الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فأما هذه الحروف المقطعة أوائل السور ) فجمهور المفسرين على أنها حروف مركبة ومفردة ، وغيرهم يذهب إلى أنها أسماء عبر بها عن حروف المعجم التي ينطق بالألف واللام منها في نحو : قال ، والميم في نحو : ملك ، وبعضهم يقول : إنها أسماء السور ، قاله زيد بن أسلم . وقال قوم : إنها فواتح للتنبيه والاستئناف ليعلم أن الكلام الأول قد انقضى . قال مجاهد : هي في فواتح السور كما يقولون في أول الإنشاد لشهير القصائد . بل ولا بل نحا هذا النحو أبو عبيدة والأخفش . وقال الحسن : هي أسماء السور وفواتحها ، وقوم : إنها أسماء الله أقسام أقسم الله بها لشرفها وفضلها . وروي عن ابن عباس وقوم : هي حروف متفرقة دلت على معان مختلفة ، وهؤلاء اختلفوا في هذه المعاني ، فقال قوم : يتألف منها اسم الله الأعظم ، قاله علي وابن عباس ، إلا أنا لا نعرف تأليفه منها ، أو اسم ملك من ملائكته ، أو نبي من أنبيائه ، لكن جهلنا طريق التأليف . وقال سعيد بن جبير : هي أسماء الله - تعالى - مقطعة ، لو أحسن الناس تأليفها تعلموا اسم الله الأعظم . وقال قتادة : هي أسماء القرآن كالفرقان . وقال أبو العالية : ليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسماء الله - تعالى - . وقيل : هي حروف تدل على مدة الملة ، وهي حساب أبي جاد ، كما ورد في حديث حيي بن أخطب . وروي هذا عن أبي العالية وغيره . وقيل : مدة الأمم السالفة ، وقيل : مدة الدنيا . وقال أبو العالية أيضا : ليس منها حرف إلا وهو في مدة قوم وآجال آخرين . وقيل : هي إشارة إلى حروف المعجم ، كأنه قال للعرب : إنما تحديتكم بنظم من هذه الحروف التي عرفتم . وقال قطرب وغيره : هي إشارة إلى حروف المعجم ، كأنه يقول للعرب : إنما تحديتكم بنظم من هذه الحروف التي عرفتم ، فقوله : ( الم ) بمنزلة : أ ب ت ث ، ليدل بها على التسعة وعشرين حرفا . وقال قوم : هي تنبيه كما في النداء . وقال قوم : إن المشركين لما أعرضوا عن سماع القرآن بمكة نزلت ليستغربوها فيفتحون لها أسماعهم فيستمعون القرآن بعدها فتجب عليهم الحجة . وقيل : هي أمارة لأهل الكتاب أنه سينزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - كتاب في أول سور منه حروف مقطعة ، وقيل : حروف تدل على ثناء أثنى الله به على نفسه . وقال ابن عباس : ( ألم ) أنا الله أعلم ، والمراد أنا الله أرى ، و ( المص ) أنا الله أفصل . وروي عن سعيد بن جبير مثل ذلك . وروي عن ابن عباس الألف من الله ، واللام من جبريل ، والميم من محمد . وقال الأخفش : هي مبادئ كتب الله المنزلة بالألسن المختلفة ومبان من أسماء الله الحسنى وصفاته العلى وأصول كلام الأمم . وقال الربيع بن أنس : ما منها حرف إلا يتضمن أمورا كثيرة دارت فيها الألسن ، وليس فيها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه ، وليس منها حرف إلا وهو في الأبد وللأبد ، وليس منها حرف إلا في مدة قوم وآجالهم . وقال قوم : معانيها معلومة عند المتكلم بها لا يعلمها إلا هو ، ولهذا قال الصديق - رضي الله عنه - : في كتاب الله سر ، وسر الله في القرآن في الحروف التي في أوائل السور . وبه قال الشعبي . وقال سلمة بن القاسم : ما قام الوجود كله إلا بأسماء الله الباطنة والظاهرة ، وأسماء الله المعجمة الباطنة أصل لكل شيء من أمور الدنيا والآخرة ، وهي خزانة سره ومكنون علمه ، ومنها تتفرع أسماء الله كلها ، وهي التي قضى بها الأمور وأودعها أم الكتاب ، وعلى هذا حوم جماعة من القائلين [ ص: 35 ] بعلوم الحروف ، وممن تكلم في ذلك أبو الحكم بن برجان ، وله تفسير للقرآن ، والبوني وفسر القرآن ، والطائي بن العربي ، والجلالي ، وابن حمويه ، وغيرهم ، وبينهم اختلاف في ذلك . وسئل محمد بن الحنفية عن ( كهيعص ) فقال للسائل : لو أخبرت بتفسيرها لمشيت على الماء لا يواري قدميك . وقال قوم : معانيها معلومة ، ويأتي بيان كل حرف في موضعه . وقال قوم : اختص الله بعلمها نبيه - صلى الله عليه وسلم - . وقد أنكر جماعة من المتكلمين أن يكون في القرآن ما لا يفهم معناه ، فانظر إلى هذا الاختلاف المنتشر الذي لا يكاد ينضبط في تفسير هذه الحروف والكلام عليها . والذي أذهب إليه أن هذه الحروف التي في فواتح السور هو المتشابه الذي استأثر الله بعلمه ، وسائر كلامه تعالى محكم . وإلى هذا ذهب أبو محمد علي بن أحمد اليزيدي ، وهو قول الشعبي والثوري وجماعة من المحدثين ، قالوا : هي سر الله في القرآن ، وهي من المتشابه الذي انفرد الله بعلمه ، ولا يجب أن نتكلم فيها ، ولكن نؤمن بها وتمر كما جاءت . وقال الجمهور : بل يجب أن يتكلم فيها وتلتمس الفوائد التي تحتها والمعاني التي تتخرج عليها ، واختلفوا في ذلك الاختلاف الذي قدمناه . قال ابن عطية : والصواب ما قال الجمهور ، فنفسر هذه الحروف ونلتمس لها التأويل ; لأنا نجد العرب قد تكلمت بالحروف المقطعة نظما ووضعا بدل الكلمات التي الحروف منها ، كقول الشاعر :


