القول في الهدي
فنقول : إن النظر في الهدي يشتمل على معرفة وجوبه ، وعلى معرفة جنسه ، وعلى معرفة سنه ، وكيفية سوقه ، ومن أين يساق ؟ وإلى أين ينتهي بسوقه - وهو موضع نحره ؟ وحكم لحمه بعد النحر . فنقول : إنهم قد أجمعوا على أن الهدي المسوق في هذه العبادة منه واجب ، ومنه تطوع : فالواجب منه ما هو واجب بالنذر ، ومنه ما هو واجب في بعض أنواع هذه العبادة ، ومنه ما هو واجب لأنه كفارة .
[ ص: 309 ] فأما ما هو واجب في بعض أنواع هذه العبادة فهو : هدي المتمتع باتفاق ، وهدي القارن باختلاف .
وأما الذي هو كفارة : فهدي القضاء على مذهب من يشترط فيه الهدي ، وهدي كفارة الصيد ، وهدي إلقاء الأذى والتفث ، وما أشبه ذلك من الهدي الذي قاسه الفقهاء في الإخلال بنسك نسك منها على المنصوص عليه .
فأما : فإن العلماء متفقون على أنه لا يكون الهدي إلا من الأزواج الثمانية التي نص الله عليها ، وأن الأفضل في الهدايا هي : الإبل ، ثم البقر ، ثم الغنم ، ثم المعز . وإنما اختلفوا في الضحايا . جنس الهدي
وأما الأسنان : فإنهم أجمعوا أن الثني فما فوقه يجزي منها ، وأنه لا يجزي الجذع من المعز في الضحايا والهدايا لقوله - عليه الصلاة والسلام - لأبي بردة : " " . تجزي عنك ، ولا تجزي عن أحد بعدك
واختلفوا في الجذع من الضأن ، فأكثر أهل العلم يقولون بجوازه في الهدايا والضحايا . وكان يقول : لا يجزي في الهدايا إلا الثني من كل جنس ، ولا خلاف في أن الأغلى ثمنا من الهدايا أفضل . وكان ابن عمر الزبير يقول لبنيه : يا بني لا يهدين أحدكم لله من الهدي شيئا يستحي أن يهديه لكريمه ، فإن الله أكرم الكرماء وأحق من اختير له ، " . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الرقاب وقد قيل له أيها أفضل فقال : " أغلاها ثمنا ، وأنفسها عند أهلها
وليس في عدد الهدي حد معلوم ، وكان هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة .
وأما : فهو التقليد والإشعار بأنه هدي " كيفية سوق الهدي الحديبية ، فلما كان بذي الحليفة قلد الهدي وأشعره وأحرم " . وإذا كان الهدي من الإبل والبقر فلا خلاف أنه يقلد نعلا أو نعلين ، أو ما أشبه ذلك لمن لم يجد النعال . واختلفوا في تقليد الغنم ، فقال لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج عام مالك وأبو حنيفة : لا تقلد الغنم . وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور وداود : تقلد ; لحديث عن الأعمش إبراهيم عن الأسود عن عائشة : " " . واستحبوا توجيهه إلى القبلة في حين تقليده . أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهدى إلى البيت مرة غنما فقلده
واستحب مالك الإشعار من الجانب الأيسر ، لما رواه عن نافع عن : أنه كان إذا أهدى هديا من ابن عمر المدينة قلده وأشعره بذي الحليفة ، قلده قبل أن يشعره ، وذلك في مكان واحد ، وهو موجه للقبلة ، يقلده بنعلين ، ويشعره من الشق الأيسر ، ثم يساق معه حتى يوقف به مع الناس بعرفة ، ثم يدفع به معهم إذا دفعوا ، وإذا قدم منى غداة النحر نحره قبل أن يحلق أو يقصر ، وكان هو ينحر هديه بيده يصفهن قياما ، ويوجههن للقبلة ، ثم يأكل ويطعم .
