تقدم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ إذ أمره على الحج سنة تسع أن يبلغ الناس أنه لا يحج بعد ذلك العام مشرك . ثم أمر عليا ـ رضي الله عنه ـ أن يتبع أبا بكر فيقرأ على الناس أوائل سورة براءة يوم الحج الأكبر ، وأن ينادي بألا يحج بعد ذلك العام مشرك . وقد كانت هذه الآية من الآيات الأربعين التي أمر علي كرم الله وجهه بالنداء بها ، وهي أبلغ من منع المشركين من الحج كما سيأتي .
[ ص: 241 ] ولفظ ( نجس ) فيها بالتحريك مصدر نجس الشيء ( من باب تعب ) فهو نجس بكسر الجيم - إذا كان قذرا غير نظيف ، والاسم النجاسة . والوصف بالمصدر يستوي فيه المذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والجمع من كل منهما ، ويراد به المبالغة في الوصف بجعل الموصوف كأنه عين الصفة . وإذا وصف الإنسان بأنه نجس أريد به أنه شرير خبيث النفس ، وإن كان طاهر البدن والثوب في الحس . وإذا وصف به الداء أو صاحبه أريد به أنه عضال لا يبرأ ، ولم يذكر هذا اللفظ ولا كلمة من هذه المادة في غير هذه الآية من التنزيل ، وهو يستعمل في اللغة بمعنى القذر والخبيث حسا أو معنى كالرجس الذي تكرر ذكره فيه كما تقدم في تفسير آية تحريم الخمر من سورة المائدة [ ص48 وما بعدها ج 7 ط الهيئة ] .
وفي لسان العرب : النجس والنجس ( بالفتح والكسر ) والنجس بالتحريك: القذر من الناس ، ومن كل شيء قذرته ، ثم قال : وداء نجس وناجس ونجيس عقام لا يبرأ منه ، وقد يوصف به صاحب الداء ، والنجس اتخاذ عوذة للصبي ، وقد نجس له ونجسه عوذه ( قال ) الجوهري : والتنجيس شيء كانت العرب تفعله كالعوذة تدفع بها العين ( وقال ) الليث : المنجس الذي يعلق عليه عظام أو خرق ويقال للمعوذ : منجس ، وكان أهل الجاهلية يعلقون على الصبي ، ومن يخاف عليه عيون الجن الأقذار من خرق المحيض ، ويقولون: الجن لا تقربها انتهى ملخصا بحروفه . وفيه : أن المراد من التنجس رفع النجس ، يعني ضرر الجن ، كالتحريم والمأثم والتحنث وهو الفعل الذي يخرج به فاعله من الحرج والإثم والحنث .
وقال الراغب : النجاسة القذارة وذلك ضربان: ضرب يدرك بالحاسة ، وضرب يدرك بالبصيرة . والثاني : وصف الله به المشركين فقال : إنما المشركون نجس ويقال: نجسه إذا جعله نجسا ، ونجسه أيضا أزال نجسه ، ومنه تنجيس العرب ، وهو شيء كانوا يفعلونه من تعليق عوذة على الصبي ليدفعوا عنه نجاسة الشيطان . والناجس والنجيس داء خبيث لا دواء له اهـ .
أقول : لا تزال سلائل العرب في البدو والحضر يقولون : فلان نجس بمعنى خبيث ضار مؤذ . كما أن الجاهلين منهم بالإسلام لا يزالون يعلقون التناجيس والتعاويذ على الأولاد لوقايتهم من الجن والعين الخبيثة من الإنس ، وكذلك العبرانيون يسمون الداء العضال نجسا وصاحبه نجسا وشفاءه طهارة .
وظاهر كلام الراغب وغيره أن إطلاق النجس على القذر والخبث الحسي والمعنوي حقيقة فيهما وهو الذي أفهمه ، ومنه المعاصي والداء العضال ، وقد ذكرهما في قسم الحقيقة ، ونقل قول الزمخشري الحسن في رجل تزوج امرأة كان قد زنى بها : هو أنجسها فهو أحق بها ، وقولهم في الداء ، وذكر منها شاهدا في البيت قول ساعدة بن جؤية :
[ ص: 242 ]
والشيب داء نجيس لا دواء له للمرء كان صحيحا صائب القحم
وفسره بقوله : أي هو داء عياء للرجل الصحيح الجلد الذي إذا تقحم في الشدائد أصاب فيها ولم يخطئ .( قال ) ومن المجاز الناس أجناس ، وأكثرهم أنجاس ، ونجسته الذنوب إنما المشركون نجس وتقول : لا ترى أنجس من الكافر ، ولا أنجس من الفاجر اهـ .
هذا تحقيق . وأما في عرف الفقهاء . فالنجس ما يجب التطهير لما يصيبه سواء أكان قذرا في الحس كالبول والغائط ، أم لا كالخمر والخنزير والكلب عند من يقول بنجاسة أعيانها وهم الأكثرون . ومن ثم قال بعضهم معنى النجس والنجاسة في اللغة ووجوب تطهير ما تصيبه أبدانهم مع البلل . وحكي هذا القول عن بنجاسة أعيان المشركين ، ابن عباس والحسن البصري ومالك وعن الهادي والقاسم والناصر من أئمة العترة ، وهو مذهب جمهور الظاهرية والشيعة الإمامية . وجمهور السلف والخلف على خلافه ومنهم أهل المذاهب الأربعة ، والآية ليست نصا ولا ظاهرا راجحا فيه ، والسنة العملية لا تؤيده بل تنفيه ، ولاسيما قول من يجعل أهل الكتب مشركين كالإمامية ، فإن إباحة طعام أهل الكتاب ، ونكاح نسائهم نزل في سورة المائدة ، وهي آخر ما نزل ، فهي بعد سورة التوبة بالإجماع ، وإباحتهما تستلزم طهارتهما .
ومن المعلوم القطعي لكل مطلع على السيرة النبوية ، وتاريخ ظهور الإسلام بالضرورة ، أن المسلمين كانوا يعاشرون المشركين ويخالطونهم ولاسيما بعد صلح الحديبية ، إذا امتنع اضطهاد المشركين وتعذيبهم لمن لا عصبية له ، ولا جوار يمنعه منهم ، وكانت رسلهم ووفودهم ترد على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويدخلون مسجده ، وكذلك أهل الكتاب كنصارى نجران واليهود ، ولم يعامل أحد أحدا منهم معاملة الأنجاس ، ولم يأمر بغسل شيء مما أصابته أبدانهم ، بل روي عنه ما يدل على خلاف ذلك مما احتج به الجمهور على طهارة أبدانهم من الأحاديث الصحيحة ، ومنها أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ توضأ من مزادة مشركة ، وأكل من طعام اليهود ، وربط ثمامة بن أثال وهو مشرك بسارية من سواري المسجد ، ومنها إطعامه هو وأصحابه للوفد من الكفار ولم يأمر ـ صلى الله عليه وسلم ـ بغسل الأواني التي كانوا يأكلون ويشربون فيها ، وروى أحمد وأبو داود من حديث قال : جابر بن عبد الله . كنا نغزو مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فنصيب من آنية المشركين وأسقيتهم فنستمتع بها ولا يعيب ذلك علينا
وقد استدل بمفهوم حديث القائلون بنجاسة الكافر وقد رواه الجماعة كلهم من حديث إن المؤمن لا ينجس وجاء بلفظ . " المسلم " من حديث حذيفة رواه الجماعة إلا أبي هريرة البخاري . وهو مفهوم لقب وليس بحجة عند الجمهور القائلين بمفهوم المخالفة . والترمذي
[ ص: 243 ] وأبو حنيفة لا يقول به ، واستدلوا أيضا بحديث الأمر بغسل آنية أهل الكتاب ، والأكل فيها إن لم يوجد غيرها وهو في الصحيح من حديث أبي ثعلبة ، وقد بين أبو داود علته وهو قوله : إنهم يأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمر ، وكذا حديث إنقاء أواني المجوس غسلا والطبخ فيها ، وهذا كله من الأمر بالنظافة ، ولا دلالة فيه على نجاسة أعيان الناس بمعنى القذر الذي يزال بالغسل .
وجملة القول أن لفظ النجس في القرآن جاء بالمعنى اللغوي المعروف عند العرب لا بالمعنى العرفي عند الفقهاء ، وكانت العرب تصف بعض الناس بالنجس ، وتريد به الخبث المعنوي كالشر والأذى ، وإلا لما وصفوا به بعض الناس دون بعض ، كما تقدم في قول الأساس الناس أجناس ، وأكثرهم أنجاس ، ولا يطلقون النجس بمعنى القذر الذي يطلب غسله ، حتى إذا زال سمي طاهرا إلا فيما يدرك قذره وخبثه بالحس كالرائحة القبيحة .
هذا هو الحق الظاهر . وما أفك عنه من أفك إلا بتحكيم الاصطلاحات الفقهية وغيرها في استعمال اللغة الفصحى التي نزل بها القرآن ، ومن الغريب أخذ الرازي المذهب بالقول الشاذ المخالف للحس ، واستعمال اللغة في نجاسة المشركين بعد بيان الشافعي العربي وأصحابه لبطلانه ، وقد اتبعه الشافعي الآلوسي في ذلك على سعة اطلاعه في الفقه واللغة وكان شافعيا ثم صار مفتيا للحنفية . وما أطلت في هذا البحث اللغوي ، إلا لتفنيد رأيهما حتى لا يغتر به أحد في هذا العصر الذي صار فيه الكثيرون من الشعوب غير الإسلامية أشد عناية من المسلمين بالنظافة التي جعلها المقلدون أحكاما تعبدية ، يكابرون فيها الحس واللغة والقياس وحكمة الشارع . ويوقعون مقلديهم في أشد الحرج في السفر ، وفي عداوة البشر . إذا فهمت هذا فهاك تفسير الآية .