( 2 ) له جميع تلك المناشئ الغريزية والطبيعية ، وأنواع الشعور والعواطف النفسية ، وبعض تلك الحقوق العرفية والآداب الاجتماعية والأحكام الشرعية لا جميعها ، ولكن حب الوالد للولد أحر وأقوى وأنمى وأبقى من عكسه ، وهو أشد شعورا بمعنى كون ولده بضعة منه ، وكون وجوده مستمدا من وجوده ، ويشعر ما لا يشعر من معنى كونه نسخة ثانية منه يرجى لها من البقاء ما لا يرجى للنسخة الأولى ، فهو يحرص على بقائه كما يحرص على نفسه أو أشد ، ويحرم نفسه من كثير من الطيبات إيثارا له بها في حاضر أمره ومستقبله ، ويكابد الأهوال ويركب الصعاب ، وكثيرا ما يقترف الحرام في سبيل السعي والادخار له ، وقد بينا في تفسير : حب الآباء للأبناء قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ( 6 : 151 ) الآية ، أن عاطفة البنوة ونعرتها من أقوى غرائز الفطرة ، وناهيك بما ينميها في النفس من قيام الوالد بشئون الولد في التربية والتعليم ، وما يحدثه ذلك من العواطف في الحال ، والذكريات في الاستقبال ، وكونه مناط الآمال ، قال الله تعالى : المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا ( 18 : 46 ) قالوا : المعنى أن الأعمال الصالحة التي يبقى ثوابها للإنسان بعد الحياة الدنيا خير من زينة المال فيها ثوابا ، وخير من البنين فيها أملا ، فهو نشر على ترتيب اللف . وقد بينا أسباب حب الآباء للبنين بالتفصيل في تفسير : زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين ( 3 : 14 ) إلخ .
( 3 ) ، والأخوان صنوان في وشيجة الرحم ، فالأخ الصغير كالولد ، والكبير كالوالد ، ويختلفان عنهما بشعور المساواة في المنبت وطبقة القرابة . وقد يماري فيه بعض الذين أفسدت فطرتهم نزعات الفلسفة المادية فيزعمون أنه من التقاليد العادية لا منشأ له من غرائز النفس ، ولا مقتضيات الطبع ، بل يقول بعضهم : إن عداوة الأخوة أعرق في الغريزة من محبتها ، ويستدلون عليه بما ورد في الكتب الإلهية [ ص: 205 ] من قتل أحد ولدي آدم لأخيه في أول النشأة ، وعهد سلامة الفطرة من تأثير التنازع في شئون الحياة ، ومن فعلة إخوة حب الأخوة يلي في الرتبة حب البنوة والأبوة يوسف به وهم من أسلم الناس أخلاقا وخيرهم وراثة .
والحق فيما قصه علينا الوحي من قتل قابيل لأخيه هابيل أنه بيان لما في استعداد البشر من التنازع بين غرائز الفطرة بالتعارض بين عاطفة وشيجة الرحم ، وحب العلو والرجحان ، والامتياز على الأقران في رغائب النفس ومنافعها ، وما قد يلد من الحسد ، وما قد يتبع الحسد من البغي والعدوان . فضرب الله لنا مثلا لبيان هاتين الحقيقتين ; ليرتب عليه بيان كون غريزة الدين بل هدايته هي المهذبة للفطرة البشرية بترجيح الحق على الباطل والخير على الشر ، فكان قابيل مثلا لمن غلبت عليه النزعة الثانية ، وهابيل مثلا لمن غلبت عليه الأولى بترجيح هداية الدين ، وذلك قوله تعالى حكاية عنه : لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين ( 5 : 28 و29 ) والدليل على ووشيجة الرحم في نفس محبة الأخوة ، قابيل ، وتنازعها مع حب العلو والرجحان على أخيه أو مساواته وحسده لتقبل قربانه دونه قوله تعالى : فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين ( 5 : 30 ) فإن التعبير عن ترجيح داعية الشر المتولدة من الحسد العارض على عاطفة حب الأخوة ورحمة الرحم " بالتطويع " من أبلغ تحديد القرآن لدقائق الحقائق باللفظ المفرد ، فإن معنى صيغة التفعيل التكرار والتدريج في محاولة الشيء كترويض الفرس الجموح ، وتذليل البعير الصعب ، فهي تدل على أن قابيل كان يجد من نوازع الفطرة في نفسه الأمارة بالسوء مانعا يصدها عما زينه له الحسد من قتل أخيه ، وأنها ما زالت تأمره ويعصيها حتى حملته على طاعتها بعد جهد وعناء . وقد شرحنا هذا المعنى شرحا واسعا في تفسير الآيات [ ص285 ج6 ط الهيئة ] .
