الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
[ بيان عدالة الصحابة ] والثالثة : في بيان مرتبتهم . ( وهم ) - رضي الله عنهم - باتفاق أهل السنة ( عدول ) كلهم مطلقا ، كبيرهم وصغيرهم ، لابس الفتنة أم لا ، وجوبا لحسن الظن بهم ، ونظرا إلى ما تمهد لهم من المآثر من امتثال أوامره بعده - صلى الله عليه وسلم - ، وفتحهم الأقاليم ، وتبليغهم عنه الكتاب والسنة ، وهداية الناس ، ومواظبتهم على الصلوات والزكوات وأنواع القربات ، مع الشجاعة والبراعة والكرم والإيثار والأخلاق الحميدة التي لم تكن في أمة من الأمم المتقدمة . قال الخطيب في ( الكفاية ) : عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم ، وإخباره عن طهارتهم ، واختياره لهم . فمن ذلك قوله تعالى : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) [ آل عمران : 110 ] ، وقوله : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) [ البقرة : 143 ] ، وقوله : ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم ) [ الفتح : 18 ] ، وقوله : ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه ) [ التوبة : 100 ] ، وقوله : ( ياأيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ) [ الأنفال : 64 ] ، وقوله : ( للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون ) [ الحشر : 8 ] إلى قوله : ( إنك رءوف رحيم ) [ الحشر : 10 ] . في آيات كثيرة يطول ذكرها ، وأحاديث شهيرة يكثر تعدادها . وجميع ذلك يقتضي القطع بتعديلهم ، ولا يحتاج أحد منهم مع تعديل الله له إلى تعديل أحد من الخلق .

[ ص: 95 ] على أنه لو لم يرد من الله ورسوله فيهم شيء مما ذكرناه ، لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة ، والجهاد ، ونصرة الإسلام ، وبذل المهج والأموال ، وقتل الآباء والأبناء ، والمناصحة في الدين ، وقوة الإيمان واليقين ، القطع على تعديلهم ، والاعتقاد لنزاهتهم ، وأنهم أفضل من جميع الخالفين بعدهم ، والمعدلين الذين يجيئون من بعدهم . هذا مذهب كافة العلماء ومن يعتمد قوله .

ثم أسند عن أبي زرعة الرازي أنه قال : إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعلم أنه زنديق ; وذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حق ، والقرآن حق ، وما جاء به حق ، وإنما أدى إلينا ذلك كله الصحابة ، وهؤلاء يريدون أن يجرحوا شهودنا ; ليبطلوا الكتاب والسنة . والجرح بهم أولى ، وهم زنادقة . انتهى . وهو كما قال شيخنا فصل حسن .

فأما الآية الأولى ، فالذي رجحه كثير من المفسرين عمومها في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وخصها آخرون بالصحابة . بل قال بعضهم : اتفقوا على أنها واردة فيهم ، وحينئذ فالاستدلال منها ظاهر . وأما الثانية ، فهي خطاب مع الموجودين منهم حينئذ ، ولكن لا يمتنع إلحاق غيرهم بهم ممن شاركهم في الوصف . وكذا من الآيات : ( والذين معه ) ، ومن غيرها : ( أصحابي كالنجوم ) ، مع ما تحقق عنهم بالتواتر من الجد في الامتثال .

قال شيخنا : والأحاديث الواردة في تفضيل الصحابة كثيرة ، فمن أدلها على المقصود ما رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه من حديث عبد الله بن مغفل قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( الله الله في أصحابي ، لا تتخذوهم غرضا ، فمن [ ص: 96 ] أحبهم فبحبي أحبهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه ) .

وذكر غيره من الأدلة حديث أبي سعيد الخدري : ( ولا تسبوا أصحابي ، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه ) متفق عليه . وهو إن ورد على سبب ، وذلك أنه كان بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف شيء ، فسبه خالد ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - . . . وذكره ، بحيث خصه بعض أصحاب الحديث بمن طالت صحبته وقاتل معه وأنفق وهاجر ، فالعبرة إنما هي بعموم اللفظ ، لا بخصوص السبب ، كما ذهب إليه الأكثرون ، وصححه القاضي عياض هنا .

