الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : وداود وسليمان الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      أخرج الحاكم عن وهب قال : داود بن إيشا بن عويد بن باعر من ولد يهوذا بن يعقوب وكان قصيرا أزرق قليل الشعر طاهر القلب .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير عن مرة في قوله : إذ يحكمان في الحرث قال : كان [ ص: 319 ] الحرث نبتا فنفشت فيه ليلا، فاختصموا فيه إلى داود، فقضى بالغنم لأصحاب الحرث، فمروا على سليمان فذكروا ذلك له، فقال : لا، تدفع الغنم ، فيصيبون منها ويقوم هؤلاء على حرثهم، فإذا كان كما كان ردوا عليهم، فنزلت : ففهمناها سليمان .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، والحاكم ، وابن مردويه ، والبيهقي في "سننه" ، عن ابن مسعود في قوله : وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم قال : كرم قد أنبتت عناقيده فأفسدته الغنم، فقضى داود بالغنم لصاحب الكرم فقال سليمان : غير هذا يا نبي الله . قال : وما ذاك؟ قال : تدفع الكرم إلى صاحب الغنم، فيقوم عليه حتى يعود كما كان، وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم، فيصيب منها، حتى إذا عاد الكرم كما كان دفعت الكرم إلى صاحبه ودفعت الغنم إلى صاحبها . فذلك قوله : ففهمناها سليمان .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مسروق قال : الحرث الذي نفشت فيه غنم القوم، إنما كان كرما، نفشت فيه الغنم ، فلم تدع فيه ورقة ولا عنقودا من عنب إلا أكلته، فأتوا داود فأعطاهم رقابها، فقال سليمان : إن صاحب الكرم قد بقي له أصل أرضه وأصل كرمه! بل تؤخذ الغنم فيعطاها أهل الكرم، فيكون لهم لبنها وصوفها ونفعها، ويعطى أهل الغنم [ ص: 320 ] الكرم ليعمروه ويصلحوه، حتى يعود كالذي كان ليلة نفشت فيه الغنم، ثم يعطى أهل الغنم غنمهم، وأهل الكرم كرمهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس في قوله : وداود وسليمان إلى قوله : وكنا لحكمهم شاهدين يقول : كنا لما حكما شاهدين، وذلك أن رجلين دخلا على داود : أحدهما صاحب حرث، والآخر صاحب غنم، فقال صاحب الحرث : إن هذا أرسل غنمه في حرثي، فلم تبق من حرثي شيئا ، فقال له داود : اذهب فإن الغنم كلها لك ، فقضى بذلك داود، ومر صاحب الغنم بسليمان فأخبره بالذي قضى به داود، فدخل سليمان على داود فقال : يا نبي الله إن القضاء سوى الذي قضيت ، فقال : كيف؟ قال سليمان : إن الحرث لا يخفى على صاحبه ما يخرج منه في كل عام، فله من صاحب الغنم أن ينتفع من أولادها وأصوافها وأشعارها حتى يستوفي ثمن الحرث، فإن الغنم لها نسل كل عام ، فقال داود : قد أصبت القضاء كما قضيت ، ففهمها الله سليمان .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن مجاهد في الآية قال : أعطاهم داود رقاب الغنم بالحرث، وحكم سليمان بجزة الغنم وألبانها لأهل الحرث، وعليهم رعايتها، ويحرث لهم أهل الغنم حتى يكون الحرث كهيئته يوم أكل ، [ ص: 321 ] ثم يدفعونه إلى أهله ويأخذون غنمهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، عن قتادة في الآية قال : النفش بالليل، والهمل بالنهار ، وذكر لنا أن غنم القوم وقعت في زرع ليلا، فرفع ذلك إلى داود، فقضى بالغنم لأصحاب الزرع، فقال سليمان : ليس كذلك، ولكن له نسلها ورسلها وعوارضها وجزازها، حتى إذا كان من العام المقبل كهيئته يوم أكل، دفعت الغنم إلى ربها وقبض صاحب الزرع زرعه ، قال الله : ففهمناها سليمان .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، عن قتادة والزهري في الآية قالا : نفشت غنم في حرث قوم فقضى داود أن يأخذوا الغنم، ففهمها الله سليمان، فلما أخبر بقضاء داود قال : لا ولكن خذوا الغنم ولكم ما خرج من رسلها وأولادها وأصوافها إلى الحول .