وقد وقع مثل هذا الحسد من إخوة يوسف : كبر عليهم إقبال أبيهم يعقوب بكل وجهه وكل نفسه على هذا الابن الصغير ، الذي لم يبلغ أن ينفعه أو ينفع الأسرة بخدمة ولا حماية ولا غيرها من مواضع آمال الآباء في الأبناء ، وإعراضه عنهم على قوتهم ، وقيامهم بكل ما يحتاج إليه الأب والأسرة ، فزين لهم الحسد أن يقتلوه أو يغربوه; ليجتمع الشمل ، ويخلو لهم وجه أبيهم بالإقبال عليهم ، ويكونوا بذلك قوما صالحين بزوال سبب الشقاق والفساد فيهم ، ولكنهم بعد التشاور رجحوا تغريبه وإبعاده عن أبيه عندما أشار به بعضهم ، ولولا عاطفة الرحم ، وهداية الدين لما رضي العشرة برأي الواحد في ترك قتله . ولماذا نحفظ هذه الوقائع الشاذة ، وننسى الأمر الغالب الأعم ، وهو تواد الأخوة وتعاونهم وتناصرهم بباعث الغريزة ولوازمها ؟ ! ومنه ما كان من إحسان يوسف إلى إخوته ، ثم عفوه عنهم ، ثم معيشته معهم ؟ بعد هذا أذكر القارئ الذي أخاف عليه فساد الأفكار المادية المغرية بعداوة الأخوة [ ص: 206 ] للجهل بالدين ، والحرمان من هدايته ، بما هو معهود في هذه البلاد من إهمال تعليمه وتربيته - أذكره بما لا يستطيع للعالم المادي إنكاره أو المكابرة فيه من منشأ حب الأخوة في النفس ، وما تقتضيه من التواد والتناصر في نظام الاجتماع البدوي والمدني ، وهو أن المعهود من أخلاق البشر وآدابهم وعاداتهم المنبعثة عن طباعهم وغرائزهم ، أن المحبة والعطف فيما بينهم يكون على قدر ما بين أفرادهم وجماعاتهم من الاشتراك في صفات النفس الموروثة وعواطفها المكتسبة بالتربية والمعاشرة ، وفي شئون الحياة من طبيعية واجتماعية ، وفي الحقوق والآداب الشرعية والعادية ، وللإخوة من جملة هذه الأمور ما ليس لمن دونهم من الأقارب ، بله من بعد عنهم من الأجانب ، فالأخ صنو أخيه ، منبتهما واحد ، ودمهما واحد ، ووراثتهما النفسية والجسدية تتسلسل من أرومة واحدة ، وإن تفاوتا فيها ، وكل منهما يشعر بالاعتزاز بعزة الآخر إلى أن يفسد فطرته الحسد ، ويحفظ من ذكريات الطفولة والصبا ما له سلطان عظيم على النفس ، وتأثير كبير في آصرة الرحمة والحب ، وما زال أهل الوسط من بيوت الناس الذين سلمت فطرتهم ، وكرمت أخلاقهم ، يحبون إخوتهم كحبهم أنفسهم وأولادهم ، ويوقرون كبيرهم توقيرهم لأبيهم ، ويرحمون صغيرهم رحمتهم لأبنائهم ، ويكفلون من يتركه والده صغيرا فيتربى مع أولادهم كأحدهم ، وقد تكون العناية به أشد ، وما أطلت في هذا وما قبله هذه الإطالة النسبية إلا ليكون تفسير كتاب الله الذي أنزل لهداية الناس ، وإصلاح أمورهم مشتملا على ما يحتاجون إليه في هذا الزمان من درء مفاسد الفلسفة المادية القاطعة للأرحام ، المفسدة للاجتماع .