ومثل هذا يقال ، وإن كان المقول له صحابيا ; للتنبيه على إرادة حفظ الصحبة عن ذلك . ووجه الاستدلال به أن الوصف لهم بغير العدالة سب ، لا سيما وقد نهى - صلى الله عليه وسلم - بعض من أدركه وصحبه عن التعرض لمن تقدمه ; لشهود المواقف الفاضلة ، فيكون من بعدهم بالنسبة لجميعهم من باب أولى . وحديث : ( خير الناس قرني ) المتواتر مما هو أيضا متفق عليه من حديث ابن مسعود وعمران بن حصين ، حتى بالغ بعضهم فتمسك به لعدالة التابعين أيضا ، وأنه لا يسأل عنهم حتى يقوم الجرح ; لقوله فيه : ( ثم الذين يلونهم ) . وهو فيهم محمول على الغالب . والمراد بقرن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه الصحابة ، وإن أطلق القرن على مدة من الزمان في تحديدها أقوال ، أدناها عشرة أعوام ، وأعلاها مائة وعشرون ، وعليه ينطبق الواقع في كون آخر الصحابة موتا أبو الطفيل ، إن اعتبر ذلك من البعثة ; إذ المدة منها القدر المذكور أو دونه أو فوقه بقليل على الاختلاف في وفاة أبي الطفيل ، أما إن مشينا على أن القرن مائة كما هو المشهور ، بل وقع ما يدل له في حديث لعبد الله بن بسر عند مسلم ، فيكون الاعتبار من موته - صلى الله عليه وسلم - .

[ ص: 97 ] ومن الأدلة أيضا ما جاء عن بهز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( أنتم توفون سبعين أمة ، أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل ) أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه وغيرهم .

وعن سعيد بن المسيب ، عن جابر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الله اختار أصحابي على الثقلين سوى النبيين والمرسلين ) . أخرجه البزار بسند رجاله موثقون .

وعن عبد الله بن هاشم الطوسي ، حدثنا وكيع ، سمعت سفيان يقول في قوله تعالى : ( قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ) [ النمل : 59 ] ، قال : هم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - . إلى غير ذلك مما يطول إيراده . وممن حكى الإجماع على القول بعدالتهم إمام الحرمين ، قال : ولعل السبب فيه أنهم نقلة الشريعة ، فلو ثبت توقف في روايتهم لانحصرت الشريعة على عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ولما استرسلت على سائر الأعصار .

ونحوه قول أبي محمد بن حزم : الصحابة كلهم من أهل الجنة قطعا ، قال الله تعالى : ( لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير ) [ الحديد : 10 ] ، وقال تعالى : ( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون ) [ الأنبياء : 101 ] . قال : فثبت أن الجميع من أهل الجنة ، وأنه لا يدخل أحد منهم النار ; لأنهم المخاطبون بالآية السابقة . فإن قيل : التقييد بالإنفاق والقتال يخرج من لم يتصف بذلك ، وكذلك التقييد بالإحسان في الآية السابقة ، وهي قوله تعالى : ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ) ، يخرج من لم يتصف بذلك . فالجواب أن التقييدات المذكورة خرجت مخرج الغالب ، وإلا فالمراد : من اتصف بالإنفاق والقتال بالفعل أو [ ص: 98 ] القوة . ولكن قد أشار إلى الخلاف الكيا الطبري حيث قال : إن عليه كافة أصحابنا . وكذا قال القاضي : هو قول السلف وجمهور الخلف . وحكى الآمدي وابن الحاجب قولا أنهم كغيرهم في لزوم البحث عن عدالتهم مطلقا ، وهو قضية كلام أبي الحسين بن القطان ، قول من الشافعية ; فإنه قال : فوحشي قتل حمزة وله صحبة ، والوليد شرب الخمر . قلنا : من ظهر منه خلاف العدالة لا يقع عليه اسم الصحبة ، والوليد ليس بصحابي ، إنما أصحابه الذين كانوا على طريقته . وهذا عجيب ، فالكل أصحابه باتفاق ، وقتل وحشي لحمزة كان قبل إسلامه ، وأما الوليد وغيره ممن ذكر بما أشار إليه فقد كف النبي - صلى الله عليه وسلم - من لعن بعضهم بقوله : ( لا تلعنه ; فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله ) . كما كف عمر عن حاطب رضي الله عنهما قائلا له : ( إنه شهد بدرا ، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم ; فقد غفرت لكم ) . لا سيما وهم مخلصون في التوبة فيما لعله صدر منهم ، والحدود كفارات . بل قيل في الوليد بخصوصه : إن بعض أهل الكوفة تعصبوا عليه فشهدوا عليه بغير الحق .

وبالجملة ، فترك الخوض في هذا ونحوه متعين ، وقد أسلفت في أواخر آداب المحدث شيئا مما يرغب في الحث على ترك ذلك . وقولا آخر : إنهم عدول إلى وقت وقوع الفتن ، فأما بعد [ ص: 99 ] ذلك فلا بد من البحث عمن ليس ظاهر العدالة . وذهبت المعتزلة إلى رد من قاتل عليا . وقيل به في الفريق الآخر .

التالي السابق


الخدمات العلمية