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة في " المصنف " ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، عن ابن عباس قال : كانت امرأة عابدة من بني إسرائيل، وكانت تبتلت، وكان لها جاريتان جميلتان، وقد تبتلت المرأة لا تريد الرجال، فقالت [ ص: 322 ] إحدى الجاريتين للأخرى : قد طال علينا هذا البلاء، أما هذه فلا تريد الرجال، ولا نزال بشر ما كنا لها، فلو أنا فضحناها فرجمت فصرنا إلى الرجال ! فأتتا ماء البيض، فأتتاها وهي ساجدة، فكشفتا عنها ثوبها ونضحتا في دبرها ماء البيض وصرختا : إنها قد بغت ، وكان من زنى فيهم حده الرجم، فرفعت إلى داود وماء البيض في ثيابها، فأراد رجمها، فقال سليمان : ائتوني بنار؛ فإنه إن كان ماء الرجال تفرق، وإن كان ماء البيض اجتمع . فأتي بنار فوضعها عليه فاجتمع، فدرأ عنها الرجم فعطف داود على سليمان فأحبه ، ثم كان بعد ذلك أصحاب الحرث وأصحاب الشاء، فقضى داود لأصحاب الحرث بالغنم، فخرجوا وخرجت الرعاة معهم الكلاب، فقال سليمان : كيف قضى بينكم؟ فأخبروه، فقال : لو وليت أمرهم، لقضيت بينهم بغير هذا القضاء . فقيل لداود : إن سليمان يقول كذا وكذا ، فدعاه فقال : كيف تقضي بينهم؟ فقال : أدفع الغنم إلى أصحاب الحرث هذا العام، فيكون لهم أولادها وسلاها وألبانها ومنافعها، ويبذر أصحاب الغنم لأصحاب الحرث حرثهم، فإذا بلغ الحرث الذي كان عليه، أخذ هؤلاء الحرث ودفعوا إلى هؤلاء الغنم .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 323 ] وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس : نفشت قال : رعت .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الطستي في مسائله ، عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق قال له : أخبرني عن قوله : نفشت قال : النفش الرعي بالليل ، قال : وهل تعرف العرب ذلك؟ قال : نعم، أما سمعت قول لبيد :


                                                                                                                                                                                                                                      بدلن بعد النفش الوجيفا وبعد طول الجرة الصريفا



                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم ، عن معمر قال : قال الزهري : النفش لا يكون إلا بالليل، والهمل بالنهار .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وأحمد ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وأبو داود ، وابن ماجه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه عن حرام بن محيصة، أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائطا فأفسدت فيه، فقضى فيه [ ص: 324 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار، وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن مردويه عن عائشة ، أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائطا لقوم فأفسدت عليهم، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال : على أهل الحائط حفظ حائطهم بالنهار، وعلى أهل المواشي حفظ مواشيهم بالليل . ثم تلا هذه الآية : وداود وسليمان الآية ، ثم قال : نفشت ليلا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة أنه قرأ ( فأفهمناها سليمان ) .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير عن الحسن قال : كان الحكم بما قضى به سليمان ولم يعنف داود في حكمه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الرزاق عن عكرمة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أهون أهل النار عذابا رجل يطأ جمرة يغلي منها دماغه . فقال أبو بكر الصديق : وما كان جرمه يا رسول الله؟ قال : كانت له ماشية يغشى بها الزرع ويؤذيه وحرم الله الزرع وما حوله غلوة سهم، فاحذروا ألا يستحت الرجل ماله في الدنيا، [ ص: 325 ] ويهلك نفسه في الآخرة .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية