الباب الثالث
القول في أحكام القراض
والأحكام منها ما هي أحكام القراض الصحيح ، ومنها ما هي أحكام القراض الفاسد . وأحكام القراض الصحيح ، منها ما هي من موجبات العقد ( أعني : أنها تابعة لموجب العقد ، ومختلف فيها هل هي تابعة أو غير تابعة ؟ ) ، ومنها أحكام طوارئ تطرأ على العقد مما لم يكن موجبه من نفس العقد ، مثل التعدي ، والاختلاف ، وغير ذلك . ونحن نذكر من هذه الأوصاف ما اشتهر عند فقهاء الأمصار . ونبدأ من ذلك بموجبات العقد فنقول :
إنه أجمع العلماء على أن اللزوم ليس من موجبات عقد القراض ، وأن لكل واحد منهما فسخه ما لم يشرع العامل في القراض . واختلفوا إذا شرع العامل : فقال مالك : هو لازم ، وهو عقد يورث ، فإن مات وكان للمقارض بنون أمناء كانوا في القراض مثل أبيهم ، وإن لم يكونوا أمناء كان لهم أن يأتوا بأمين . وقال ، الشافعي وأبو حنيفة : لكل واحد منهم الفسخ إذا شاء ، وليس هو عقد يورث .
فمالك ألزمه بعد الشروع في العمل لما فيه من ضرر ، ورآه من العقود الموروثة . والفرقة الثانية شبهت الشروع في العمل بما بعد الشروع في العمل .
ولا خلاف بينهم أن المقارض إنما يأخذ حظه من الربح بعد أن ينض جميع رأس المال ، وأنه إن خسر ، ثم اتجر ، ثم ربح جبر الخسران من الربح .
[ ص: 591 ] واختلفوا في الرجل ، فيريد المقارض أن يجعل رأس المال بقية المال بعد الذي هلك ، هل له ذلك أم لا ؟ يدفع إلى رجل مالا قراضا فيهلك بعضه قبل أن يعمل فيه ، ثم يعمل فيه فيربح
فقال مالك ، وجمهور العلماء : إن صدقه رب المال ، أو دفع رجل مالا قراضا لرجل فهلك منه جزء قبل أن يعمل فأخبره بذلك فصدقه ، ثم قال له : يكون الباقي عندك قراضا على الشرط المتقدم لم يجز حتى يفاصله ، ويقبض منه رأس ماله وينقطع القراض الأول .
وقال ابن حبيب من أصحاب مالك : إنه يلزمه في ذلك القول ، ويكون الباقي قراضا ، وهذه المسألة هي من أحكام الطوارئ ، ولكن ذكرناها هنا لتعلقها بوقت وجوب القسمة ، وهي من أحكام العقد .
واختلفوا ؟ على ثلاثة أقوال : فقال هل للعامل نفقته من المال المقارض عليه أم لا في أشهر أقواله : لا نفقة له أصلا إلا أن يأذن له رب المال . الشافعي
وقال قوم : له نفقته ، وبه قال ، إبراهيم النخعي والحسن ، وهو أحد ما روي عن . الشافعي
وقال آخرون : له النفقة في السفر من طعامه وكسوته ، وليس له شيء في الحضر ، وبه قال مالك ، وأبو حنيفة ، ، وجمهور العلماء ، إلا أن والثوري مالكا قال : إذا كان المال يحمل ذلك . وقال : ينفق ذاهبا ، ولا ينفق راجعا . وقال الثوري الليث : يتغدى في المصر ولا يتعشى . وروي عن أن له نفقته في المرض ، والمشهور عنه مثل قول الجمهور : أن لا نفقة له في المرض . الشافعي
وحجة من لم يجزه : أن ذلك زيادة منفعة في القراض فلم يجز . أصله المنافع .
وحجة من أجازه أن عليه العمل في الصدر الأول ، ومن أجازه في الحضر شبهه بالسفر .
وأجمع علماء الأمصار على أنه لا يجوز للعامل أن يأخذ نصيبه من الربح إلا بحضرة رب المال ، وأن حضور رب المال شرط في قسمة المال ، وأخذ العامل حصته ، وأنه ليس يكفي في ذلك أن يقسمه بحضور بينة ، ولا غيرها .
القول في أحكام الطوارئ
واختلفوا إذا ، أو بعضه; فقال أخذ المقارض حصته من غير حضور رب المال ، ثم ضاع المال مالك : إن أذن له رب المال في ذلك فالعامل مصدق فيما ادعاه من الضياع . وقال ، الشافعي وأبو حنيفة ، : ما أخذ العامل يرده ويجبر به رأس المال ، ثم يقتسمان فضلا إن كان هنالك . والثوري
واختلفوا إذا : فقال هلك مال القراض بعد أن اشترى العامل به سلعة ما وقبل أن ينقده البائع مالك : البيع لازم للعامل ، ورب المال مخير إن شاء دفع قيمة السلعة مرة ثانية ، ثم تكون بينهما على ما شرطا من المقارضة ، وإن شاء تبرأ عنها .
وقال أبو حنيفة : بل يلزم ذلك الشراء رب المال شبه بالوكيل ، إلا أنه قال : يكون رأس المال في ذلك القراض الثمنين ، ولا يقتسمان الربح إلا بعد حصوله عينا ( أعني : ثمن تلك السلعة التي تلفت أولا ، والثمن الثاني الذي لزمه بعد ذلك ) .
واختلفوا في بيع العامل من رب المال بعض سلع القراض : فكره ذلك مالك ، وأجازه أبو حنيفة على الإطلاق ، وأجازه بشرط أن يكونا قد تبايعا بما لا يتغابن الناس بمثله . ووجهه ما كره من ذلك [ ص: 592 ] الشافعي مالك أن يكون يرخص له في السلعة من أجل ما قارضه ، فكأن رب المال أخذ من العامل منفعة سوى الربح الذي اشترط عليه .
ولا أعرف خلافا بين فقهاء الأمصار أنه إن تكارى العامل على السلع إلى بلد فاستغرق الكراء قيم السلع وفضل عليه فضلة أنها على العامل لا على رب المال; لأن رب المال إنما دفع ماله إليه ليتجر به ، فما كان من خسران في المال فعليه ، وكذلك ما زاد على المال واستغرقه .
واختلفوا في العامل يستدين مالا فيتجر به مع مال القراض ، فقال مالك : ذلك لا يجوز . وقال الشافعي وأبو حنيفة : ذلك جائز ، ويكون الربح بينهما على شرطهما . وحجة مالك أنه كما لا يجوز أن يستدين على المقارضة ، كذلك لا يجوز أن يأخذ دينا فيها . واختلفوا هل للعامل أن يبيع بالدين إذا لم يأمره به رب المال ؟ فقال مالك : ليس له ذلك ، فإن فعل ضمن ، وبه قال . وقال الشافعي أبو حنيفة : له ذلك . والجميع متفقون على أن العامل إنما يجب له أن يتصرف في عقد القراض ما يتصرف فيه الناس غالبا في أكثر الأحوال .
فمن رأى أن التصرف بالدين خارج عما يتصرف فيه الناس في الأغلب لم يجزه ، ومن رأى أنه مما يتصرف فيه الناس أجازه . واختلف مالك ، ، والشافعي وأبو حنيفة ، والليث في العامل يخلط ماله بمال القراض من غير إذن رب المال ، فقال : هؤلاء كلهم ما عدا مالكا : هو تعد ، ويضمن . وقال مالك : ليس بتعد .
ولم يختلف هؤلاء المشاهير من فقهاء الأمصار أنه إن دفع العامل رأس مال القراض إلى مقارض آخر أنه ضامن إن كان خسرانا ، وإن كان ربحا ، فذلك على شرطه ، ثم يكون للذي عمل شرطه على الذي دفع إليه ، فيوفيه حظه مما بقي من المال . وقال المزني عن : ليس له إلا أجرة مثله; لأنه عمل على فساد . الشافعي