فصل : حكم بيع النجاسات
فأما النجاسات فضربان :
أحدهما : ما كانت عينه نجسة .
والثاني : ما طرأت عليه النجاسة وجاورته .
فأما ما كان نجس العين كالخمر والميتة والدم والأرواث والأبوال ، فلا يجوز بيع شيء منها .
وجوز أبو حنيفة وقد مضى الكلام معه في كتاب الطهارة ، وجوز أيضا بيع السرجين وروث ما يؤكل لحمه : استدلالا بأنه فعل الأمصار في سالف الأعصار من غير إنكار ، فلولا إباحته باتفاقهم لأنكروه أو بعضهم . بيع جلد الميتة ،
ولأن ما جاز الانتفاع به من غير ضرورة جاز بيعه كسائر الأموال ، ودليلنا رواية ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " اليهود ثلاثا ، إن الله حرم عليهم الشحوم فباعوها فأكلوا أثمانها ، وإن الله تعالى إذا حرم على قوم شيئا حرم عليهم ثمنه " . قاتل الله
ولأنه نجس العين فوجب أن لا يجوز بيعه كالميتة والخنزير : ولأنه رجيع نجس ، فوجب أن لا يجوز بيعه كالعذرة .
[ ص: 384 ] وأما استدلالهم بأنه فعل أهل الأمصار من غير مانع ولا إنكار ، فهذا إنما يفعله جهال الناس وأرذالهم ، فلم يكن فعلهم حجة على من سواهم .
على أن ما ظهر من الأفعال لا يدل عند أبي حنيفة على الاعتقاد : لأن جميع الناس في جميع الأعصار يعطون أجرة المعلم ، يفعله العالم الفاضل ، ويأخذه العالم الفاضل ، وليس ذلك عنده حجة في جواز أخذ أجرة التعليم ، فكيف يجعل هاهنا فعل جهال الناس حجة علينا . وأما قياسه بعلة أنه منتفع به فمنتقض بالحر ، والوقف ، وأم الولد ، ثم المعنى في الأصل أنه طاهر منتفع به . فهذا الكلام فيما كان نجس العين .
وأما فهو على ثلاثة أضرب : ما طرأت عليه النجاسة وجاورته فنجس بها ؛
أحدها : ضرب يصح غسله ، وضرب لا يصح غسله ، وضرب مختلف في صحة غسله .
فأما ما يصح غسله كالثياب والأواني والحبوب وجميع النجاسات التي لا تذوب بملاقاة الماء فغسله من النجاسة ممكن ، وبيعه قبل غسله جائز : لأن العين طاهرة ، والانتفاع بها ممكن ، وإزالة ما جاورها من النجاسة متأت .
وأما ما لا يصح غسله كالسكر والعسل والدهن وسائر ما إذا لاقاه الماء ذاب فيه ، والخل ، فغسله لا يمكن وبيعه مع نجاسته باطل ، ويكون حكمه في بطلان البيع حكم ما كان نجس العين .
وأما المختلف في صحة غسله : فالأدهان كلها اختلفوا في جواز غسلها .
فمذهب الشافعي أن غسلها لا يجوز ولا يمكن ، وبيعها إذا نجست باطل .
وقال أبو حنيفة : غسلها ممكن ، وبيعها قبل الغسل جائز : استدلالا بأنها نجاسة مجاورة يمكن إزالتها فجاز بيعها معها كالثوب .
ولأنه مائع يجوز الاستصباح به فجاز بيعه كالدهن الطاهر .
ودليلنا حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال : " وإن الله تعالى إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه .
وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الفأرة تقع في السمن ، فقال : إن كان جامدا فألقوها وما حولها ، وإن كان ذائبا فأريقوه .
فلو جاز بيعه لمنع من إراقته فصار كالخمر المأمور بإراقته .
وتحريره : أنه مائع نجس فلم يجز بيعه كالخمر .
وأما قياسهم على الطاهر فلا يصح : لاختلافهما فيما يمنع من تساوي حكمهما . فأما ادعاؤهم إمكان الغسل فمذهب الشافعي وما عليه جمهور أصحابه أن ذلك غير ممكن ؛ لتعذر [ ص: 385 ] اختلاطه بالماء ، والغسل إنما يصح فيما يختلط بالماء فيصل إلى جميع أجزائه ، أو يجاوز الماء جميع أجزائه ، وهذا متعذر في الدهن : لأنه يطفو على رأس الماء . وقال أبو العباس بن سريج : غسل الزيت ممكن ، وهو أن يراق في قلتين من ماء بأشد تحريك حتى يصل الماء إلى جميع أجزائه ، فعلى هذا خرج جواز بيعه على وجهين :
أحدهما : بيعه جائز كالثوب النجس .
والثاني : باطل بخلاف الثوب ، وليس كل ما أفضى إلى الطهارة في الحال الثانية جاز بيعه كجلد الميتة . وهكذا من ذهب إلى هذا القول حرم بيع الماء النجس الذي يطهر بالمكاثرة ؛ على وجهين .