قلت لها قفي فقالت قاف .



أراد قالت وقفت ، وكقول القائل :


بالخير خيرات وإن شرفا     ولا أريد الشر إلا أن تآ .



أراد وإن شرا فشر ، وأراد إلا أن تشاء ، والشواهد في هذا كثيرة ، فليس كونها في القرآن مما تنكره العرب في لغتها ، فينبغي إذا كان من معهود كلام العرب أن يطلب تأويله ويلتمس وجهه ، انتهى كلامه . وفرق بين ما أنشد وبين هذه الحروف . وقد أطال الزمخشري وغيره الكلام على هذه الحروف بما ليس يحصل منه كبير فائدة في علم التفسير ، ولا يقوم على كثير من دعاويه برهان . وقد تكلم المعربون على هذه الحروف فقالوا : لم تعرب حروف التهجي لأنها أسماء ما يلفظ ، فهي كالأصوات فلا تعرب إلا إذا أخبرت عنها أو عطفتها فإنك تعربها ، ويحتمل محلها الرفع على المبتدأ أو على إضمار المبتدأ ، والنصب بإضمار فعل ، والجر على إضمار حرف القسم ، هذا إذا جعلناها اسما للسور ، وأما إذا لم تكن اسما للسور فلا محل لها ; لأنها إذ ذاك كحروف المعجم أوردت مفردة من غير عامل فاقتضت أن تكون مستكنة كأسماء الأعداد ، أوردتها لمجرد العدد بغير عطف . وقد تكلم النحويون على هذه الحروف على أنها أسماء السور ، وتكلموا على ما يمكن إعرابه منها وما لا يمكن ، وعلى ما إذا أعرب فمنه ما يمنع الصرف ، ومنه ما لا يمنع الصرف ، وتفصيل ذلك في علم النحو . وقد نقل خلاف في كون هذه الحروف آية ، فقال الكوفيون : ( الم ) آية ، وكذلك هي آية في أول كل سورة ذكرت فيها ، وكذلك ( المص ) و ( طسم ) وأخواتها و ( طه ) و ( يس ) و ( حم ) وأخواتها إلا ( حم عسق ) فإنها آيتان و ( كهيعص ) آية ، وأما ( المر ) وأخواتها فليست بآية ، وكذلك ( طس ) و ( ص ) و ( ق ) و ( ن والقلم ) ، و ( ق ) و ( ص ) حروف دل كل حرف منها على كلمة ، وجعلوا الكلمة آية ، كما عدوا : ( الرحمن ) و ( مدهامتان ) آيتين . وقال البصريون وغيرهم : ليس شيء من ذلك آية . وذكر المفسرون الاقتصار على هذه الحروف في أوائل السور ، وأن ذلك الاقتصار كان لوجوه ذكروها لا يقوم على شيء منها برهان ، فتركت ذكرها . وذكروا أن التركيب من هذه الحروف انتهى إلى خمسة ، وهو : كهيعص ; لأنه أقصى ما يتركب منه الاسم المجرد . وقطع ابن القعقاع ( ألف لام ميم ) حرفا حرفا بوقفة وقفة ، وكذلك سائر حروف التهجي من الفواتح ، وبين النون من طسم ويس وعسق ونون إلا في طس تلك فإنه لم يظهر . وذلك اسم مشار بعيد ، ويصح أن يكون في قوله ( ذلك الكتاب ) على بابه فيحمل عليه ولا [ ص: 36 ] حاجة إلى إطلاقه بمعنى هذا ، كما ذهب إليه بعضهم فيكون للقريب ، فإذا حملناه على موضوعه فالمشار إليه ما نزل بمكة من القرآن ، قاله ابن كيسان وغيره ، أو التوراة والإنجيل ، قاله عكرمة ، أو ما في اللوح المحفوظ ، قاله ابن حبيب ، أو ما وعد به نبيه - صلى الله عليه وسلم - من أنه ينزل إليه كتابا لا يمحوه الماء ولا يخلق على كثرة الرد ، قاله ابن عباس ، أو الكتاب الذي وعد به يوم الميثاق ، قاله عطاء بن السائب ، أو الكتاب الذي ذكرته في التوراة والإنجيل ، قاله ابن رئاب ، أو الذي لم ينزل من القرآن ، أو البعد بالنسبة إلى الغاية التي بين المنزل والمنزل إليه ، أو ذلك إشارة إلى حروف المعجم التي تحديتكم بالنظم منها . وسمعت الأستاذ أبا جعفر بن إبراهيم بن الزبير شيخنا يقول : ذلك إشارة إلى الصراط في قوله : ( اهدنا الصراط ) ، كأنهم لما سألوا الهداية إلى الصراط المستقيم قيل لهم : ذلك الصراط الذي سألتم الهداية إليه هو الكتاب . وبهذا الذي ذكره الأستاذ تبين وجه ارتباط سورة البقرة بسورة الحمد ، وهذا القول أولى لأنه إشارة إلى شيء سبق ذكره ، لا إلى شيء لم يجر له ذكر ، وقد ركبوا وجوها من الإعراب في قوله : ( ذلك الكتاب لا ريب فيه ) . والذي نختاره منها أن قوله : ( ذلك الكتاب ) جملة مستقلة من مبتدأ وخبر ; لأنه متى أمكن حمل الكلام على غير إضمار ولا افتقار ، كان أولى أن يسلك به الإضمار والافتقار ، وهكذا تكون عادتنا في إعراب القرآن ، لا نسلك فيه إلا الحمل على أحسن الوجوه ، وأبعدها من التكلف ، وأسوغها في لسان العرب . ولسنا كمن جعل كلام الله - تعالى - كشعر امرئ القيس ، وشعر الأعشى ، يحمله جميع ما يحتمله اللفظ من وجوه الاحتمالات . فكما أن كلام الله من أفصح كلام ، فكذلك ينبغي إعرابه أن يحمل على أفصح الوجوه ، هذا على أنا إنما نذكر كثيرا مما ذكروه لينظر فيه ، فربما يظهر لبعض المتأملين ترجيح شيء منه ، فقالوا : يجوز أن يكون ذلك خبرا لمبتدأ محذوف تقديره هو ذلك الكتاب ، والكتاب صفة أو بدل أو عطف بيان ، ويحتمل أن يكون مبتدأ وما بعده خبرا . وفي موضع خبر ( الم ) و ( لا ريب ) جملة تحتمل الاستئناف ، فلا يكون لها موضع من الإعراب ، وأن تكون في موضع خبر لـ ( ذلك ) ، والكتاب صفة أو بدل أو عطف أو خبر بعد خبر ، إذا كان الكتاب خبرا ، وقلت بتعدد الأخبار التي ليست في معنى خبر واحد ، وهذا أولى بالبعد لتباين أحد الخبرين ; لأن الأول مفرد والثاني جملة ، وأن يكون في موضع نصب أي مبرأ من الريب ، وبناء ريب مع لا يدل على أنها العاملة عمل إن ، فهو في موضع نصب ولا وهو في موضع رفع بالابتداء ، فالمرفوع بعده على طريق الإسناد خبر لذلك المبتدأ فلم تعمل حالة البناء إلا النصب في الاسم فقط ، هذا مذهب سيبويه . وأما الأخفش فذلك المرفوع خبر للا ، فعملت عنده النصب والرفع ، وتقرير هذا في كتب النحو . وإذا عملت عمل إن أفادت الاستغراق فنفت هنا كل ريب ، والفتح هو قراءة الجمهور . وقرأ أبو الشعثاء : ( لا ريب فيه ) بالرفع ، وكذا قراءة زيد بن علي حيث رفع ، والمراد