[ ص: 18 ] فصل [ الرهن مركوب ومحلوب وعلى من يركب ويحلب النفقة ]
ومن ذلك قول بعضهم : إن الحديث الصحيح - وهو قوله : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=14319nindex.php?page=treesubj&link=5618_5620الرهن مركوب ومحلوب ، وعلى الذي يركب ويحلب النفقة } - على خلاف القياس ، فإنه
nindex.php?page=treesubj&link=5618_5620جوز لغير المالك أن يركب الدابة وأن يحلبها ، وضمنه ذلك بالنفقة لا بالقيمة ، فهو مخالف للقياس من وجهين .
والصواب ما دل عليه الحديث ، وقواعد الشريعة وأصولها لا تقتضي سواه ; فإن الرهن إذا كان حيوانا فهو محترم في نفسه لحق الله سبحانه ، وللمالك فيه حق الملك ، وللمرتهن حق الوثيقة ، وقد شرع الله سبحانه الرهن مقبوضا بيد المرتهن ، فإذا كان بيده فلم يركبه ولم يحلبه ذهب نفعه باطلا ، وإن مكن صاحبه من ركوبه خرج عن يده وتوثيقه ، وإن كلف صاحبه كل وقت أن يأتي ليأخذ لبنه شق عليه غاية المشقة ، ولا سيما مع بعد المسافة ، وإن كلف المرتهن بيع اللبن وحفظ ثمنه للراهن شق عليه ; فكان مقتضى العدل والقياس ومصلحة الراهن والمرتهن والحيوان أن يستوفي المرتهن منفعة الركوب والحلب ويعوض عنهما بالنفقة ، ففي هذا جمع بين المصلحتين ، وتوفير الحقين ، فإن نفقة الحيوان واجبة على صاحبه ، والمرتهن إذا أنفق عليه أدى عنه واجبا ، وله فيه حق ، فله أن يرجع ببدله ، ومنفعة الركوب والحلب تصلح أن تكون بدلا ، فأخذها خير من أن تهدر على صاحبها باطلا ويلزم بعوض ما أنفق المرتهن .
وإن قيل للمرتهن : " لا رجوع لك " كان في ذلك إضرار به ، ولم تسمح نفسه بالنفقة على الحيوان ، فكان ما جاءت به الشريعة هو الغاية التي ما فوقها في العدل والحكمة والمصلحة شيء يختار .
فإن قيل : ففي هذا أن من أدى عن غيره واجبا فإنه يرجع ببدله ، وهذا خلاف القياس ; فإنه إلزام له بما لم يلتزمه ، ومعاوضة لم يرضى بها .
قيل : وهذا أيضا محض القياس والعدل والمصلحة ، وموجب الكتاب ، ومذهب أهل
المدينة وفقهاء الحديث أهل بلدته وأهل سنته ، فلو أدى عنه دينه أو
nindex.php?page=treesubj&link=26601_27260أنفق على من تلزمه نفقته أو افتداه من الأسر ولم ينو التبرع فله الرجوع ، وبعض أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد فرق بين قضاء الدين ونفقة القريب ; فجوز الرجوع في الدين دون نفقة القريب ، قال : لأنها لا تصير دينا .
قال
شيخنا : والصواب التسوية بين الجميع ؟ والمحققون من أصحابه سووا بينهما ، ولو افتداه من الأسر كان له مطالبته بالفداء ، وليس ذلك دينا عليه ، والقرآن يدل على هذا
[ ص: 19 ] القول ، فإن الله تعالى قال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=6فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } فأمر بإيتاء الأجر بمجرد الإرضاع ، ولم يشترط عقدا ولا إذن الأب .
وكذلك قوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=233والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } فأوجب ذلك عليه ، ولم يشترط عقدا ولا إذنا ، ونفقة الحيوان واجبة على مالكه ، والمستأجر والمرتهن له فيه حق ، فإذا أنفق عليه النفقة الواجبة على ربه كان أحق بالرجوع من الإنفاق على ولده ، فإن قال الراهن : أنا لم آذن لك في النفقة ، قال : هي واجبة عليك ، وأنا أستحق أن أطالبك بها لحفظ المرهون والمستأجر ، فإذا رضي المنفق بأن يعتاض بمنفعة الرهن وكانت نظير النفقة كان قد أحسن إلى صاحبه ، وذلك خير محض ، فلو لم يأت به النص لكان القياس يقتضيه ، وطرد هذا القياس ، أن
nindex.php?page=treesubj&link=6608_25914المودع والشريك والوكيل إذا أنفق على الحيوان واعتاض عن النفقة بالركوب والحلب جاز ذلك كالمرتهن
[ ص: 18 ] فَصْلٌ [ الرَّهْنُ مَرْكُوبٌ وَمَحْلُوبٌ وَعَلَى مَنْ يَرْكَبُ وَيَحْلِبُ النَّفَقَةُ ]
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ : إنَّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ - وَهُوَ قَوْلُهُ : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=14319nindex.php?page=treesubj&link=5618_5620الرَّهْنُ مَرْكُوبٌ وَمَحْلُوبٌ ، وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَحْلِبُ النَّفَقَةُ } - عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ، فَإِنَّهُ
nindex.php?page=treesubj&link=5618_5620جَوَّزَ لِغَيْرِ الْمَالِكِ أَنْ يَرْكَبَ الدَّابَّةَ وَأَنْ يَحْلِبَهَا ، وَضَمَّنَهُ ذَلِكَ بِالنَّفَقَةِ لَا بِالْقِيمَةِ ، فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ مِنْ وَجْهَيْنِ .
وَالصَّوَابُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ ، وَقَوَاعِدُ الشَّرِيعَةِ وَأُصُولُهَا لَا تَقْتَضِي سِوَاهُ ; فَإِنَّ الرَّهْنَ إذَا كَانَ حَيَوَانًا فَهُوَ مُحْتَرَمٌ فِي نَفْسِهِ لِحَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، وَلِلْمَالِكِ فِيهِ حَقُّ الْمِلْكِ ، وَلِلْمُرْتَهِنِ حَقُّ الْوَثِيقَةِ ، وَقَدْ شَرَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الرَّهْنَ مَقْبُوضًا بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ ، فَإِذَا كَانَ بِيَدِهِ فَلَمْ يَرْكَبْهُ وَلَمْ يَحْلِبْهُ ذَهَبَ نَفْعُهُ بَاطِلًا ، وَإِنْ مَكَّنَ صَاحِبَهُ مِنْ رُكُوبِهِ خَرَجَ عَنْ يَدِهِ وَتَوْثِيقِهِ ، وَإِنْ كَلَّفَ صَاحِبَهُ كُلَّ وَقْتٍ أَنْ يَأْتِيَ لِيَأْخُذَ لَبَنَهُ شَقَّ عَلَيْهِ غَايَةَ الْمَشَقَّةِ ، وَلَا سِيَّمَا مَعَ بُعْدِ الْمَسَافَةِ ، وَإِنْ كَلَّفَ الْمُرْتَهِنَ بَيْعَ اللَّبَنِ وَحِفْظِ ثَمَنِهِ لِلرَّاهِنِ شَقَّ عَلَيْهِ ; فَكَانَ مُقْتَضَى الْعَدْلِ وَالْقِيَاسِ وَمَصْلَحَةِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ وَالْحَيَوَانِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْمُرْتَهِنُ مَنْفَعَةَ الرُّكُوبِ وَالْحَلْبِ وَيُعَوِّضَ عَنْهُمَا بِالنَّفَقَةِ ، فَفِي هَذَا جَمْعٌ بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ ، وَتَوْفِيرُ الْحَقَّيْنِ ، فَإِنَّ نَفَقَةَ الْحَيَوَانِ وَاجِبَةٌ عَلَى صَاحِبِهِ ، وَالْمُرْتَهِنُ إذَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ أَدَّى عَنْهُ وَاجِبًا ، وَلَهُ فِيهِ حَقٌّ ، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِبَدَلِهِ ، وَمَنْفَعَةُ الرُّكُوبِ وَالْحَلْبِ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ بَدَلًا ، فَأَخْذُهَا خَيْرٌ مِنْ أَنْ تُهْدَرَ عَلَى صَاحِبِهَا بَاطِلًا وَيُلْزَمُ بِعِوَضِ مَا أَنْفَقَ الْمُرْتَهِنُ .
وَإِنْ قِيلَ لِلْمُرْتَهِنِ : " لَا رُجُوعَ لَكَ " كَانَ فِي ذَلِكَ إضْرَارٌ بِهِ ، وَلَمْ تَسْمَحْ نَفْسُهُ بِالنَّفَقَةِ عَلَى الْحَيَوَانِ ، فَكَانَ مَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ هُوَ الْغَايَةُ الَّتِي مَا فَوْقَهَا فِي الْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ شَيْءٌ يُخْتَارُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَفِي هَذَا أَنَّ مَنْ أَدَّى عَنْ غَيْرِهِ وَاجِبًا فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِبَدَلِهِ ، وَهَذَا خِلَافُ الْقِيَاسِ ; فَإِنَّهُ إلْزَامٌ لَهُ بِمَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ ، وَمُعَاوَضَةٌ لَمْ يَرْضَى بِهَا .
قِيلَ : وَهَذَا أَيْضًا مَحْضُ الْقِيَاسِ وَالْعَدْلِ وَالْمَصْلَحَةِ ، وَمُوجَبُ الْكِتَابِ ، وَمَذْهَبُ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ أَهْلِ بَلْدَتِهِ وَأَهْلِ سُنَّتِهِ ، فَلَوْ أَدَّى عَنْهُ دَيْنَهُ أَوْ
nindex.php?page=treesubj&link=26601_27260أَنْفَقَ عَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ أَوْ افْتَدَاهُ مِنْ الْأَسْرِ وَلَمْ يَنْوِ التَّبَرُّعَ فَلَهُ الرُّجُوعُ ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ
nindex.php?page=showalam&ids=12251أَحْمَدَ فَرَّقَ بَيْنَ قَضَاءِ الدَّيْنِ وَنَفَقَةِ الْقَرِيبِ ; فَجَوَّزَ الرُّجُوعَ فِي الدَّيْنِ دُونَ نَفَقَةِ الْقَرِيبِ ، قَالَ : لِأَنَّهَا لَا تَصِيرُ دَيْنًا .
قَالَ
شَيْخُنَا : وَالصَّوَابُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْجَمِيعِ ؟ وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ سَوَّوْا بَيْنَهُمَا ، وَلَوْ افْتَدَاهُ مِنْ الْأَسْرِ كَانَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ بِالْفِدَاءِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَيْهِ ، وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى هَذَا
[ ص: 19 ] الْقَوْلِ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=6فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } فَأَمَرَ بِإِيتَاءِ الْأَجْرِ بِمُجَرَّدِ الْإِرْضَاعِ ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَقْدًا وَلَا إذْنَ الْأَبِ .
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=233وَالْوَالِدَاتُ يَرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } فَأَوْجَبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَقْدًا وَلَا إذْنًا ، وَنَفَقَةُ الْحَيَوَانِ وَاجِبَةٌ عَلَى مَالِكِهِ ، وَالْمُسْتَأْجِرُ وَالْمُرْتَهِنُ لَهُ فِيهِ حَقٌّ ، فَإِذَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ النَّفَقَةَ الْوَاجِبَةَ عَلَى رَبِّهِ كَانَ أَحَقَّ بِالرُّجُوعِ مِنْ الْإِنْفَاقِ عَلَى وَلَدِهِ ، فَإِنْ قَالَ الرَّاهِنُ : أَنَا لَمْ آذَنْ لَكَ فِي النَّفَقَةِ ، قَالَ : هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَيْكَ ، وَأَنَا أَسْتَحِقُّ أَنْ أُطَالِبَكَ بِهَا لِحِفْظِ الْمَرْهُونِ وَالْمُسْتَأْجَرُ ، فَإِذَا رَضِيَ الْمُنْفِقُ بِأَنْ يَعْتَاضَ بِمَنْفَعَةِ الرَّهْنِ وَكَانَتْ نَظِيرَ النَّفَقَةِ كَانَ قَدْ أَحْسَنَ إلَى صَاحِبِهِ ، وَذَلِكَ خَيْرٌ مَحْضٌ ، فَلَوْ لَمْ يَأْتِ بِهِ النَّصُّ لَكَانَ الْقِيَاسُ يَقْتَضِيهِ ، وَطَرْدُ هَذَا الْقِيَاسِ ، أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=6608_25914الْمُودَعَ وَالشَّرِيكَ وَالْوَكِيلَ إذَا أَنْفَقَ عَلَى الْحَيَوَانِ وَاعْتَاضَ عَنْ النَّفَقَةِ بِالرُّكُوبِ وَالْحَلْبِ جَازَ ذَلِكَ كَالْمُرْتَهِنِ