الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وقد انجر ) في غضون تفسير هذه السورة الكريمة من علم البيان فوائد كثيرة لا يهتدي إلى استخراجها إلا من كان توغل في فهم لسان العرب ، ورزق الحظ الوافر من علم الأدب ، وكان عالما بافتنان الكلام ، قادرا على إنشاء النثار البديع والنظام . وأما من لا اطلاع له على كلام العرب ، وجسا طبعه حتى عن الفقرة الواحدة من الأدب ، فسمعه عن هذا الفن مسدود ، وذهنه بمعزل عن هذا المقصود . قالوا : وفي هذه السورة الكريمة من أنواع الفصاحة والبلاغة أنواع : ( النوع الأول ) : حسن الافتتاح وبراعة المطلع ، فإن كان أولها بسم الله الرحمن الرحيم ، على قول من عدها منها ، فناهيك بذلك حسنا إذ كان مطلعها مفتتحا باسم الله ، وإن كان أولها الحمد لله ، فحمد الله والثناء عليه بما هو أهله ، ووصفه بما له من الصفات العلية أحسن ما افتتح به الكلام ، وقدم بين يدي النثر والنظام ، وقد تكرر الافتتاح بالحمد في كثير من السور ، والمطالع تنقسم إلى حسن وقبيح ، والحسن إلى ظاهر وخفي على ما قسم في علم البديع . ( النوع الثاني ) : المبالغة في الثناء ، وذلك لعموم أل في الحمد على التفسير الذي مر . ( النوع الثالث ) : تلوين الخطاب على قول بعضهم ، فإنه ذكر أن الحمد لله صيغته صيغة الخبر ، ومعناه الأمر ، كقوله : ( لا ريب فيه ) ومعناه النهي . ( النوع الرابع ) : الاختصاص باللام التي في لله ، إذ دلت على أن جميع المحامد مختصة به ، إذ هو مستحق لها ، وبالإضافة في ملك يوم الدين لزوال الأملاك والممالك عن سواه في ذلك اليوم ، وتفرده فيه بالملك والملك ، قال تعالى : ( لمن الملك اليوم ) ، ولأنه لا مجازي في ذلك اليوم على الأعمال سواه . ( النوع الخامس ) : الحذف ، وهو على قراءة من نصب الحمد ظاهر ، وتقدم ، هل يقدر من لفظ الحمد أو من غير لفظه ؟ قال بعضهم : ومنه حذف العامل الذي هو في الحقيقة خبر عن الحمد ، وهو الذي يقدر بكائن أو مستقر ، قال : ومنه حذف صراط من قوله غير المغضوب ، التقدير غير صراط المغضوب عليهم ، وغير صراط الضالين ، وحذف سورة إن قدرنا العامل في الحمد إذا نصبناه ، اذكروا أو اقرءوا ، فتقديره اقرءوا سورة الحمد ، وأما من قيد الرحمن والرحيم ونعبد ونستعين وأنعمت والمغضوب عليهم والضالين ، فيكون عنده في سورة محذوفات كثيرة . ( النوع السادس ) : التقديم والتأخير ، وهو في قوله نعبد ، ونستعين ، والمغضوب عليهم ، والضالين ، وتقدم الكلام على ذلك . ( النوع السابع ) : التفسير ، ويسمى التصريح بعد الإبهام ، وذلك في بدل ( صراط الذين ) من ( الصراط المستقيم ) . ( النوع الثامن ) : الالتفات ، وهو في إياك نعبد وإياك نستعين ، اهدنا . ( النوع التاسع ) : طلب الشيء ، وليس المراد حصوله بل دوامه ، وذلك في اهدنا . ( النوع العاشر ) : سرد الصفات لبيان خصوصية في الموصوف أو مدح أو ذم . ( النوع الحادي عشر ) : التسجيع ، وفي هذه السورة من التسجيع المتوازي ، وهو اتفاق الكلمتين الأخيرتين في الوزن والروي ، قوله تعالى : ( الرحمن الرحيم ) ، ( اهدنا الصراط المستقيم ) ، وقوله تعالى : ( نستعين ) ، ( ولا الضالين ) . انقضى كلامنا على تفسير الفاتحة . وكره الحسن أن يقال لها أم الكتاب ، وكره ابن سيرين أن يقال لها أم القرآن ، وجوزه الجمهور . والإجماع على أنها سبع آيات إلا ما شذ فيه من لا يعتبر خلافه . عد الجمهور المكيون والكوفيون ( بسم الله الرحمن الرحيم ) آية ، ولم يعدوا ( أنعمت عليهم ) وسائر العادين ومنهم ابن كثير من قراء مكة والكوفة لم يعدوها آية ، وعدوا ( صراط الذين أنعمت عليهم ) آية ، وشذ عمرو بن عبيد فجعل آية ( إياك نعبد ) فهي على عده ثمان آيات ، وشذ حسين الجعفي فزعم أنها ست آيات . قال ابن عطية : وقول الله - تعالى - : ( ولقد آتيناك سبعا من المثاني ) هو الفصل في ذلك . ولم [ ص: 32 ] يختلفوا في أن البسملة في أول كل سورة ليست آية ، وشذ ابن المبارك فقال : إنها آية في كل سورة . ولا أدري ما الملحوظ في مقدار الآية حتى نعرف الآية من غير الآية ؟ وذكر المفسرون عدد حروف الفاتحة وذكروا سبب نزولها ما لا يعد سبب نزول ، وذكروا أحاديث في فضل ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ، الله أعلم بها . وذكروا للتسمية أيضا ما لا يعد سببا ، وذكروا أن الفاتحة تسمى الحمد ، وفاتحة الكتاب ، وأم الكتاب ، والسبع المثاني ، والواقية ، والكافية ، والشفاء ، والشافية ، والرقية ، والكنز ، والأساس ، والنور ، وسورة الصلاة ، وسورة تعليم المسألة ، وسورة المناجاة ، وسورة التفويض . وذكروا أن ما ورد من الأحاديث في فضل الفاتحة ، والكلام على هذا كله من باب التذييلات ، لا أن ذلك من علم التفسير ، إلا ما كان من تعيين مبهم أو سبب نزول أو نسخ بما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذلك يضطر إليه علم التفسير . وكذلك تكلموا على آمين ولغاتها والاختلاف في مدلولها وحكمها في الصلاة وليست من القرآن ، فلذلك أضربنا على الكلام عليها صفحا كما تركنا الكلام على الاستعاذة في أول الكتاب ، وقد أطال المفسرون كتبهم بأشياء خارجة عن علم التفسير حذفناها من كتابنا هذا إذ كان مقصودنا ما أشرنا إليه في الخطبة ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية