الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : ( قال الشافعي ) : " والتيمم أن يضرب بيديه على الصعيد وهو التراب من كل أرض سبخها ومدرها وبطحائها وغيره مما يعلق باليد منه غبار ما لم تخالطه نجاسة " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال ، التيمم مختص بالتراب ذي الغبار ، ولا يجوز بما سواه من نورة أو كحل وقال أبو حنيفة يجوز التيمم بكل ما يصعد من الأرض من زرنيخ أو نورة أو كحل إذا لم تدخله صنعة آدمي مثل مسحوق الآجر وغيره ، وقال مالك يجوز التيمم بكل ما اتصل بالأرض وإن لم يكن منها كالأشجار والنبات استدلالا بقوله تعالى : فتيمموا صعيدا طيبا والصعيد هو ما تصاعد من الأرض ، وبرواية سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " جعلت لي الأرض كلها مسجدا وطهورا " فلما كان غير التراب من الأرض مساويا للتراب في كونه مسجدا اقتضى أن يكون غير التراب مساويا للتراب ، في كونه طهورا ، قالوا ولأنه جنس من الأرض فجاز التيمم به قياسا على التراب ، قالوا : ولأن الطهارة إذا وقعت بالجامد مسحا لم يختص بذلك الجنس نوعا كالاستنجاء والدباغ .

                                                                                                                                            ودليلنا قوله تعالى : فتيمموا صعيدا طيبا [ المائدة : 6 ] .

                                                                                                                                            والصعيد : اسم للتراب في اللغة ، وقد حكاه الشافعي عنهم ، وهو قدوة فيهم ، وقد سئل علي وابن مسعود عن الصعيد فقالا : هو التراب الذي يغبر يديك ، ويشهد لما فسره الشافعي ، قوله تعالى : وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا [ الكهف : 8 ] يعني أرضا لا نبات عليها ولا زرع ، فبطل أن يكون اسما لكل ما يصعد من الأرض فإن قيل : فالصعيد مشتق مما تصعد من الأرض فكان حمله على اشتقاقه أولى .

                                                                                                                                            [ ص: 238 ] قيل : وإن كان اشتقاقه من هذا فإطلاقه يتناول التراب لأن الكحل والزرنيخ لا يسمى صعيدا ، وإذا كان للاسم إطلاق واشتقاق كان حمله على إطلاقه أولى من حمله على اشتقاقه ، ألا ترى أن من حلف لا يركب دابة ، حنث بركوب الخيل ، ولم يحنث بركوب النعم ، وإن كان اسم الدابة مشتقا مما يدب .

                                                                                                                                            ثم الدليل عليه من طريق السنة ما رواه الشافعي ، عن إبراهيم بن محمد وعبد الله بن محمد بن عقيل أنه سمع محمد بن علي يقول : " سمعت عليا يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعطيت ما لا يعطى نبي من أنبياء الله نصرت بالرعب ، وأعطيت مفاتيح الأرض ، وسميت أحمد ، وجعل لي التراب طهورا ، وجعلت أمتي خير الأمم " فموضع الدليل منه أنه لو كان غير التراب طهورا له لذكره فيما من الله عليه ، وروى ابن شعيب عن أبي ذر قال : " قلت يا رسول الله أصيب أهلي وإن لم أقدر على الماء ، قال : " أصب أهلك وإن لم تقدر على الماء عشر سنين ، فإن التراب كافيك " فلما جعل اكتفاء أبي ذر في التيمم بالتراب دل على أنه لا يكتفي بغير التراب ، ومن طريق القياس أنها طهارة حكمية فوجب أن لا يقع التخيير فيما يتطهر به كالوضوء ، وإن شئت قلت : لأنها إحدى الطهارتين فلم يتخير فيها بين جنسين مختلفين كالوضوء ، ولأنه جوهر مستودع في الأرض فلم يجز التيمم به كالفضة والذهب ، ولأن الطهارة تتنوع نوعين جامدا ومائعا ، ثم ثبت أنها في المائع تختص بأعم المائعات وجودا وهو الماء ، فكذلك في الجامد يجب أن تختص بأعم الجامدات وجودا وهو التراب ، ولأن الله تعالى إنما نقلنا من الماء عند عدمه وتعذره إلى ما هو أيسر وجودا وأهون فقدا ، والكحل والزرنيخ أعز في أكثر الأحوال وجودا من الماء ، فلم يجز أن ننتقل عن الأهون إلى [ ص: 239 ] الأعز ، فأما الجواب عن الآية فهو ما تقدم من الاستدلال إليها ، فأما حديث أبي هريرة ، وقوله : " وجعلت لي الأرض كلها مسجدا وطهورا " فالأرض اسم ينطلق على الطين دون الزرنيخ والكحل فلم يكن في الاسم عموم ، ولا في الظاهر دليل ، وأما قياسهم على التراب فمنتقض بالفضة والذهب ، ثم المعنى في التراب أنه أعم الجامدات وجودا كما أن الماء أعم المائعات وجودا ، وأما قياسهم على الاستنجاء والدباغ فلا يصح ، الاستنجاء عندهم ليس بواجب فلم يجز أن يجعل أصلا لواجب ، وعندنا إنه واجب وليست الأحجار مزيلة لنجاسته فاستوى في تحقيقها سائر الجامدات ، وأما الدباغ فليست عبادة فلم يجز أن يجعل أصلا لعبادة ، ثم المعنى في الدباغ تنشيف الفضول وتطييب الرائحة فاستوى حكم ما أثر ذلك فيها ، والتيمم طهارة حكمية فألحقت بجنسها من الأحداث كلها .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية