والدلالة عليهما رواية الشافعي رضي الله عنه عن الوليد بن كثير المخزومي عن عبد الله بن عمر عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا كان الماء قلتين لم يحمل خبثا " فدل تحديد القلتين على أن القدر معتبر ، وأن لا اعتبار بالاختلاط فيما زاد ، ولا اعتبار بعدم المعتبر فيما نقص ، اعترضوا على هذا الحديث بسبعة أسئلة ثلاثة في إسناده وأربعة في متنه .
أحدها : إن قالوا إن الشافعي رواه عن مجهول : لأنه قال أخبرنا الثقة ، وقد يكون ثقة عنده ومجروحا عند غيره ، وجهالة الراوي تمنع من العمل بروايته ، وعن هذا جوابان لأصحابنا :
أحدهما : أنه معروف وإن كني عن اسمه فقال أبو يعقوب البويطي هو حماد بن أسامة الكوفي .
وقال أبو ثور وهو عبد الله بن الحارث المخزومي ، وحكي عن الربيع بن سليمان أنه قال : إذا قال الشافعي أخبرنا الثقة عن معمر فهو ابن علية ، وإذا قال أخبرنا الثقة عن الأوزاعي فهو ابن أبي سلمة .
والجواب الثاني : أن الشافعي وضع هذا التصنيف بمصر ، وكانت كتبه بمكة ، فكان يورد الحديث ويعلم أنه قد حدثه به أحد الثقات عن رجل بعينه مثل أن يحدثه عن الزهري مالك تارة ، وسفيان تارة ، فإذا تيقن رواية الزهري ، وشك في الذي حدثه عنه هل هو مالك أو سفيان ، قال أخبرنا الثقة عن الزهري ، وهذا جائز .
[ ص: 328 ] والسؤال الثاني : إن قالوا في إسناده قدح من وجه ثان وهو الوليد بن كثير ، رواه تارة عن محمد بن عباد بن جعفر ، وتارة عن محمد بن جعفر بن الزبير ، وهذا اضطراب يقدح في الحديث ، وعنه جوابان :
أحدهما : ما حكاه أبو الحسن الدارقطني أن الوليد بن كثير سمع هذا الحديث من الرجلين جميعا ، فجاز أن يرويه عن أيهما شاء .
والثاني : أنه لو كان ذلك شكا في أحدهما ، وهما ثقتان لم يمنع من صحة الحديث : لأنه عن أيهما أسنده لزمه الأخذ به .
والسؤال الثالث : إن قالوا إن في إسناده قدحا من وجه ثالث ، وهو أنه روى تارة عن عبد الله بن عمر ، وتارة عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر .
والجواب عنه أن الواقدي سئل عن ذلك فقال عبد الله وعبيد الله أخوان ابنا عبد الله بن عمر وهما ثقتان ، وقد رويا جميعا هذا الحديث ، ولقيهما محمد بن علي بن جعفر ، وقد رواه محمد بن إسحاق عن الزهري عن سالم عن أبيه أيضا .
والسؤال الرابع : في متنه : إن قالوا والقلة اسم مشترك يتناول أشياء متغايرة فمنها الجرة التي تلقها اليد ، ومنها قلة الجبل ، ومنها قامة الرجل ، فلم يجز أن يصار إليه مع اشتراكه ، وعنه جوابان :
أحدهما : منع اشتراكه في المسميات يفيد تحديد الماء في النجاسات وهم لا يعتبرون به .
والثاني : أنه وإن كان مشتركا فلا يجوز أن يتناول إلا الأواني لأمرين أحدهما أنها أوعية الماء التي يقدر بها .
والثاني : أنها أشهر في الحكايات وأكثر عرفا في الاستعمال قال حميد بن معمر : فظللنا بنعمة واتكأنا 206 وشربنا الحلال من قلله وقال الأخطل : [ ص: 329 ]
يمشون حول مكدم قد كدحت متنيه حمل حناتم وقلال
والسؤال الخامس : أن اسم القلة ، وإن كان متناولا للأواني ، فقد يتناول صغارها وكبارها فيتناول الكوز : لأنه يقل بالأصابع ، ويتناول الجرة : لأنها تقل باليد ، ويتناول الحب : لأنه يقل بالكتف ، وما كان مختلف القدر ، لم يجز أن يجعل حدا وعن هذا جوابان :
أحدهما : أنه لما جعله مقدارا بعد ومنها دل على أنه أشار إلى أكثرها : لأنه لا فائدة في تقديره بقلتين صغيرتين ، وهو مقدر على تقديره بواحدة كبيرة .
والجواب الثاني : أنه قد ميز ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم : " بقلال هجر " ورواه محمد بن إسحاق عن المغيرة بن سقلاب .
والسؤال السادس : قالوا : فهو وإن يتناول قلالا متميزة من قلال هجر ، فقد جاء الحديث مختلفا في العدد فروي " إذا كان الماء قلتين " وروي " إذا كان ثلاثا " وروي " إذا كان أربعين قلة " فكيف لكم أن تستعملوا حديث القلتين وتسقطوا ما سواه من العدد .
والجواب عنه من وجهين :
أحدهما : أن حديث الأربعين قلة رواه محمد بن المنكدر عن عبد الله بن عمرو بن العاص موقوفا عليه فلم يؤخذ به ، وحديث الثلاثة القلال تفرد به بعض أصحاب حماد بن سلمة . عن عاصم بن المنذر وشك في قلتين أو ثلاث وسائر أصحاب حماد رووا قلتين من غير شك في ثلاث وهكذا من رواه من غير هذا الطريق بإسناد صحيح ، والنقلة الثقات لم يشكوا فيها فلم يجز أن يكون شك لواحد معارضا ليقين الجمع الكثير .
والجواب الثاني : أن يجمع بين الأخبار كلها وتستعمل على وجه يصح ، ولا يكون فيه تعارض فيكون القلتان محمولا على قلال هجر ، كما جاء فيه النص ، والثلاث على قلال أصغر منها فتسع قلتين من قلال هجر ، والأربعون قلة على صغارها التي تقل باليد تكون بقدر قلتين من قلال هجر .
[ ص: 330 ] والسؤال السابع : إن قالوا : تسليم الحديث على لفظه في القلتين يمنع من الاستدلال به ، والتعلق بظاهر لفظه لقوله لم يحمل خبثا يعني أنه يضعف عن احتمال الخبث ، كما يقال هذا الخل لا [ يحمل ] الماء لضعفه عنه ، وهذا الطعام ، لا يحمل الغش يعني أنه يضعف عنه ، ويفسد به ، وهذا الرجل لا يحمل هذا المتاع إذا عجز عنه ، وعنه ثلاثة أوجه من الجواب :
أحدها : إن هذا التأويل يمنع أن يكون لتحديد القلتين فائدة ، وهذا فاسد .
والثاني : أنه قد روي في أكثر الأخبار لم ينجس ، وهذا صريح لا تأويل عليه .
والثالث : أن معنى قوله لم يحمل خبثا أي لم يقبل خبثا كقوله تعالى : مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا [ الجمعة : 5 ] أي لم يقبلوها ولم يلتزموا حكمها ، فسلم الحديث من الاعتراض بهذه الأسئلة وصح الاحتجاج به على كل مخالف .