الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " وأيها جمع فيه فبدأ بها بعد الزوال فهي الجمعة وما بعدها فإنما هي ظهر يصلونها أربعا : لأن النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده صلوا في مسجده ، وحول المدينة مساجد لا نعلم أحدا منهم جمع إلا فيه ، ولو جاز في مسجدين لجاز في مساجد العشائر " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال .

                                                                                                                                            إذا أقيمت جمعتان في مصر واحد قد منع أهله من إقامة جمعتين فيه فلهما حالان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن تتفق أوصافهما . والثاني : أن تختلف .

                                                                                                                                            فإن اتفقت أوصافهما فكانا سواء في الكثرة ، وإذن السلطان ، أو حضور نائب عنه ، أو لم يأذن لهم السلطان ، ولا حضر من ينوب عنه ، فهما حينئذ في الأوصاف سواء ، فيعتبر السبق ، ولا يخلو حالهما في السبق من أربعة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن يكونا فيه سواء .

                                                                                                                                            والثاني : أن يسبق أحدهما الآخر فيتعين .

                                                                                                                                            والثالث : أن يعلم أن أحدهم قد سبق وقد أشكل .

                                                                                                                                            والرابع : أن لا يعلم هل صليا معا أو كان أحدهم أسبق .

                                                                                                                                            فالقسم الأول : أن يستويا فلا يسبق أحدهما الآخر : فقد بطلت الجمعتان معا ، وعليهم إقامة الجمعة قولا واحدا لا يختلف ، وإنما بطلتا معا لأنه لما صح إقامتها ولم يكن أحدهما أولى من الآخر أبطلناهما معا ، كمن تزوج أختين في حاله .

                                                                                                                                            والقسم الثاني : أن يسبق أحدهما ويتعين فالجمعة للسابق ، ويعيد الآخر ظهرا أربعا : لأن انعقاد الجمعة للسابق يمنع من انعقادها للثاني ، كالوليين إذا أنكحا وسبق بالعقد أحدهما .

                                                                                                                                            والقسم الثالث : أن يسبق أحدهما ويشكل السابق منهما فعليهما جميعا إعادة الصلاة ، [ ص: 450 ] وقال المزني : لا إعادة عليهما لحصول الجمعة لهما في الظاهر ، فلم يجز إبطالها بالشك الطارئ وهذا خطأ : لأن اليقين ثبوت الجمعة في الذمة ، والشك طارئ في سقوطها عن الذمة ، فوجب أن يكون الفرض باقيا لا يسقط إلا بيقين .

                                                                                                                                            فإذا ثبت أن الإعادة واجبة عليهما فهل يعيدان جمعة أو ظهرا ؟ على قولين نص عليهما في كتاب الأم :

                                                                                                                                            أحدهما : عليهم إعادة الجمعة : لأن فرضها لم يسقط .

                                                                                                                                            والقول الثاني : عليهم إعادة الظهر : لأن الجمعة قد أقيمت مرة ، وليس جهلنا بأيهما الجمعة جهلا بأن فيهما جمعة ، وإذا أقيمت الجمعة مرة واحدة لم يجز إقامتها ثانية .

                                                                                                                                            والقسم الرابع : أن يشكل الأمر فيهما ، فلا يعلم هل صليا معا أو سبق أحدهما الآخر ، فعليهما جميعا إعادة الجمعة قولا واحدا ، لجواز أن يكونا قد صليا معا ، فلا تنعقد الجمعة لواحد منهما .

                                                                                                                                            فصل : وإذا اختلفت أوصافهما فكان أحدهما أعظم لحضور السلطان أو من يستنيبه فلا يخلو حالهما في السبق من أربعة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن يسبق الأعظم ثم يتلوه الأصغر : فالجمعة للأعظم السابق ، ويعيد الأصغر ظهرا أربعا .

                                                                                                                                            والقسم الثاني : أن يسبق الأصغر ثم يتلوه الأعظم ففيه قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن الجمعة للأصغر السابق ، لأن السلطان ليس بشرط في انعقادها ، فلم يكن حضوره مؤثرا ، ووجب اعتداد الجمعة للأسبق منهما ، فعلى هذا يعيد أهل الأعظم .

                                                                                                                                            والقول الثاني : أن الجمعة للأعظم وإن كان مسبوقا : لأن في تصحيح جمعة الأصغر إذا كان سابقا افتياتا على السلطان ، وتعطيلا لجمعته ، وإشكالا على الناس في قصد ما تصح به الجمعة ، ولأدى ذلك إلى إفساد الصلاة بالمبادرة إلى السبق طمعا في حصول الجمعة ، ولكان ذلك مؤديا إلى أنه لو اجتمع أربعون فأقاموا الجمعة في مسجد لا تظهر إقامتها ظهورا عاما أن يمتنع السلطان وباقي الناس من إقامتها ، فلهذه الأمور المفضية إلى الفساد وجب تصحيح جمعة الأعظم وإن كان مسبوقا .

                                                                                                                                            والقسم الثالث : أن يصلياها معا ولا يسبق أحدهما الآخر فعلى القولين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن الجمعة للأعظم وعلى أهل الأصغر أن يعيدوا ظهرا أربعا .

                                                                                                                                            والقول الثاني : أن لا جمعة لواحد منهما ، وعليهم أن يستأنفوا إقامتها فيه ثانية .

                                                                                                                                            [ ص: 451 ] القسم الرابع : أن يسبق أحدهما ويشكل : فأحد القولين الجمعة للأعظم إذا اعتبرنا حضور السلطان دون السبق . والقول الثاني : لا جمعة لواحد منهما إذا اعتبرنا السبق ، فعلى هذا تلزمهم الإعادة ، قولا واحدا لجواز أن يكونا قد صليا معا .

                                                                                                                                            فصل : فأما ما يعتبر في السبق ففيه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : وهو قول أبي إسحاق وذكره المزني في " جامعه " أن اعتبار السبق : بالإحرام ، فأيهما أحرم أولا كان سابقا وإن كان الآخر أسبق سلاما : لأن الجمعة تنعقد بالإحرام ، وإذا انعقدت به منعت من انعقاد غيرها .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أن الاعتبار بالسلام ، فأيهما سلم أولا كان سابقا وإن كان الأخير أسبق إحراما : لأن سقوط الفروض يكون بصحة الأداء ، وذلك يكون بالفراغ دون الإحرام . والأول أصح .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية