الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي ، رحمه الله تعالى : " ولا يجمع في مصر وإن عظم وكثرت مساجده إلا في مسجد واحد منها " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال . لا تنعقد جمعتان في مصر ، ولا يجوز إقامتها إلا في مسجد واحد ، وهو قول مالك وأبي حنيفة .

                                                                                                                                            وقال أبو يوسف : إذا كان البلد حارتين انعقدت فيه جمعتان . وقال محمد بن الحسن : تنعقد جمعتان في كل بلد ولا تنعقد ثلاث جمع . وأجروا ذلك مجرى صلاة العيد . وهذا غلط .

                                                                                                                                            [ ص: 448 ] والدلالة على صحة ما ذهبنا إليه : أن الجمعة وشرائطها مرتبط بفعل النبي صلى الله عليه وسلم ومحدود فيه ، فلا يتجاوز حكمها عن شرطه وفعله ، فكان مما وصف به الجمعة وجعله شرطا لها أن عطل لها الجماعات وأقامها في مسجد واحد في أول الأمر ، وعند انتشار المسلمين وكثرتهم ، ثم جرى عليه الخلفاء رضي الله عنهم ، بعده ، ولو جازت في موضعين لأبان ذلك ولو مرة واحدة إما بقوله أو بفعله ؛ ولأنها لا تخلو من أحد أمرين : إما أن يصح انعقادها في كل مسجد إلحاقا بصلاة الجماعة ، أو لا يصح انعقادها إلا في مسجد واحد اختصاصا لها بتعطيل الجماعة إذ ليس أصل ثابت ترد إليه ، فلما لم يصح انعقادها في كل مسجد ثبت أنه لا يصح انعقادها إلا في مسجد واحد .

                                                                                                                                            ولأنه مصر انعقدت فيه الجمعة فوجب أن لا ينعقد فيه غيرها كالجمعة الثالثة . ولأن الله تعالى أمر بالسعي عند إقامتها ، فلو جاز إقامتها في موضعين لوجب عليه السعي إليهما ، إذ ليس أحدهم أولى بالسعي إليه من الآخر ، وسعيه إليهما مستحيل ، وإلى أحدهما غير جائز ، فدل على فساده .

                                                                                                                                            ولأن الجمعة من الأمور العامة التي شرط فيها العدد والجماعة ، فوجب أن لا تنعقد في موضعين ، كما لا تنعقد البيعة لإمامين .

                                                                                                                                            فصل : إذا ثبت ما ذكرنا فالبلاد على ثلاثة أضرب :

                                                                                                                                            أحدها : ما كان مدنا متقاربة وقرى متدانية اتصلت بنيانها واجتمعت مساكنها كبغداد ، فيجوز أن تقام فيه الجمعة في موضعين وأكثر اعتبارا بحكم أهلها ، وقد دخل الشافعي بغداد فلم ينكر ذلك عليهم .

                                                                                                                                            والضرب الثاني من البلاد : ما كان مصرا لم يضم إليه غيره ، ويمكن جميعهم إقامة الجمعة في موضع منه كالكوفة فهذا الذي لا يجوز أن تقام الجمعة في موضعين منه .

                                                                                                                                            والضرب الثالث من البلاد : ما كان مصرا لم يضم إليه غيره ولكن لا يمكن جميعهم إقامة الجمعة في موضع واحد منه لسعته وكثرة أهله كالبصرة ، فقد اختلف أصحابنا في إقامة الجمعة في موضعين منه على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : لا يجوز لما سبق من الدلالة ، ويصلي الناس إذا ضاق بهم في الشوارع والأفنية .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : قاله أبو إسحاق المروزي وأفتى به أبو إبراهيم المزني تجوز إقامة الجمعة في مواضع بحسب الحاجة الداعية إليه : لأنه لو لم يجز لأهل هذا المصر العظيم أن [ ص: 449 ] يصلوا إلا في موضع واحد لطال اتصال الصفوف ، ولخرج عن حد المتعارف ، وخفي عليه اتباع الإمام : لأن الإمام إن كبر على العادة لم يصل التكبير إلى آخرهم إلا بعد تكبيره لركن ثان ، فيلتبس عليهم التكبير ، وتختلط عليهم الصلاة ، وإن كبر وانتظر بلوغ التكبير إلى آخرهم طال الزمان ، وتفاحش الانتظار ، فدعت الضرورة إلى إقامتها في مواضع . فزعم بعض البصريين أن الجوين غير البصرة ، وأنها كانت في الأصل دسكرة وأضيفت إلى البصرة وإن كان ذلك جاز إقامة الجمعة بها وجها واحدا والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية