القول في الكفارات المسكوت عنها
فنقول : إن الجمهور اتفقوا على أن النسك ضربان : نسك هو سنة موكدة ، ونسك هو مرغب فيه .
فالذي هو سنة : يجب على تاركه الدم ; لأنه حج ناقص أصله المتمتع والقارن ، وروي عن أنه قال : من فاته من نسكه شيء فعليه دم ، وأما الذي هو نفل فلم يروا فيه دما ، ولكنهم اختلفوا اختلافا كثيرا في ترك نسك نسك هل فيه دم أم لا ؟ وذلك لاختلافهم فيه هل هو سنة أو نفل ؟ ابن عباس
وأما ما كان فرضا : فلا خلاف عندهم أنه لا يجبر بالدم ، وإنما يختلفون في الفعل الواحد نفسه من قبل اختلافهم هل هو فرض أم لا ؟ وأما أهل الظاهر فإنهم لا يرون دما إلا حيث ورد النص ، لتركهم القياس ، وبخاصة في العبادات .
وكذلك اتفقوا على أن ما كان من التروك مسنونا ففعل ، ففيه فدية الأذى ، وما كان مرغبا فيه فليس فيه شيء .
واختلفوا في ترك فعل لاختلافهم هل هو سنة أم لا ؟ وأهل الظاهر لا يوجبون الفدية إلا في المنصوص عليه .
[ ص: 307 ] ونحن نذكر المشهور من اختلاف الفقهاء في ترك نسك نسك - أعني : في وجوب الدم ، أو لا وجوبه من أول المناسك إلى آخرها - ، وكذلك في فعل محظور محظور .
فأول ما اختلفوا فيه من المناسك : من هل عليه دم ؟ فقال قوم : لا دم عليه . وقال قوم : عليه الدم وإن رجع ، وهو قول جاوز الميقات فلم يحرم مالك . وروي عن وابن المبارك . وقال قوم : إن رجع إليه فليس عليه دم ، وإن لم يرجع فعليه دم ، وهو قول الثوري الشافعي وأبي يوسف ومحمد ومشهور قول . وقال الثوري أبو حنيفة : إن رجع ملبيا فلا دم عليه ، وإن رجع غير ملب كان عليه الدم . وقال قوم : هو فرض ولا يجبره بالدم .
واختلفوا فيمن : فقال غسل رأسه بالخطمي مالك وأبو حنيفة : يفتدي . وقال وغيره : لا شيء عليه . الثوري
ورأى مالك أن في الحمام الفدية ، وأباحه الأكثرون وروي عن من طريق ثابت دخوله . ابن عباس
والجمهور على أنه يفتدي من لبس من المحرمين ما نهي عن لباسه .
واختلفوا فقال إذا لبس السراويل لعدم الإزار هل يفتدي أم لا ؟ مالك وأبو حنيفة : يفتدي . وقال الثوري وأحمد وأبو ثور وداود : لا شيء عليه إذا لم يجد إزارا .
وعمدة من منع : النهي المطلق . وعمدة من لم ير فيه فدية : حديث عن عمرو بن دينار جابر قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " وابن عباس " . السراويل لمن لم يجد الإزار ، والخف لمن لم يجد النعلين
واختلفوا فيمن : فقال لبس الخفين مقطوعين مع وجود النعلين مالك : عليه الفدية ، وقال أبو حنيفة : لا فدية عليه ، والقولان عن . الشافعي
واختلفوا في هل فيه فدية أم لا ؟ وقد ذكرنا كثيرا من هذه الأحكام في باب الإحرام . لبس المرأة القفازين
وكذلك اختلفوا فيمن ترك التلبية : هل عليه دم أم لا ؟ وقد تقدم .
واتفقوا على أن أنه يعيده ما دام من نكس الطواف أو نسي شوطا من أشواطه بمكة . واختلفوا إذا بلغ إلى أهله : فقال قوم منهم أبو حنيفة : يجزيه الدم ، وقال قوم : بل يعيد ويجبر ما نقصه ولا يجزيه الدم .
وكذلك اختلفوا في وجوب الدم على ، وبالوجوب قال من ترك الرمل في الأشواط ابن عباس والشافعي وأبو حنيفة وأحمد . واختلف في ذلك قول وأبو ثور مالك وأصحابه .
والخلاف في هذه الأشياء كلها مبناه على أنه هل هو سنة أم لا ؟ وقد تقدم القول في ذلك .
وتقبيل الحجر أو تقبيل يده بعد وضعها عليه إذا لم يصل الحجر عند كل من لم يوجب الدم قياسا على المتمتع إذا تركه : فيه دم .
وكذلك اختلفوا فيمن هل عليه دم أم لا ؟ فقال نسي ركعتي الطواف حتى رجع إلى بلده مالك : عليه دم . وقال : يركعهما ما دام في الحرم . وقال الثوري الشافعي وأبو حنيفة : يركعهما حيث شاء .
والذين قالوا في طواف الوداع إنه ليس بفرض اختلفوا فيمن تركه ولم تتمكن له العودة إليه هل عليه دم أم لا ؟ فقال مالك : ليس عليه شيء إلا أن يكون قريبا فيعود . وقال أبو حنيفة : عليه دم إن لم [ ص: 308 ] يعد ، وإنما يرجع عندهم ما لم يبلغ المواقيت . والثوري
وحجة من لم يره سنة مؤكدة : سقوطه عن المكي والحائض .
وعند أبي حنيفة أنه إذا لم يدخل الحجر في الطواف أعاد ما لم يخرج من مكة ، فإن خرج فعليه دم .
واختلفوا فقال هل من شرط صحة الطواف المشي فيه مع القدرة عليه ؟ مالك : هو من شرطه كالقيام في الصلاة ، فإن عجز كان كصلاة القاعد ويعيد عنده أبدا ، إلا إذا رجع إلى بلده فإن عليه دما . وقال : الركوب في الطواف جائز : " الشافعي لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف بالبيت راكبا من غير مرض ، ولكنه أحب أن يستشرف الناس إليه " .
ومن لم ير السعي واجبا فعليه فيه دم إذا انصرف إلى بلده . ومن رآه تطوعا لم يوجب فيه شيئا .
وقد تقدم اختلافهم أيضا فيمن قدم السعي على الطواف هل فيه دم إذا لم يعد حتى يخرج من مكة أم ليس فيه دم ؟
واختلفوا في وجوب الدم على عرفة قبل الغروب فقال من دفع من الشافعي وأحمد : إن عاد فدفع بعد غروب الشمس فلا دم عليه ، وإن لم يرجع حتى طلع الفجر وجب عليه الدم . وقال أبو حنيفة : عليه الدم رجع أو لم يرجع . وقد تقدم هذا . والثوري
واختلفوا فيمن وقف من عرفة بعرنة ، فقال : لا حج له ، وقال الشافعي مالك : عليه دم .
وسبب الاختلاف : هل النهي عن الوقوف بها من باب الحظر ، أو من باب الكراهية .
وقد ذكرنا في باب أفعال الحج إلى انقضائها كثيرا من اختلافهم فيما في تركه دم ، وما ليس فيه دم ، وإن كان الترتيب يقتضي ذكره في هذا الموضع ، والأسهل ذكره هنالك .
قال القاضي : فقد قلنا في وجوب هذه العبادة وعلى من تجب ؟ وشروط وجوبها ، ومتى تجب ؟ وهي التي تجري مجرى المقدمات لمعرفة هذه العبادة ، وقلنا بعد ذلك في زمان هذه العبادة ، ومكانها ، ومحظوراتها وما اشتملت عليه أيضا من الأفعال في مكان مكان من أماكنها ، وزمان زمان من أزمنتها الجزئية إلى انقضاء زمانها ، ثم قلنا في أحكام التحلل الواقع في هذه العبادة ، وما يقبل من ذلك الإصلاح بالكفارات ، وما لا يقبل الإصلاح بل يوجب الإعادة ، وقلنا أيضا في حكم الإعادة بحسب موجباتها . وفي هذا الباب يدخل من شرع فيها فأحصر بمرض أو عدو أو غير ذلك ، والذي بقي من أفعال هذه العبادة هو القول في الهدي ، وذلك أن هذا النوع من العبادات هو جزء من هذه العبادة ، وهو مما ينبغي أن يفرد بالنظر فلنقل فيه :