وعوارفها ومعارفها وطباعها ، ومن عرف الأقوام وآدابهم الاجتماعية وشرائعهم ودينهم ، فالولد بضعة من أبيه يرث بعض صفاته وطباعه وشمائله من جسدية ونفسية وعقلية ، وأول شيء يشعر به ، وينمى في نفسه بنماء تمييزه وعقله ، إحسان والديه إليه ، واقتران صورتهما في خياله بكل محبوب له ، ويتلو هذا شعوره بما هما عليه من الحنان والعطف والحدب عليه والحب الخالص له الذي لا يشوبه رياء ولا تهمة ، وللوالدة القدح المعلى في هذين - ويفوقها الوالد بما يحدث للولد بعد هذا من شعور الإعجاب بالعظمة والكمال والقدرة وهو من الغرائز ، والطفل يشعر بأن أباه أعظم الناس ، وأحقهم بالإجلال والتعظيم . وهذا الشعور إما أن ينمى ويزداد في الكبر إذا كان الوالد مستحقا له ، ولو من بعض الوجوه ، وإما أن يضعف ، ولكنه قلما يزول عينا وأثرا ، وإن كان في غير محله . وقد كان العرب يتفاخرون بآبائهم في أسواقهم ، وفي معاهد الحج حتى قال الله تعالى : ولاية الكافرين المعادين لله ورسوله فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا ( 2 : 200 ) يتلو ذلك شعوره عزة الحماية والصيانة له من والده والذود عنه والانتقام له إذا ضيم ، وفوق هذا شعور الشرف ، فهو يشرف بشرفه ، ويحقر بضعته وخسته . فإن أهين بقول أو فعل ترجف أعصابه ويتبيغ دمه ، ولا تكاد تهدأ ثائرته إلا بالانتقام له .
تؤيد هذه الأنواع من الشعور والغرائز ملكات تطبعها الحقوق العرفية والآداب الاجتماعية والشرائع الدينية ، فالله تعالى قد قرن بتوحيده وعبادته وحده بمثل قوله : الإحسان بالوالدين وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ( 17 : 23 ) إلخ . وقرن شكرهما في قوله : ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير ( 31 : 14 ) ثم إنه أمر بمعاملتهما بالمعروف وإن كانا مشركين ، مع نهيه عن طاعتهما إذا دعواه إلى الشرك فقال : وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا ( 31 : 15 ) .
فهذه مجامع نوازع حب الولد الوالد ، والوالدة تفوقه في بعضها ، وتتخلف عنه في بعض ، ولما كان الوالدون هم الذين يقاتلون ويحتاجون إلى الموالاة والمناصرة دون الوالدات اقتصر على ذكرهم ، تبعا لنهيه عن موالاتهم ; لأن موالاتهم لهم من قبيل طاعتهم في الشرك الذي [ ص: 204 ] نهاهم عنه ، ونصر الشرك وأهله لأجله شرك ، بل اتفق العلماء على أن ، فكيف ينصر الكفر على الإيمان بموالاة الكافرين ونصرهم على المؤمنين ؟ ولكنه لم ينههم عن حب آبائهم المشركين ، بل حذرهم أن يكونوا أحب إليهم من الله ورسوله ، وجهاد ما في سبيله ; لأن هذا لا يجتمع مع الإيمان الصحيح كما سيأتي . كذلك نهاهم في سورة المجادلة عن موادة من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم إذا كانت لأجل المحادة ، كما يفيده ترتيب النهي على فعلها ، فإن المودة هي المعاملة الحبية ، والمحادة شدة العداوة والبغضاء ، فاشتراك المؤمن المحب لله ورسوله مع المحاد لله ولرسوله في المودة المرتبة على صفتيهما جمع بين الضدين ، فهو في معنى موالاتهم بل أخص منها . الرضاء بالكفر كفر