الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ) : سبب نزول هذه الآية ما رواه البخاري ، عن البراء بن عازب قال : لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ، فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا ، أو سبعة عشر شهرا . وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب أن يتوجه نحو الكعبة ، فأنزل الله تعالى : ( قد نرى تقلب وجهك في السماء ) الآية . فقال : السفهاء من الناس ، وهم اليهود ، ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ، فقال الله تعالى : ( قل لله المشرق والمغرب ) الآية . ( ومناسبة هذه الآية ) لما قبلها : أن اليهود والنصارى قالوا : إن إبراهيم ومن ذكر معه كانوا يهودا ونصارى . ذكروا ذلك طعنا في الإسلام ; لأن النسخ عند اليهود باطل ، فقالوا : الانتقال عن قبلتنا باطل وسفه ، فرد الله تعالى ذلك عليهم بقوله : ( قل لله المشرق والمغرب ) الآية ، فبين ما كان هداية ، وما كان سفها . وسيقول ، ظاهر في الاستقبال ، وأنه إخبار من الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ، أنه يصدر منهم هذا القول في المستقبل ، وذلك قبل أن يؤمروا باستقبال الكعبة ، وتكون هذه الآية متقدمة في النزول على الآية المتضمنة الأمر باستقبال الكعبة ، فتكون من باب الإخبار بالشيء قبل وقوعه ، ليكون ذلك معجزا ، إذ هو إخبار بالغيب . ولتتوطن النفس على ما يرد من الأعداء ، وتستعد له ، فيكون أقل تأثيرا منه إذا فاجأ ، ولم يتقدم به علم ، وليكون الجواب مستعدا لمنكر ذلك ، وهو قوله : ( قل لله المشرق والمغرب ) . وإلى هذا القول ذهب الزمخشري وغيره . وذهب قوم إلى أنها متقدمة في التلاوة ، متأخرة في النزول ، وأنه نزل قوله : ( قد نرى تقلب وجهك ) الآية ، ثم نزل : ( سيقول السفهاء من الناس ) . نص على ذلك [ ص: 420 ] ابن عباس وغيره . ويدل على هذا ويصححه حديث البراء المتقدم ، الذي خرجه البخاري . وإذا كان كذلك ، فمعنى قوله : سيقول ، أنهم مستمرون على هذا القول ، وإن كانوا قد قالوه ، فحكمة الاستقبال أنهم ، كما صدر عنهم هذا القول في الماضي ، فهم أيضا يقولونه في المستقبل . وليس عندنا من وضع المستقبل موضع الماضي . وإن معنى سيقول : قال ، كما زعم بعضهم ; لأن ذلك لا يتأتى مع السين لبعد المجاز فيه . ولو كان عاريا من السين ، لقرب ذلك وكان يكون حكاية حال ماضية . والسفهاء : اليهود ، قاله البراء بن عازب ، ومجاهد ، وابن جبير . وأهل مكة قالوا : اشتاق محمد إلى مولده ، وعن قريب يرجع إلى دينكم ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس ، واختاره الزجاج . أو المنافقون قالوا : ذلك استهزاء بالمسلمين ، ذكره السدي ، عن ابن مسعود . وقد جرى تسمية المنافقين بالسفهاء في قوله : ( ألا إنهم هم السفهاء ) ، أو الطوائف الثلاث الذين تقدم ذكرهم من الناس . قال ابن عطية وغيره : وخص بقوله من الناس ; لأن السفه أصله الخفة ، يوصف به الجماد . قالوا : ثوب سفيه ، أي خفيف النسج والهلهلة ، ورمح سفيه : أي خفيف سريع النفوذ . ويوصف به الحيوانات غير الناس ، فلو اقتصر لاحتمل الناس وغيرهم ; لأن القول ينسب إلى الناس حقيقة ، وإلى غيرهم مجازا ، فارتفع المجاز بقوله : ( من الناس ما ولاهم ) ، أي ما صرفهم ، والضمير عائد على النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين عن قبلتهم . أضاف القبلة إليهم لأنهم كانوا استقبلوها زمنا طويلا ، فصحت الإضافة .

وأجمع المفسرون على أن هذه التولية كانت من بيت المقدس إلى الكعبة . هكذا ذكر بعض المفسرين ، وليس ذلك إجماعا ، بل قد ذهب قوم إلى أن هذه القبلة ، التي عيب التحول منها إلى غيرها هي الكعبة ، وأنه كان يصلي إليها عندما فرضت الصلاة ، لأنها قبلة أبيه إبراهيم . فلما توجه إلى بيت المقدس ، قال أهل مكة - زارين عليه وعائبين - : " ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها " ، هذا على حذف مضاف ، أي على استقبالها . والاستعلاء هنا مجاز ، وحكمته لهم لمواظبتهم على امتثال أمر الله في المحافظة على الصلوات . صارت القبلة لهم كالشيء المستعلى عليه ، الملازم دائما . وفي وصف القبلة بقوله : ( التي كانوا عليها ) ، ما يدل على تمكن استقبالها ، وديمومتهم على ذلك . والضمير في قوله : " قبلتهم " و " كانوا " ضمير المؤمنين . وقيل : يحتمل أن يكون الضمير عائدا على السفهاء ، فإنهم كانوا لا يعرفون إلا قبلة اليهود وهي إلى المغرب ، وقبلة النصارى وهي إلى المشرق ، والعرب لم يكن لهم صلاة ، فيتوجهون إلى شيء من الجهات . فلما توجه نحو الكعبة استنكروا ذلك فقالوا : كيف يتوجه إلى غير هاتين المعروفتين ؟ واختلفوا في استقبال بيت المقدس : أكان بوحي متلو ؟ أو بأمر من الله غير متلو ؟ أو بتخيير الله رسوله في النواحي ؟ فاختار بيت المقدس ، قاله الربيع ; أو باجتهاده بغير وحي ، قاله الحسن وعكرمة وأبو العالية . أقوال : الأول : عن ابن عباس ، روي عنه أنه قال : أول ما نسخ من القرآن القبلة : وكذلك اختلفوا في المدة التي صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها إلى بيت المقدس ، فقيل : ستة عشر شهرا ، أو سبعة عشر شهرا . وقيل : تسعة ، أو عشرة أشهر . وقيل : ثلاثة عشر شهرا . وقيل : من وقت فرض الخمس وائتمامه بجبريل ، إثر الإسراء ، وكان ليلة سبع عشرة من ربيع الآخر ، قبل الهجرة بسنة ، ثم هاجر في ربيع الأول ، وتمادى يصلي إلى بيت المقدس إلى رجب من سنة اثنتين . وقيل : إلى جمادى . وقيل : إلى نصف شعبان . وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى ركعتي الظهر ، فانصرف بالآخرتين إلى الكعبة ، وقد استدل بهذه الآية على جواز نسخ السنة للقرآن ، إذ صلاته إلى بيت المقدس ليس فيها قرآن ، واستدل بها أيضا على بطلان قول من يزعم أن النسخ بداء .

( قل لله المشرق والمغرب ) : الأمر متوجه للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفيه تعليم له - صلى الله عليه وسلم - كيف يبطل مقالتهم ، ورد عليهم إنكارهم . والمعنى : أن الجهات كلها لله تعالى ، [ ص: 421 ] يكلف عباده بما شاء أن يستقبل منها ، وأن تجعل قبلة . وقد تقدم الكلام على قوله : ( لله المشرق والمغرب ) ، فأغنى عن الإعادة هنا . وقد شرح المشرق ببيت المقدس ، والمغرب بالكعبة ; لأن الكعبة غربي بيت المقدس ، فيكون بالضرورة بيت المقدس شرقيها . ( يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) : أي من يشاء هدايته . وقد تقدم الكلام على ما يشبه هذه الجملة في قوله : ( اهدنا الصراط المستقيم ) ، فأغنى عن إعادته : وتقدم أن هدى يتعدى باللام وبإلى وبنفسه ، وهنا عدي بإلى . وقد اختلفوا في الصلاة التي حولت القبلة فيها ، فقيل : الصبح ، وقيل : الظهر ، وقيل : العصر . وكذلك أكثروا الكلام في الحكمة التي لأجلها كان تحويل القبلة ، بأشياء لا يقوم على صحتها دليل ، وعللوا ذلك بعلل لم يشر إليها الشرع ، ولا قاد نحوها العقل ، فتركنا نقل ذلك في كتابنا هذا ، على عادتنا في ذلك . ومن طلب للوضعيات تعاليل ، فأحرى بأن يقل صوابه ويكثر خطؤه . وأما ما نص الشرع على حكمته ، أو أشار ، أو قاد إليه النظر الصحيح ، فهو الذي لا معدل عنه ، ولا استفادة إلا منه . وقد فسر قوله : ( صراط مستقيم ) بأنه القبلة التي هي الكعبة . والظاهر أنه ملة الإسلام وشرائعه ، فالكعبة من بعض مشروعاته .

التالي السابق


الخدمات العلمية