أيضا هنا الاستغراق ، لا من اللفظ بل من دلالة المعنى ; لأنه لا يريد نفي ريب واحد عنه ، وصار نظير من قرأ : ( فلا رفث ولا فسوق ) بالبناء والرفع ، لكن البناء يدل بلفظه على قضية العموم ، والرفع لا يدل لأنه يحتمل العموم ، ويحتمل نفي الوحدة ، لكن سياق الكلام يبين أن المراد العموم ، ورفعه على أن يكون ريب مبتدأ وفيه الخبر ، وهذا ضعيف لعدم تكرار لا ، أو يكون عملها إعمال ليس ، فيكون فيه في موضع نصب على قول الجمهور من أن لا إذا عملت عمل ليس رفعت الاسم ونصبت الخبر ، أو على مذهب من ينسب العمل لها في رفع الاسم خاصة ، وأما الخبر فمرفوع لأنها وما عملت فيه في موضع رفع بالابتداء كحالها إذا نصبت وبني الاسم معها ، وذلك في مذهب سيبويه ، وسيأتي الكلام مشبعا في ذلك عند قوله تعالى : ( فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ) ، وحمل لا في قراءة لا ريب على أنها تعمل عمل ليس ضعيف لقلة إعمال لا عمل ليس ، فلهذا كانت هذه القراءة [ ص: 37 ] ضعيفة . وقرأ الزهري وابن محيصن ومسلم بن جندب وعبيد بن عمير : فيه ، بضم الهاء ، وكذلك إليه وعليه وبه ونصله ونوله وما أشبه ذلك ، حيث وقع على الأصل . وقرأ ابن أبي إسحاق : فهو ، بضم الهاء ووصلها بواو ، وجوزوا في قوله أن يكون خبرا للا على مذهب الأخفش ، وخبرا لها مع اسمها على مذهب سيبويه ، أن يكون صفة والخبر محذوف ، وأن يكون من صلة ( ريب ) بمعنى أنه يضمر عامل من لفظ ( ريب ) فيتعلق به ، إلا أنه يكون متعلقا بنفس لا ريب ، إذ يلزم إذ ذاك إعرابه ; لأنه يصير اسم لا مطولا بمعموله نحو لا ضاربا زيدا عندنا ، والذي نختاره أن الخبر محذوف لأن الخبر في باب لا العاملة عمل إن إذا علم لم تلفظ به بنو تميم ، وكثر حذفه عند أهل الحجاز ، وهو هنا معلوم ، فأحمله على أحسن الوجوه في الإعراب ، وإدغام الباء من لا ريب في فاء فيه مروي عن أبي عمرو ، والمشهور عنه الإظهار ، وهي رواية اليزيدي عنه . وقد قرأته بالوجهين على الأستاذ أبي جعفر بن الطباع بالأندلس ، ونفي الريب يدل على نفي الماهية ، أي ليس مما يحله الريب ولا يكون فيه ، ولا يدل ذلك على نفي الارتياب لأنه قد وقع ارتياب من ناس كثيرين . فعلى ما قلناه لا يحتاج إلى حمله على نفي التعليق والمظنة ، كما حمله الزمخشري ، ولا يرد علينا قوله تعالى : ( وإن كنتم في ريب ) لاختلاف الحال والمحل ، فالحال هناك المخاطبون ، والريب هو المحل ، والحال هنا منفي ، والمحل الكتاب ، فلا تنافي بين كونهم في ريب من القرآن وكون الريب منفيا عن القرآن . وقد قيد بعضهم الريب فقال : لا ريب فيه عند المتكلم به ، وقيل : هو عموم يراد به الخصوص ، أي عند المؤمنين ، وبعضهم جعله على حذف مضاف ، أي لا سبب فيه لوضوح آياته وإحكام معانيه وصدق أخباره .

وهذه التقادير لا يحتاج إليها . واختيار الزمخشري أن فيه خبر ، وبذلك بنى عليه سؤالا وهو أن قال : هلا قدم الظرف على الريب كما قدم على القول في قوله تعالى : ( لا فيها غول ) ؟ وأجاب بأن التقديم يشعر بما يبعد عن المراد ، وهو أن كتابا غيره فيه الريب ، كما قصد في قوله : ( لا فيها غول ) تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا بأنها لا تغتال العقول كما تغتالها هي ، كأنه قيل : ليس فيها ما في غيرها من هذا العيب والنقيصة . وقد انتقل الزمخشري من دعوى الاختصاص بتقديم المفعول إلى دعواه بتقديم الخبر ، ولا نعلم أحدا يفرق بين : ليس في الدار رجل ، وليس رجل في الدار ، وعلى ما ذكر من أن خمر الجنة لا يغتال ، وقد وصفت بذلك العرب خمر الدنيا ، قال علقمة بن عبدة :


تشفي الصداع ولا يؤذيك طالبها     ولا يخالطها في الرأس تدويم .



وأبعد من ذهب إلى أن قوله : لا ريب صيغة خبر ومعناه النهي عن الريب . وجوزوا في قوله تعالى : ( هدى للمتقين ) أن يكون هدى في موضع رفع على أنه مبتدأ ، وفيه في موضع الخبر ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أي هو هدى ، أو على فيه مضمرة إذا جعلنا فيه من تمام لا ريب ، أو خبر بعد خبر فتكون قد أخبرت بالكتاب عن ذلك ، وبقوله لا ريب فيه ، ثم جاء هذا خبرا ثالثا ، أو كان الكتاب تابعا وهدى خبر ثان على ما مر في الإعراب ، أو في موضع نصب على الحال ، وبولغ بجعل المصدر حالا وصاحب الحال اسم الإشارة أو الكتاب ، والعامل فيها على هذين الوجهين معنى الإشارة أو الضمير في فيه ، والعامل ما في الظرف من الاستقرار ، وهو مشكل لأن الحال تقييد ، فيكون انتقال الريب مقيدا بالحال إذ لا ريب فيه يستقر فيه في حال كونه هدى للمتقين ، لكن يزيل الإشكال أنها حال لازمة . والأولى : جعل كل جملة مستقلة ، فذلك الكتاب جملة ، ولا ريب جملة ، وفيه هدى للمتقين جملة ، ولم يحتج إلى حرف عطف لأن بعضها آخذ بعنق بعض . فالأولى أخبرت بأن المشار إليه هو الكتاب الكامل ، كما تقول : زيد الرجل ، أي الكامل في الأوصاف ، والثانية نعت لا يكون شيء ما من ( ريب ) ، والثالثة أخبرت أن فيه الهدى للمتقين . والمجاز [ ص: 38 ] إما في " فيه هدى " ، أي استمرار هدى لأن المتقين مهتدون فصار نظير اهدنا الصراط ، وإما في المتقين أي المشارفين لاكتساب التقوى ، كقوله :


إذا ما مات ميت من تميم



والمتقي في الشريعة هو الذي يقي نفسه أن يتعاطى ما توعد عليه بعقوبة من فعل أو ترك ، وهل التقوى تتناول اجتناب الصغائر ؟ في ذلك خلاف . وجوز بعضهم أن يكون التقدير هدى للمتقين والكافرين ، فحذف لدلالة أحد الفريقين ، وخص المتقين بالذكر تشريفا لهم . ومضمون هذه الجملة على ما اخترناه من الإعراب ، الإخبار عن المشار إليه الذي هو الطريق الموصل إلى الله - تعالى - هو الكتاب أي الكامل في الكتب ، وهو المنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي قال فيه ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) ، فإذا كان جميع الأشياء فيه ، فلا كتاب أكمل منه ، وأنه نفى أن يكون فيه ريب وأنه فيه الهدى . ففي الآية الأولى الإتيان بالجملة كاملة الأجزاء حقيقة لا مجاز فيها ، وفي الثانية مجاز الحذف ; لأنا اخترنا حذف الخبر بعد لا ريب ، وفي الثانية تنزيل المعاني منزلة الأجسام ، إذ جعل القرآن ظرفا والهدى مظروفا ، فألحق المعنى بالعين ، وأتى بلفظة في التي تدل على الوعاء كأنه مشتمل على الهدى ومحتو عليه احتواء البيت على زيد في قولك : زيد في البيت .

التالي السابق


الخدمات العلمية