واستحب الشافعي وأحمد الإشعار من الجانب الأيمن لحديث وأبو ثور : " ابن عباس بذي الحليفة ، ثم دعا ببدنه فأشعرها من صفحة سنامها الأيمن ، ثم سلت الدم عنها ، وقلدها بنعلين ، ثم ركب راحلته ، فلما استوت على البيداء أهل بالحج " . أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر
وأما فإن من أين يساق الهدي ؟ مالكا يرى أن من سنته أن يساق من الحل ، ولذلك ذهب إلى أن من اشترى الهدي بمكة ولم يدخله من الحل أن عليه أن يقفه بعرفة ، وإن لم يفعل فعليه البدل . وأما إن كان أدخله من الحل فيستحب له أن يقفه بعرفة ، وهو قول ، وبه قال ابن عمر الليث . وقال الشافعي والثوري : وقوف الهدي وأبو ثور بعرفة سنة ، ولا حرج على من لم يقفه كان داخلا من الحل أو لم يكن . وقال أبو [ ص: 310 ] حنيفة ليس توقيف الهدي بعرفة من السنة .
وحجة مالك في إدخال الهدي من الحل إلى الحرم أن النبي - عليه الصلاة والسلام - كذلك فعل وقال : " " . وقال خذوا عني مناسككم : التعريف سنة مثل التقليد . وقال الشافعي أبو حنيفة : ليس التعريف بسنة ، وإنما فعل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن مسكنه كان خارج الحرم . وروي عن عائشة التخيير في تعريف الهدي أو لا تعريفه .
وأما : فهو البيت العتيق كما قال - تعالى - : ( محله ثم محلها إلى البيت العتيق ) وقال : ( هديا بالغ الكعبة ) . وأجمع العلماء على أن الكعبة لا يجوز لأحد فيها ذبح ، وكذلك المسجد الحرام ، وأن المعنى في قوله : ( هديا بالغ الكعبة ) أنه إنما أراد به النحر بمكة إحسانا منه لمساكينهم وفقرائهم . وكان مالك يقول : إنما المعنى في قوله : ( هديا بالغ الكعبة ) مكة ، وكان لا يجيز لمن نحر هديه في الحرم إلا أن ينحره بمكة . وقال الشافعي وأبو حنيفة : إن نحره في غير مكة من الحرم أجزأه . وقال : يجوز نحر الهدي حيث شاء المهدي إلا هدي القران وجزاء الصيد فإنهما لا ينحران إلا بالحرم . الطبري
وبالجملة : فالنحر بمنى إجماع من العلماء وفي العمرة بمكة ، إلا ما اختلفوا فيه من نحر المحصر . وعند مالك إن نحر للحج بمكة والعمرة بمنى أجزأه .
وحجة مالك في أنه لا يجوز النحر بالحرم إلا بمكة : قوله - صلى الله عليه وسلم - : " مكة وطرقها منحر " . واستثنى وكل فجاج مالك من ذلك هدي الفدية ، فأجاز ذبحه بغير مكة .
وأما : فإن متى ينحر مالكا قال : إن ذبح هدي التمتع أو التطوع قبل يوم النحر لم يجزه . وجوزه أبو حنيفة في التطوع . وقال : يجوز في كليهما قبل يوم النحر . الشافعي
ولا خلاف عند الجمهور أن ما عدل من الهدي بالصيام أنه يجوز حيث شاء ، لأنه لا منفعة في ذلك لا لأهل الحرم ، ولا لأهل مكة . وإنما اختلفوا في الصدقة المعدولة عن الهدي ، فجمهور العلماء على أنها لمساكين مكة والحرم ، لأنها بدل من جزاء الصيد الذي هو لهم . وقال مالك : الإطعام كالصيام يجوز بغير مكة .
وأما : فالجمهور مجمعون على أن التسمية مستحبة فيها لأنها زكاة ، ومنهم من استحب مع التسمية التكبير . صفة النحر
ويستحب للمهدي أن يلي نحر هديه بيده ، وإن استخلف جاز ، وكذلك فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هديه .
ومن سنته : أن تنحر قياما لقوله - سبحانه وتعالى - : ( فاذكروا اسم الله عليها صواف ) . وقد تكلم في صفة النحر في كتاب الذبائح .
وأما ما يجوز لصاحب الهدي من الانتفاع به وبلحمه : فإن في ذلك مسائل مشهورة :
أحدها : هل يجوز له ؟ فذهب أهل الظاهر إلى أن ركوبه جائز من ضرورة ومن غير ضرورة ، وبعضهم أوجب ذلك ، وكره جمهور فقهاء الأمصار ركوبها من غير ضرورة . ركوب الهدي الواجب أو التطوع
والحجة للجمهور : ما خرجه أبو داود عن جابر وقد سئل عن ركوب الهدي فقال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " " . ومن طريق المعنى أن الانتفاع [ ص: 311 ] بما قصد به القربة إلى الله - تعالى - منعه مفهوم من الشريعة . اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا
وحجة أهل الظاهر : ما رواه مالك عن أبي الزناد عن عن الأعرج : " أبي هريرة " . أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا يسوق بدنة فقال : اركبها ، فقال : يا رسول الله إنها هدي ، فقال : اركبها ويلك ، في الثانية ، أو في الثالثة
وأجمعوا أن هدي التطوع إذا بلغ محله أنه يأكل منه صاحبه كسائر الناس ، وأنه إذا عطب قبل أن يبلغ محله خلى بينه وبين الناس ولم يأكل منه ، وزاد داود : ولا يطعم منه شيئا أهل رفقته " لما ثبت : ناجية الأسلمي وقال له : إن عطب منها شيء فانحره ، ثم اصبغ نعليه في دمه ، وخل بينه وبين الناس " . وروي عن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث بالهدي مع هذا الحديث فزاد فيه : " ابن عباس " . وقال بهذه الزيادة ولا تأكل منه أنت ولا أهل رفقتك داود . وأبو ثور
واختلفوا فيمن يجب على من أكل منه : فقال مالك : إن أكل منه وجب عليه بدله . وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأحمد وابن حبيب من أصحاب مالك : عليه قيمة ما أكل أو أمر بأكله طعاما يتصدق به . وروي ذلك عن علي وابن مسعود وجماعة من التابعين . وابن عباس
مكة فهل بلغ محله أم لا ؟ فيه الخلاف مبني على الخلاف المتقدم هل المحل هو وما عطب في الحرم قبل أن يصل مكة أو الحرم ؟ وأما الهدي الواجب إذا عطب قبل محله فإن لصاحبه أن يأكل منه لأن عليه بدله ، ومنهم من أجاز له بيع لحمه وأن يستعين به في البدل ، وكره ذلك مالك .
واختلفوا في ، فقال الأكل من الهدي الواجب إذا بلغ محله : لا يؤكل من الهدي الواجب كله، ولحمه كله للمساكين ، وكذلك جله إن كان مجللا ، والنعل الذي قلد به . وقال الشافعي مالك : يؤكل من كل الهدي الواجب إلا جزاء الصيد ، ونذر المساكين ، وفدية الأذى . وقال أبو حنيفة : لا يؤكل من الهدي الواجب إلا هدي المتعة ، وهدي القران .
وعمدة : تشبيه جميع أصناف الهدي الواجب بالكفارة . وأما من فرق فلأنه يظهر في الهدي معنيان : أحدهما : أنه عبادة مبتدأة . والثاني : أنه كفارة ، وأحد المعنيين في بعضها أظهر ، فمن غلب شبهه بالعبادة على شبهه بالكفارة في نوع نوع من أنواع الهدي ؛ كهدي القران وهدي التمتع، وبخاصة عند من يقول إن التمتع والقران أفضل لم يشترط أن لا يأكل ، لأن هذا الهدي عنده هو فضيلة لا كفارة تدفع العقوبة . ومن غلب شبهه بالكفارة قال : لا يأكله ، لاتفاقهم على أنه لا يأكل صاحب الكفارة من الكفارة ، ولما كان هدي جزاء الصيد وفدية الأذى ظاهر من أمرهما أنهما كفارة لم يختلف هؤلاء الفقهاء في أنه لا يأكل منها . الشافعي
قال القاضي : فقد قلنا في حكم الهدي ، وفي جنسه ، وفي سنه ، وكيفية سوقه ، وشروط صحته من الزمان والمكان ، وصفة نحره ، وحكم الانتفاع به ، وذلك ما قصدناه والله الموفق للصواب .
وبتمام القول في هذا بحسب ترتيبنا تم القول في هذا الكتاب بحسب غرضنا ، ولله الشكر والحمد كثيرا على ما وفق وهدى ومن به من التمام والكمال .
وكان الفراغ منه يوم الأربعاء التاسع من جمادى الأولى الذي هو عام أربعة وثمانين وخمسمائة ، وهو جزء من كتاب المجتهد الذي وضعته منذ أزيد من عشرين عاما أو نحوها ، والحمد لله رب العالمين .
[ ص: 312 ] كان - رضي الله عنه - عزم حين تأليف الكتاب أولا ألا يثبت كتاب الحج ، ثم بدا له بعد فأثبته .