تنبني على ما قبلها ، وهي أن الفتيا لا تصح من مخالف لمقتضى العلم ، وهذا وإن كان الأصوليون قد نبهوا عليه وبينوه ، فهو في كلامهم مجمل يحتمل البيان بالتفصيل المقرر في أقسام الفتيا .
فأما فتياه بالقول ، فإذا جرت أقواله على غير المشروع فلا يوثق بما يفتي به ، لإمكان جريانها كسائر أقواله على غير المشروع ، وهذا من جملة أقواله ، فيمكن جريانها على غير المشروع ، فلا يوثق بها .
وأما أفعاله ، فإذا جرت على خلاف أفعال أهل الدين والعلم ، لم يصح الاقتداء بها ، ولا جعلها أسوة في جملة أعمال السلف الصالح .
وكذلك إقراره ؛ لأنه من جملة أفعاله .
وأيضا ، فإن كل واحد من هذه الوجوه الثلاثة عائد على صاحبيه بالتأثير ، فإن المخالف بجوارحه يدل على مخالفته في قوله ، والمخالف بقوله يدل على مخالفته بجوارحه ؛ لأن الجميع يستمد من أمر واحد قلبي .
هذا بيان عدم صحة الفتيا منه على الجملة .
[ ص: 268 ] وأما على التفصيل ، فإن المفتي إذا أمر مثلا بالصمت عما لا يعني ، فإن كان صامتا عما لا يعني ففتواه صادقة ، وإن كان من الخائضين فيما لا يعني فهي غير صادقة ، وإذا دلك على الزهد في الدنيا وهو زاهد فيها صدقت فتياه ، وإن كان راغبا في الدنيا فهي كاذبة ، وإن دلك على المحافظة على الصلاة وكان محافظا عليها صدقت فتياه ، وإلا فلا .
وعلى هذا الترتيب سائر أحكام الشريعة في الأوامر ، ومثلها النواهي ، فإذا نهى عن النظر إلى الأجنبيات من النساء ، وكان في نفسه منتهيا عنها صدقت فتياه ، أو نهى عن الكذب وهو صادق اللسان ، أو عن الزنى وهو لا يزني ، أو عن التفحش وهو لا يتفحش ، أو عن مخالطة الأشرار وهو لا يخالطهم ، وما أشبه ذلك ، فهو الصادق الفتيا ، والذي يقتدى بقوله ويقتدى بفعله ، وإلا فلا ؛ لأن علامة صدق القول مطابقة الفعل ، بل هو الصدق في الحقيقة عند العلماء ، ولذلك قال تعالى : رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه [ الأحزاب : 23 ] .
وقال في ضده : ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ، إلى قوله : وبما كانوا يكذبون [ التوبة : 75 - 77 ] .
فاعتبر في الصدق مطابقة القول الفعل ، وفي الكذب مخالفته .
وقال تعالى في الثلاثة الذين خلفوا : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين [ التوبة : 119 ] .
[ ص: 269 ] وهكذا إذا أخبر العالم عن الحكم أو أمر أو نهي فإنما ذلك مشترك بينه وبين سائر المكلفين في الحقيقة ، فإن وافق صدق ، وإن خالف كذب ، فالفتيا لا تصح مع المخالفة ، وإنما تصح مع الموافقة .
وحسب الناظر من ذلك سيد البشر - صلى الله عليه وسلم - حيث كانت أفعاله مع أقواله على الوفاق والتمام ، حتى أنكر على من قال : يحل الله لرسوله ما شاء .
وحين سأله الرجل عن أمر ، فقال : إني أفعله ، فقال له : إنك لست مثلنا ، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك ، وما تأخر ، غضب - صلى الله عليه وسلم - وقال : والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله ، وأعلمكم بما أتقي .
وفي القرآن عن شعيب عليه السلام : قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها [ الأعراف : 89 ] .
وقوله : وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه [ هود : 88 ] .
[ ص: 270 ] فبينت الآية أن مخالفة القول الفعل تقتضي كذب القول ، وهو مقتضى ما تقدم في المسألة قبل هذا ، وقد قالوا في عصمة الأنبياء قبل النبوة من الجهل بالله ، وعبادة غير الله : إن ذلك لأن القلوب تنفر عمن كانت هذه سبيله ، وهذا المعنى جار من باب أولى فيما بعد النبوة بالنسبة إلى فروع الملة فضلا عن أصولها ، فإنهم لو كانوا آمرين بالمعروف ولا يفعلونه ، وناهين عن المنكر ويأتونه - عياذا بالله من ذلك - لكان ذلك أولى منفر ، وأقرب صاد عن الاتباع ، فمن كان في رتبة الوراثة لهم ، فمن حقيقة نيله الرتبة ظهور الفعل على مصداق القول .
ولما نهى عن الربا قال : وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب .
وحين وضع الدماء التي كانت في الجاهلية قال : وأول دم أضعه دمنا دم ربيعة بن الحارث .
[ ص: 271 ] وقال حين شفع له في حد السرقة : والذي نفسي بيده ، لو سرقت فاطمة بنت رسول الله لقطعت يدها .
وكله ظاهر في المحافظة على مطابقة القول الفعل بالنسبة إليه وإلى قرابته ، وأن الناس في أحكام الله سواء .
والأدلة في هذا المعنى أكثر من أن تحصى .
وقد ذم الشرع الفاعل بخلاف ما يقول ، فقال الله تعالى : أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم الآية [ البقرة : 44 ] .
وقال : يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون [ الصف : 2 - 3 ] .
[ ص: 272 ] عن جعفر بن برقان قال : سمعت ميمون بن مهران يقول : إن القاص المتكلم ينتظر المقت ، والمستمع ينتظر الرحمة ، قلت : أرأيت قول الله : يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون الآية [ الصف : 2 ] هو الرجل يقرظ نفسه ، فيقول : فعلت كذا وكذا من الخير ؟ أو هو الرجل يأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، وإن كان فيه تقصير ؟ فقال : كلاهما .
فإن قيل : إن كان كما قلت تعذر القيام بالفتوى ، وبالأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وقد قال العلماء : إنه لا يلزم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون صاحبه مؤتمرا أو منتهيا ، وإلا أدى ذلك إلى خرم الأصل ، وقد مر أن كل تكملة أدت إلى انخرام الأصل المكمل غير معتبرة ، فكذلك هنا ، ومثله الانتصاب للفتوى ، ومن الذي يوجد لا يزل ، ولا يضل ، ولا يخالف قوله فعله ، ولا سيما في الأزمنة المتأخرة البعيدة عن زمان النبوة ؟
نعم ، لا إشكال في أن من طابق قوله فعله على الإطلاق هو المستحق للتقدم في هذه المراتب ، وأما أن يقال إذا عدم ذلك لم يصح الانتصاب هذا مشكل جدا .
[ ص: 273 ] فالجواب : أن هذا السؤال غير وارد على القصد المقرر ؛ لأنا إنما تكلمنا على صحة الانتصاب والانتفاع في الوقوع لا في الحكم الشرعي ، فنحن نقول : واجب على العالم المجتهد الانتصاب والفتوى على الإطلاق ، طابق قوله فعله أم لا ، لكن الانتفاع بفتواه لا يحصل ولا يطرد إن حصل ، وذلك أنه إن كان موافقا قوله لفعله حصل الانتفاع والاقتداء به في القول والفعل معا ، أو كان مظنة للحصول ؛ لأن الفعل يصدق القول أو يكذبه ، وإن خالف فعله قوله ، فإما أن تؤديه المخالفة إلى الانحطاط عن رتبة العدالة إلى الفسق أو لا ، فإن كان الأول فلا إشكال في عدم صحة الاقتداء ، وعدم صحة الانتصاب شرعا وعادة ، ومن اقتدى به كان مخالفا مثله ، فلا فتوى في الحقيقة ولا حكم ، وإن كان الثاني صح الاقتداء به واستفتاؤه وفتواه فيما وافق دون ما خالف ، فمن المعلوم كما تقدم أنه إذا أفتاك بترك الزنا والخمر وبالمحافظة على الواجبات ، وهو في فعله على حسب فتواه لك - حصل تصديق قوله بفعله ، وإذا أفتاك بالزهد في الدنيا أو ترك مخالطة المترفين أو نحو ذلك مما لا يقدح في أصل العدالة ثم رأيته يحرص على الدنيا ، ويخالط من نهاك عن مخالطتهم - فلم يصدق القول الفعل .
هذا وإن كان الشرع قد أمرك بمتابعة قوله ، فقد نصبه الشارع أيضا ليؤخذ بقوله وفعله ؛ لأنه وارث النبي فإذا خالف فقد خالف مقتضى المرتبة ، وكذب الفعل القول لما في الجبلات من جواذب التأسي بالأفعال .
[ ص: 274 ] فعلى كل تقدير لا يصح الاقتداء ، ولا الفتوى على كمالها في الصحة ، إلا مع مطابقة القول الفعل على الإطلاق ، وقد قال أبو الأسود الدؤلي :
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك يسمع ما تقول ويقتدى
بالرأي منك وينفع التعليم لا تنه عن خلق وتأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم


