الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        في " المنهاج " للإمام الحليمي أنه لا خلاف أن الإيمان ينعقد بغير القول المعروف ، وهو كلمة لا إله إلا الله ، حتى لو قال : لا إله غير الله ، أو لا إله سوى الله ، أو ما عدا الله ، أو ما من إله إلا الله ، أو لا إله إلا الرحمن ، أو لا رحمن إلا الله ، أو لا إله إلا البارئ ، أو لا بارئ إلا الله ، وأن قوله : أحمد أو أبو القاسم رسول الله ، كقوله : محمد رسول الله ، وأنه لو قال كافر : آمنت بالله ، نظر ، إن لم يكن على دين قبل ذلك ، صار مؤمنا بالله تعالى ، وإن كان يشرك بالله تعالى غيره ، لم يكن مؤمنا حتى يقول : آمنت بالله وحده وكفرت بما كنت أشرك به ، وأن قوله أسلمت لله ، أو أسلمت وجهي لله ، كقوله : آمنت بالله ، وأنه لو قيل لكافر : أسلم لله ، أو آمن بالله ، فقال : أسلمت أو آمنت ، يحتمل أن يجعل مؤمنا ، وأنه لو قال : أؤمن بالله أو أسلم لله ، فهو إيمان ، كما أن قول القائل : أقسم بالله ، يمين ، ولا يحمل على الوعد إلا أن يريده ، وأنه لو قال : الله ربي ، أو الله خالقي ، فإن لم يكن له دين قبل ذلك ، فهو إيمان ، وإن كان يقول بقدم شيء مع الله تعالى ، لم يكن مؤمنا حتى يقر بأنه لا قديم إلا الله ، وكذا الحكم لو قال : لا خالق إلا الله ، وأنه لو قال اليهودي المشبه : لا إله إلا الله ، لم يكن إسلاما حتى يتبرأ من التشبيه ويقر بأنه ليس كمثله شيء ، فإن قال مع ذلك : محمد رسول الله ، فإن كان يعلم أن محمدا صلى الله عليه وسلم ، [ ص: 84 ] جاء بنفي التشبيه ، كان مؤمنا ، وإلا فلا بد أن يتبرأ من التشبيه ، وطرد هذا التفصيل فيما إذا قال من يزعم قدم أشياء مع الله : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، حتى إذا كان يعلم أن محمدا صلى الله عليه وسلم جاء ينفي ذلك ، كان مؤمنا ، وأن الثنوي إذا قال : لا إله إلا الله ، لم يكن مؤمنا حتى يتبرأ من القول بقدم الظلمة والنور أن لا قديم إلا الله كان مؤمنا ، وأن الوثني إذا قال : لا إله إلا الله ، فإن كان يزعم أن الوثن شريك لله تعالى ، صار مؤمنا .

                                                                                                                                                                        وإن كان يرى أن الله تعالى هو الخالق ويعظم الوثن لزعمه أنه يقربه إلى الله تعالى ، لم يكن مؤمنا حتى يتبرأ من عبادة الوثن ، وأنه لو قال البرهمي وهو الموحد الجاحد للرسل : محمد رسول الله ، صار مؤمنا ، ولو أقر برسالة نبي قبل محمد صلى الله عليه وسلم ، لم يكن مؤمنا ، ويجيء فيه القول الذي حكاه البغوي في يهودي أقر بنبوة عيسى صلى الله عليه وسلم ، وأن المعطل إذا قال : محمد رسول الله ، فقد قيل يكون مؤمنا ; لأنه أثبت المرسل وإن الكافر لو قال : لا إله إلا الذي آمن به المسلمون ، صار مؤمنا .

                                                                                                                                                                        ولو قال : آمنت بالذي لا إله غيره ، أو بمن لا إله غيره ، لم يكن مؤمنا ; لأنه قد يريد الوثن ، وأنه لو قال : آمنت بالله وبمحمد ، كان مؤمنا بالله لإثباته الإله ، ولا يكون مؤمنا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم حتى يقول : بمحمد النبي ، أو بمحمد رسول الله ، وأن قوله : آمنت بمحمد النبي ، إيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقوله : آمنت بمحمد الرسول ، ليس كذلك ; لأن النبي لا يكون إلا لله تعالى ، والرسول قد يكون لغيره ، وإن الفلسفي إذا قال : أشهد أن الباري سبحانه وتعالى علة الموجودات أو مبدؤها أو سببها ، لم يكن ذلك إيمانا حتى يقر أنه مخترع لما سواه ومحدثه بعد أن لم يكن ، وأن الكافر إذا قال : لا إله [ ص: 85 ] إلا المحيي المميت ، فإن لم يك من الطبائعيين كان مؤمنا ، وإن كان منهم ، فلا حتى يقول : إلا الله ، أو إلا الباري ، أو اسما آخر لا تأويل لهم فيه ، وأن الكافر إذا قال : لا إله إلا المالك ، أو الرازق ، لم يكن مؤمنا ; لأنه قد يريد السلطان الذي يملك أمر الجند ويرتب أرزاقهم ، ولو قال : لا مالك إلا الله ، أو لا رازق إلا الله ، كان مؤمنا ، وبمثله أجاب فيما لو قال : لا إله إلا الله العزيز ، أو العظيم ، أو الحكيم ، أو الكريم ، وبالعكوس ، وأنه لو قال : لا إله إلا الله الملك الذي في السماء ، أو إلا ملك السماء ، كان مؤمنا ، قال الله تعالى : أأمنتم من في السماء .

                                                                                                                                                                        ولو قال : لا إله إلا ساكن السماء ، لم يكن مؤمنا ، وكذا لو قال : لا إله إلا الله ساكن السماء ; لأن السكون محال على الله تعالى ، وأنه لو قال : آمنت بالله إن شاء ، أو إن كان شاء بنا ، لم يكن مؤمنا ، وأنه لو قال اليهودي : أنا برئ من اليهودية ، أو نصراني : أنا بريء من النصرانية ، لم يكن مؤمنا ; لأنه ضد اليهودية غير منحصر في الإسلام ، وكذا لو قال : برئ من كل ملة تخالف الإسلام ، فليس مؤمنا ; لأنه لا ينفي التعطيل ; لأنه مخالف وليس بملة ، فإن قال : من كل ما يخالف الإسلام من دين ورأي وهوى ، كان مؤمنا ، وأنه لو قال : الإسلام حق ، لم يكن مؤمنا ; لأنه قد يقر بالحق ولا ينقاد له ، وهذا يخالف ما حكينا عن البغوي في قوله : دينكم حق ، وأنه لو قال لمعتقد ملة : أسلم ، فقال : أسلمت ، أو أنا مسلم ، لم يكن مقرا بالإسلام ; لأنه قد يسمي دينه الذي هو عليه إسلاما ، ولو قال في جوابه : أنا مسلم مثلكم ، كان مقرا بالإسلام ، ولو قيل لمعطل : أسلم ، فقال : أنا مسلم ، أو من المسلمين ، كان مقرا بالإسلام ; لأنه لا دين له يسميه إسلاما ، وقد يتوقف في هذا . وبالله التوفيق .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية